“أنا وعائلة الفهود”.. رحلة لاكتشاف الأسرار العميقة لأسرع الكائنات البرية
يسرد لنا التاريخ، أن بعض الأمم السابقة قد عهدت مهام حماية العروش الملكية إلى الفهود، تقديرا لما تبطنه أجسادها من قوة وفاعلية في الاصطياد، هذا ما دأب عليه أسلافنا في الماضي، أما الحاضر فدائما ما تكون له أقوال مغايرة. فهل احتفظ المعاصرون بمواثيق الماضي؟
في هذا السياق، انطلق مصور الحياة البرية الأسكتلندي “جوردون بوكانان”، في زيارة ميدانية للبراري والمحميات الطبيعية في جنوب أفريقيا، سعيا للوقوف على ما بقي من إرث دولة الفهود القديمة، التي لا تزال أركانها الواهية تقاوم الاندثار، فالدوريات العلمية تبث تحذيراتها المتوالية بشأن الانقراض المحتمل لهذا الحيوان.
تُرى هل يمكن لهذه البقايا المتناثرة أن تلملم شتات فرقتها، وتعيد بناء وحدتها مرة أخرى؟ أم ستطالعنا الوكالات الإخبارية بأنباء الاختفاء القسري لتلك الكائنات؟
تكمن الإجابة عن هذه الأسئلة في الفيلم الوثائقي “أنا وعائلة الفهود”، الذي عرضته الجزيرة الوثائقية على شاشتها.
“جوردون بوكانان”.. مصور مخضرم يلاحق فصائل الحيوان
يقدم المصور المخضرم “جوردون بوكانان” سجلا مهنيا حافلا، يقدر عمره الزمني بأكثر من 25 عاما، قوامها الشغف بمعايشة الحيوانات على اختلاف أنواعها وتشعب فصائلها، وهو يتخذ الفهود مادة رئيسية لفيلمه هذا، مستعرضا بعدسة كاميراته ما خفي علينا نحن البشر من معطيات سلوكية، تكشف عما لهذه الكائنات من أطياف متباينة من المشاعر المختلطة، لا تخلو من الحدود المقبولة للذكاء المعيشي، وقد ساهمت بقدر أو بآخر في إثبات معالم حضورها في حيزنا الوجودي.
لكن دوران الأزمنة وتعاقب مرورها، ينشئ على الدوام والاستمرار مصائر مختلفة عن المعهود، وتلك الدورة الزمنية تنطبق معاييرها ومعادلاتها على الفهد، فبعد سطوع زهوة السيطرة، انحسرت تلك الأضواء عنه، ثم انكمش وجوده بعد انتشار، وأصبحت تلك الرقعة الصحراوية الممتدة في العمق الأفريقي، لا تحوي سوى عائلتين من الفهود، لكل منهما نسله المحدود المهدد بالفناء بصورة دورية، لا تهدأ وتيرتها المتلاحقة.
وفي رحلة لا يقاوم سحر جاذبيتها (زمن الفيلم 50 دقيقة)، نلتقي مباشرة مع الحياة الوعرة لتلك الحيوانات الراحلة نحو الغياب، ومن بين طيات هذا اللقاء يبعث ما هو أعمق، من هذه الصورة البانورامية، أو ما يمكن أن نطلق عليه مذكرة تفسيرية تجاه الحياة، التي لا تفرق في بسط سلطان قسوتها بين الإنسان والحيوان، فالجميع سواسية، لا فرق بين هذا وذاك، إلا بالقدرة الاستيعابية على التحمل والمواجهة.
ملوك الصيد.. رحلة للقاء أسرع الكائنات في البرية
نرى في بداية الفيلم لقطة بعيدة لسيارة تعبر صحراء شاسعة الامتداد، ثم يطالعنا من داخل مقصورة القيادة المصور “جوردون بوكانان”، فيتحدث مسهبا عن أجواء رحلته في صحراء كالهاري، بحثا عن أكثر الحيوانات استثنائية -بحسب تعبيره- على كوكبنا الأرضي، ألا وهو الفهد، وحينها ننتقل لبضعة مشاهد يحكمها الفوتومونتاج، يظهر فيها الفهد أثناء ركضه المتسارع وراء إحدى فرائسه.
