“أشجار المَنّ”.. مناجم الصمغ العربي التي تقطر ذهبا في السودان
على مد البصر، تسترخي على السهول الممتدة غابة من شجر المنّ، لا تقل مساحتها عن 1500 فدّان، وفي الإطار فلاح بسيط يحمل فأسا صغيرة مشدودة إلى عصا خشبية طويلة، يستخدمها لتقشير لحاء شجر المنّ، وهو شجر الهشاب أو الطلْح، لا يريد إيذاءها بل يحدث خدشا في اللحاء فقط، ثم جمع ما تفرزه الشجرة من مادة الصمغ الثمينة.
أنتجت قناة الوثائقية فيلما شيقا عن أشجار المنّ السودانية، وجروحها التي تنزف ذهبا خالصا، وتتبّعت قصة الصمغ العربي في السودان من لحظة قطافه وحتى وصوله إلى الأسواق العالمية، وعرضت هذا الفيلم على شاشتها تحت عنوان “أشجار المنّ”، مصحوبا بلغة الإشارة.
الطلح والهشاب.. أشجار السودان التي تقطر ذهبا
تكثر أشجار الهشاب والطلح التي تنتمي إلى عائلة “الأكاسيا” في ما يسمى حزام الصمغ العربي، وهو يمتد من حدود السودان وأثيوبيا في أقصى الشرق الأفريقي باتجاه أقصى غرب القارة، فيمر على 13 ولاية من ولايات السودان، في طريقه إلى تشاد وأفريقيا الوسطى، وتبلغ مساحته في السودان وحدها حوالي 500 ألف كيلومتر مربع. ويوجد ثلثا حزام الصمغ في السودان، وهي الأولى عالميا من حيث عدد الأشجار.
تتشابه حياة القرى المنتجة للصمغ بتفاصيلها اليومية كما يتشابه مزارعوها، وفي كل عام يجمعون شتائل الهشاب، ويزرعونها في أراضيهم، ويملك كل مُزارع 4-5 مُخمَّسات من الأرض، يزرع فيها أشتال الهشاب، فتكون مهيأة لإنتاج الصمغ بعد خمس سنوات من زراعتها.
يتوارث المزارعون هذه الحرفة كابرا عن كابر منذ قديم الزمان، ويعد بلدهم السودان المنتجَ الأول، والمسيطر على سوق الصمغ في العالم، ويتفرد بأجود أنواع هذا المنتج وأكثرها تنوعا وكمّا.
ويتوسط إقليم كردفان خريطة السودان، وقد جعله ذلك على تواصل مع جميع أقاليم السودان، لتتناغم بيئته وتتجانس مع باقي المناطق، ففيه الصحراء والسافانا والمناطق الاستوائية، وفيه تنوع كبير في الغطاء النباتي، وبينما ينتج السوادان 95% من الصمغ في العالم، فإن إقليم كردفان وحده ينتج 85% من هذه الثروة الكبرى.
الأشجار الباكية.. دموع تدخل الفرح على قلوب الفلاحين
يبدأ موسم الحصاد بتحركات جماعية من المزارعين لجرح وسلخ لحاء أشجار الهشاب في سيقانها وفروعها، وكأن الشجرة الجريحة تتألم من كثرة الجروح، فتسيل دموعها مدرارا، وهذه الدموع هي الثروة التي ينتظرها المزارعون، وكلما زاد بكاء الشجرة زاد فرح المزارعين بوفرة محصولهم، فهم يقولون هذه شجرة “بَكّاية”، أي أنها كثيرة الإنتاج، وتلك شجرة “نزيرة” الدمع.
يترك المزارعون الأشجار الباكية حتى يجف دمعها، ويتوجهون لأعمال أخرى، منها حصاد الذرة والسمسم والفول السوداني، ثم يعودون لجمع قطرات الدموع بعد أن تجف، فتكون على شكل قطرات كبيرة، مكوِّنة الصمغ العربي، الذي يكون شفّافا ناصعا أو مشربا بدُخْنة.
ولا مكان للفردية في قرى الصمغ، بل يجتمع المزارعون رجالا ونساء على طقوس حصاد الصمغ، ويحملون أدواتهم البدائية لعمليات “الطقّ” الأولى، وهي فصل الصمغ عن الشجر، وجمعه في أوانيهم، على أن يعودوا لعمليات “طقّ” مماثلة، بعد أن تبرأ جروح الأشجار، ويلتئم عليها لحاؤها من جديد.
وينفر أهل القرية للحصاد على مبدأ المعاونة، ويجمعون معا محاصيلهم، وقد يستأجر صاحب المزرعة العمّال من الرجال والنساء، فيعطيهم أجورهم بنظام اليومية، أو نظام المقاولة، فيعطيهم مبالغ من المال على الغابة كلها أو أجزاء منها. فيتقاضى العامل آلاف الجنيهات السودانية، مقابل جمع كيس من الصمغ.
