على ضفة نهر الزرقاء.. ذكريات ونزهات ومحميات
كان يوما نهرا هادرا، لكنه جف جزئيا ولم يبقَ منه إلا سيل بسيط. إنه نهر الزرقاء الذي أصبح لاحقا سيل الزرقاء، نسبة إلى المدينة الأقرب للعاصمة عمّان.
ينبع نهر الزرقاء (أو نهر عمّان) من أخفض نقطة في مدينة عمان، من رأس العين التي بسبب مائها سميت كذلك، ليسيل تحت شارع “سقف السيل”، متجها شرقا نحو منطقة عين غزال قبل أن يصل الزرقاء، لينحدر منها نحو مدينة جرش في طريقه إلى مكان تجمعه عند سد الملك طلال.
يقول فايز اللوزي، وهو من سكان منطقة الغباوي شرق الزرقاء: كنا في الخمسينيات نأتي على الجمال، لنملأ الماء من هذا السيل، قبل عودتنا إلى بيوتنا، لنشرب منه ونسقي مواشينا.
نهر الزرقاء.. موطن الحضارات القديمة والسباع والمزارع
يعد نهر الزرقاء ثالث أنهار الأردن طولا، بعد نهر الأردن ونهر اليرموك اللذين يقعان على الحدود الفاصلة بين الأردن وفلسطين. وهو النهر الوحيد بين المدن، وهناك سيول أخرى كثيرة تجري في مدن أردنية جنوبية، لكنها لا تسمى أنهارا.
ولأنه مورد ماء، ينبع من بين جبال مدينة عمان، فقد استوطنت حضارات كثيرة حوله، فتلك المملكة الرومانية “فيلادلفيا” التي عاشت ردحا من الزمان، وتركت خلفها المدرج الروماني وجبل القلعة وسبيل الحوريات، وغيرها من الآثار الباقية حتى يومنا هذا حول سقف السيل.
وقديما، كانت السباع والحيوانات الكاسرة ترِد النهر، وكانت التماسيح تعيش فيه، حتى سميت بعض تجمعات مائه في العهد الروماني بأم التماسيح.
يتحدث للفيلم مشهور راشد، وهو من مواليد منطقة الرصيفة حيث يسيل الوادي، فيصف إحدى الأشجار المعمرة قائلا: هذه شجرة توت زرعها والدي سنة 1946، ولا تزال تعطي أكلها إلى اليوم بسبب وفرة الماء في الأرض. ومن المؤسف أن مساحة الأرض الزراعية بعد أن كانت تزيد على 2000 دونم في المنطقة، قد انخفضت مع الزحف السكاني إلى أقل من 700 دونم، بسبب قانون البلدية الذي حوّل الأرض إلى أرض هجين زراعية سكنية، وها هو الزحف السكاني ينمو حتى لا تبقى من الأرض الخضراء سوى الذكرى.
خبز على الضفة.. عودة إلى ذكريات الطفولة حول النهر
تتحدث ناتلي ناصر -وهي ربة منزل كانت تسكن في مدينة الرصيفة- عن ذكرياتها مع نهر الزرقاء، فقد عاشت بالقرب منه، وتروي أنها كانت تلعب أيام الطفولة مع صديقاتها في الماء، فيرمين الحجارة ويغسلن ملابسهن، ثم يعدن إلى بيوتهن. وتتذكر أن أمها كانت تستيقظ صباحا، فتجمع الحطب من أجل إشعال النار، لتجهيز الخبز الطازج، ومنها تعلمت ناتلي المهارة، فما ألذ الخبز الطازج الخارج من نار “الطابون”، وما أشهى رائحته.
وتذكر ناتلي أنهم كانوا يزرعون الخبيزة والفقوس والبندورة والكثير من الخضراوات الطازجة، وأن الأغنام كانت ترعى من حشائش الأرض حول النهر، وتشرب من مائه الجاري. وأجمل من ذلك كله صوت خرير الماء في كل وقت مع هدوء الطبيعة الجميلة.