بهذا التتابع المشهدي، اختار الفيلم أن يبدأ دقائقه الأولى، وهي توحي بقدر من غموض المحتوى، لكن غواية جاذبيتها تحتل أيضا مكانا لا بأس به، فالمجهول يفضحه بريقه المستتر.
وفي هذه الأثناء، يمنحنا التعليق الصوتي مقدمة موجزة عن عالم الفهد، ذلك الحيوان الذي يمكنه تحقيق معدل تسارع من الصفر إلى 95 كم في الساعة، في نطاق زمني لا يتعدى إطاره ثلاث ثوان، مما جعله جديرا بلقب الكائن الأسرع في زمننا الآني.
عائلات الفهود.. خطوط سردية متوازية ترسم حبكة الفيلم
ينطلق السرد مستعرضا تضاد الصفات التي تتميز بها الفهود، وهي تجمع بين القوة والمهارة، والضعف والهشاشة في نفس الآن، وبالتوازي تتعاقب اللقطات على شريط الصورة، فيعرض بحرفية مشهدا نرى فيه بنيان الزرافة القوي، وبجوارها يقف الفهد مرتخي العضلات، بعد أن أُنهك في هجمة مرتدة، بحثا عن صيد طازج، يشبع ضجيج بطنه الجائع.
وحتى تكتمل زوايا الرؤية المتعددة الأوجه، يلجأ السرد إلى الخطوط المتوازية، فيمثل الخط الأول انطلاق المصور “بوكانان” للبحث عن الفهدة سافانا في شمال الصحراء، أما الخط السردي المقابل فيتابع باقي الفريق العلمي، وهم يبحثون بحثا مضنيا عن الفهدة الأخرى تشيلي، وهي تقبع بموازاة الحدود الجنوبية للمحمية.
وعندئذ يتفرع تلقائيا خطا سرد، لكل منهما قصة مكتملة قائمة بذاتها، لكنها تتقاطع بلا شك مع الأخرى، وبين هذا الخط وذاك، نتابع الأسلوب المعيشي والعملي لهذا المصور البارع بين ربوع الصحراء الطبيعية. وهكذا تمتزج الخطوط الثلاثة في متوالية سردية متدفقة الإيقاع ومحكمة البنيان.
عائلة سافانا.. لقاء الفهود الجائعة بعد بحث طويل
بعد إيقاع متدفق لاهث، يجد المصور “بوكانان” ضالته الأولى سافانا مختبئة بين جذوع الأشجار، تستمتع بالظلال الوارفة للأشجار، وتنظر إلى الأفق بعينين مدججتين بدلائل الجوع، وهنا يخشى المصور الاقتراب من دائرة مكوثها، لا خشية الافتراس، بل تقديرا لوحدتها.
وبعد طواف بالأحصنة وفحص دقيق لآثار الأقدام، استطاع المصور الالتقاء بباقي الأسرة بعد لأي، فوجدها مختبئة بين الكثبان الرملية، وهي مكونة من أربعة أشبال تبلغ أعمارهم 6 أشهر، أما الأم ذاتها فلا يتعدى عمرها 8 أعوام.
وبعد أن جرت وقائع اللقاء الأول بين بطلنا وتلك العائلة الفهدية، يخبرنا أن الدافع الرئيسي لهذه الرحلة، هو تجربة النمط المعيشي لهذه الكائنات التي فقدت قدرا كبيرا من سطوة قوتها خلال القرن الماضي، فالأبحاث العلمية تشير إلى أن تعدادهم الحالي لا يفوق 7 آلاف فهد، وكان عددهم يقدر فيما مضى بحدود 100 ألف كائن. فيا تُرى ما الذي دفع تلك الأعداد المهولة إلى الهجرة نحو الغياب؟
لا يبحث “بوكانان” عن الإجابة من واقع المصادر التاريخية، وهي قطعا توفر قدرا ولو يسيرا من المعلومات الراسخة، لكن اللجوء إلى التجربة الحقيقية لأحداث الواقع هو الحل الأمثل للفهم والإدراك. وفي هذا الإطار نرافق الكاميرا وهي تتوغل بجرأة تجاه الأم، فنراها تندفع بعد طول صبر إلى ظبي ضئيل البنيان، فتنقض عليه بحرفية واضحة، وعندئذ تصبح الوجبة كافية أياما قليلة، فالأسرة كبيرة العدد، والحاجة إلى الغذاء الدائم يشكل العائق الأكبر.