وفي مشهد مشوق تظهر ناتلي وهي تعد الخبز المشروح على الصاج فوق الحطب المشتعل، وكأن رائحته تصل إلى أنف المشاهد.
تلويث الماء.. أيدي المتنفذين تسعى لخنق النهر
يصف المهندس محمد الزواهرة -وهو ابن مدينة الزرقاء أبا عن جد- أيامه الجميلة التي عاشها على ضفاف هذا النهر، فيقول: للنهر تاريخ يمتد آلاف السنين، لكن بعض المتنفذين من ذوي المزارع في منطقة الأغوار (أراض زراعية ممتدة بين الأردن وفلسطين) وجدوا هذا النهر منافسا لهم، فكان لا بد من تدميره بطريقة ممنهجة، من خلال حفر الآبار والضخ الجائر لمائه، ثم السماح بمرور خطوط الصرف الصحي ومخلفات المصانع، كي لا يعود صالحا بعد ذلك للري. ومع الأسف فقد نجحت الخطة.
ثم يقول: نحاول اليوم بشتى الطرق إعادة تأهيل السيل والمحافظة عليه، ولا سيما تحريره من تلك المصانع التي تلقي فيه مخلفاتها الصناعية الملوثة.
فلطالما تشكل النهر من ينابيع نقية كثيرة كانت تصب فيه وتغذيه، وبعضها ما زال موجودا حتى اليوم بمائه العذب النقي الذي يستعمله المزارعون في زراعة الخضراوات الموسمية الطازجة.
نزهة النهر.. قبلة الباحثين عن الصيد والتجمع العائلي
يتحدث إلينا مجدي الرواشدة وهو أحد هواة صيد السمك، فيقول إنه كان يتوجه إلى نهر الزرقاء كي يمارس هوايته في الصيد، فقد كان هذا النهر أول نهر حقيقي يراه في حياته، وقد استهواه صيد السمك فيه، وإن بطرق بدائية.
على ضفة السيل، يقع مشتل يملكه علي عفيف، وهو حفيد أقدم المزارعين على نهر الزرقاء. ويقول: يوجد في المشتل جميع أنواع النباتات والأشجار والورود، فهو يقوم أساسا على ماء النهر الذي كان قديما نقيا، قبل أن تصب فيه المصانع مخلفاتها فتلوثه، ولذلك لم نعد نستعمل مياهه إلا لري المزروعات التي تتحمل نسبة التلوث الموجودة في الماء، مثل الزيتون والحمضيات وأزهار القطف.
ثم يقول: نهر الزرقاء هو روح الحياة، فهو سبب الزراعة والرزق ووجود الأيدي العاملة، وجوّه جميل في فصل الصيف الحار، حتى أصبح مصيفا ومتنزها لكثير من العائلات التي تحب الماء والجلوس حوله.
سد الملك طلال.. حديقة تحفظ الغطاء النباتي والتنوع الحيوي
في محطته الأخيرة، يعبر نهر الزرقاء منطقة تل الرمان، ثم يصب في سد الملك طلال، فهناك -كما يقول المهندس أيمن أبو رمان- تقع الحديقة النباتية الملكية التي تحافظ على الغطاء النباتي والتنوع الحيوي، وقد أُنشئت عام 2005، وتمتد على 2500 دونم، وفيها تُوثق كل النباتات، ويؤخذ من بذورها ما يُحفظ في بنك البذور التابع للحديقة.
تقع الحديقة على ضفة هذا السد الذي يمتد أفقه مسافة طويلة، على أطراف جبال مدينة جرش الأثرية، حيث الخضرة والأشجار والغابات.
ويقصد هذه الطبيعةَ النقية الهادئة ذات التنوع البيئي كثيرٌ من الزوار والسائحين الذين يحبون رؤية الماء والخضراء، لا سيما في فصل الصيف، حين تكثر الحشائش والأزهار وظلال الأشجار، تعلوها طيور ذات أصوات جميلة وأنواع كثيرة.