آل تشيلي.. هجرة الأم وأشبالها إلى موطن الظباء
يدخلنا السرد إلى خطه المقابل، فيقدم الحياة الموازية لعائلة الفهدة تشيلي، وهي تتكون من الأم وأربعة أشبال حديثي الولادة، وتشترك العائلة مع عائلة سافانا في معضلة توفر الغذاء الدائم، ومن ثم تظهر الحاجة الدائمة إلى الحليب، وهو يتكون تلقائيا من الغذاء المركّز الدسم.
يشكل الغذاء المركّز المحور الأهم لحياة هذه الأنثى وهي تعبر بأشبالها إلى الجانب الآخر من الصحراء، حيث موطن الظباء، لكن عقبات الرحلة ذاتها والتهديدات المكثفة للحيوانات الأخرى، كالأسود والأفيال وغيرها من الحيوانات المتربصة ببعضها، ينبغي عليها عبورها بسلام، من غير دخول معارك جانبية.
وعند هذه النقطة تنتقل الكاميرا في جولة حرة إلى المحمية، ويحدثنا التعليق الصوتي عن التوحش الظاهر للجفاف، مما يؤدي إلى ندرة العناصر الغذائية، فجميع الحيوانات إنما تقتات على بعضها.
حتمية الظروف.. معادلات التوازن في مملكة الحيوان
يعرض الفيلم لقطات بانورامية للصحراء الشاسعة الامتداد، فنرى بين ربوعها المتسعة بعض الشجيرات الضئيلة القوام، يستظل بها بين الحين والآخر حيوان شارد من قطيعه، أو يسعى أحد هذه الكائنات إلى التهام ما تيسر من الشجيرة، وهنا يطالعنا صوت “بوكانان” فيخبرنا بأن هذه المحمية تعاني منذ أكثر من 10 سنوات من الجفاف وشح مصادر المياه، فهي تقتصر في الأغلب على الأمطار الموسمية.
يقول “بوكانان” إن النتيجة التلقائية لانخفاض منسوب المياه، تؤثر مباشرة على الحيوانات العاشبة، فغذاؤها يعتمد أساسا على الوريقات الخضراء، ولذلك يتناقص تعدادها تلقائيا، وسينعكس ذلك على الحيوانات المفترسة، وبعدها سيصبح الوصول إلى الغذاء مهددا بالشح الغذائي، لا بالأخطار البيئية المألوفة فحسب، وتلك إشارة مستترة إلى دلالات التوازن البيئي، فكل يقتات في دورة حياته على الآخر، وهكذا دواليك.
وهنا يمكن أن نقرأ معادلات دورة الحياة والتوازنات البيئية بوضوح ويسر، فكل هذه الحيوانات عليها أن تجابه ما صعب من المعوقات الطبيعية، وهي لا تتمثل في الندرة الغذائية فحسب، بل إنها تشمل المواجهات المحتملة مع الكائنات الأخرى التي يشكل خطر وجودها والتصادم معها نسبة لا بأس بها، وتلك معضلة أخرى تهدد حياة الفهود في هذه الرقعة الصحراوية.
نرى على الشاشة جثمان أحد أشبال الفهدة سافانا، فقد أدى بها حظها العاثر إلى ملاقاة أحد النمور العابرة، فقانون الغابة يجعل الجميع جلادين أو ضحايا، فإذا تحالفت الأقدار وأصبح بطلنا الفهد جلادا، فإن احتمالات تراجعه إلى مرتبة الضحية لا تقل، إن لم تكن في ازدياد مطرد.
فالقسوة التي تغلف رداء الغابة، تجعل مواجهة الحياة ذاتها تحديا كبيرا، وهذا ما يسعى “بوكانان” إلى معايشته. ومن ثم يدرك حينها سببا من أسباب تناقص الفهود، وهو ما سيؤدي فيما بعد إلى انقراضها، بل سيؤثر تدريجيا على باقي المملكة الحيوانية، فالصراع الوجودي الذي ينبغي على هذه الكائنات مجابهته، يضيف إليها خشونة ظاهرية، وينعكس على سلوكها الداخلي الذي لا يخلو من الرقة، فيتناسب عكسيا مع الظروف البيئية المحيطة.
تعبيرات هادئة مسالمة.. ملامح تبطل الصورة النمطية
يواصل السرد رحلة الكشف عن الطبيعة العامة للفهود، فهي تختلف عن باقي السلاسل الحيوانية، فلكل عنصر منها صفاته الخاصة، لكن المثير للتأمل هو الطبيعة الجسمانية للفهد، وهي تجمع بين القوة والسرعة، وهشاشة العضلات وضعف التكوين الجسدي.
هذه الصفات المتضادة لا تجعله حيوانا مميزا فحسب على مستوى الشكل، بل المضمون الداخلي كذلك، فهو في حاجة إلى نظرة مختلفة عن السائد، فالمعلومات المتوارثة عن الفهد هي القوة والشراسة، وهذا صحيح بدرجة كبيرة، لكن هنالك جانب آخر لم يكشف عنه من قبل.
بلقطات مقربة للغاية من وجه الأم سافانا، يمكن تأمل جمالية تعبيرات وملامح وجهها، فيبدو هادئا ومسالما على غير المعتاد منه.
وتتسع اللقطة بمحاولة “بوكانان” اقتحام حيزها المكاني، حينها تستنفر مستشعراتها الداخلية، وتصاب بالقلق والحيرة. فالفيلم يقدم في جانب منه صورة بانورامية عن هذه الفصيلة من السنوريات، كاشفا ما خفي من صفاتها المتضادة، فالشراسة في المواجهة يقابلها الحنو في المعاملة، وهكذا في مصفوفة تضادية.
دواخل الفهود.. بقايا قطط برية غيرتها حوادث التاريخ
يتسع مفهوم التضاد بصورة أوسع وأشمل، مع المشاهد التي تبرز شفافية الحدود والمعاملات بين أمهات الفهود وأشبالها، أو عندما تصدح الأم بنغمات رقيقة بعد اصطيادها للظبي الشارد، وتلك إشارة لحضور الطعام، مما يكشف أن هذا الحيوان الشرس له وجه مغاير عن المتعارف عنه.
تبدو حياة الفهود مطعمة بالدراما والوشائج الحميمية فيما بينها، وقد تعود هذه التركيبة العجيبة بطريقة أو بأخرى إلى انتمائها الأصلي للقطط، فالفهود ما هي إلا قطط برية ذات بنية جسدية أكبر من القطط الأليفة من حيث الكتلة والحجم، لكن “ما طرأ عليها بمرور الأزمان من تطورات متلاحقة” جعلها أكثر شراسة، وأما في بواعثها الداخلية، فيبدو أنها لا تزال تحتفظ بقدر -ولو يسير- من ذاكرة القطط العادية.
ومن ثم يبدو الفيلم مهموما بالكشف عن العالم السري لعالم الفهود، فقد ظل زمنا طويلا رهين المعلومات المغلوطة والضبابية، ولتقديم هذه المشهدية المتسعة الإطار، تمتزج الهوية الفكرية للفيلم مع الشكل العام، وقد جاء شديد الجاذبية معتمدا على تصوير مثالي الجودة، قادر على اختراق عمق هذا العالم.
فمع أن عالم الفهود قد يبدو من الخارج بعيدا عما ندركه، فإننا بنظرة مدققة نستطيع اكتشاف أن ما نراه ليس إلا صورة لعالمنا، فقد تعددت الشخصيات والغاية لا تزال واحد. تُرى من يملك مفاتيح العبور نحو المرفأ الآمن من الحياة؟