يستغرق جمع المحصول وتعبئته وإيصاله إلى الأسواق المحلية شهرا أو أكثر، وليس مضمونا أن ينال المزارعون في القرى النائية ما يحلمون به من المال، فهم الحلقة الأضعف في سلاسل الإمداد، وعليهم أن ينتظروا عاما كاملا حتى تتكرر العملية ويكسبوا أموالا أخرى.
شركة الصمغ العربي.. سياسة التأميم التي دمرت السوق
لا تفرض الحكومة أسعارا تفضيلية لدعم المزارعين وتطوير عملية الإنتاج، فقد ألغت احتكار شركة الصمغ العربي للشراء والتصدير، وأصبحت الشركات الأخرى تتحكم في التصدير، ويتفق أصحابها فيما بينهم على السعر الأدني الذي ينالون به الصمغ من المزارعين، وهو 500-700 جنيه سوداني للقنطار الواحد البالغ حوالي 45 كيلوغراما، تزيد أو تنقص حسب الطلب العالمي.
كانت تجارة الصمغ فيما مضى حرّة بين المنتجين والوسطاء، وبقيت على هذه الحال إلى أن أُسست شركة الصمغ العربي سنة 1969، وكان من أهدافها حماية المنتجين، والتحكم في الأسعار، وتوفير العملة الصعبة للدولة، وتوفير الأموال اللازمة لأغراض البحث العلمي والتطوير. واستمرت هذه الشركة زهاء 30 عاما تقريبا.
وقد نشأت شركة الصمغ العربي في عهد الرئيس جعفر نميري، ضمن سياسة تأميم الموارد، فاحتكرت تصدير الصمغ العربي إلى الأسواق الخارجية، وكانت مساهمة الدولة فيها تبلغ حوالي 30% من رأسمالها، والباقي من مساهمات القطاع الخاص.
فرضت الشركة شراء الصمغ من المنتجين بأسعار متدنية جدا، فأدى ذلك إلى تدهور سوق هذه السلعة الإستراتيجية، وعزوف المنتجين عن زراعة أراضيهم، بل إن بعضهم أتلفوا غاباتهم، ومال آخرون لتهريب السلعة إلى دول الجوار، فأصبحت تفوق السودان في تصدير الصمغ إلى أسواق العالم، بعد أن كان أكبر المنتجين.
صديقة البيئة.. أشجار تكافح التصحر والهجرة والقحط
في بداية الألفية الثالثة، حُلت شركة الصمغ العربي، وأُلغي احتكارها لتجارة الصمغ، فتحسنت أسعار المنتج بشكل كبير، وعاد المنتجون إلى المزارع والغابات، وازدهرت السوق، لكن آثار تلك السنين العجاف من تقطيع أشجار الطلح والهشاب ما زال ظاهرا للعيان، وهو ما أدى إلى تعرية التربة وتعريضها للتصحر، وتهديد الحزام كله.
ولم يكن تدني الأسعار العامل الوحيد، فموجة الجفاف التي ضربت السودان في 1990-1993 كانت عاملا مؤثرا في انهيار أسواق الصمغ، لهذا يرى الباحثون أن وضع جميع العوامل على الطاولة، وإيجاد حزمة متكاملة من الحلول لمعالجة هذه العوامل هو الكفيل بإعادة نهضة هذا القطاع وازدهاره.
ولم يقتصر الأمر على تدني إنتاج الصمغ، بل كانت له انعكاسات بيئية واجتماعية عميقة، فشجرة الهشاب من العوامل المثبتة للنيتروجين الجوي، وأوراقها المتساقطة الغنية بالنيتروجين تعد غذاء عضويا غنيا للتربة، مما يتيح زراعة محاصل أرضية أخرى بين أشجار الهشاب، وهي علف شهي للبهائم السائمة بعد انتهاء موسم الحصاد في شهري أبريل/ نيسان ومايو/ أيار.
وتستخدم أخشاب هذه الأشجار كذلك في جميع الأعمال المنزلية والبناء والأثاث وغيرها، كما أن الحزام سببٌ في هطول الأمطار التي تغذي نهر النيل، وتعزز مخزون المياه السطحية والجوفية، وهنالك قيمة اجتماعية لهذا الحزام ببقاء الناس في قراهم بدل الهجرة إلى المدن الكبرى، كما تتحدد القيمة الاجتماعية للقروي السوداني بما يملكه من غابات الهشاب والطلح.
ويسعى خبراء معهد أبحاث الصمغ العربي إلى زيادة المساحة المزروعة من أجود أنواع الأشجار وأكثرها إنتاجية، وأيضا إلى حماية الأشجار من القطع والحرائق والرعي الجائر.
بورصات الصمغ.. رحلة من السودان إلى أصقاع العالم
تبدأ رحلة خام الصمغ العربي من صغار المزارعين والأسواق الصغرى إلى محطات التجميع والبورصات الكبرى، وتعد بورصتا النهود والأُبَيِّض في إقليم كردفان من أكبر بورصات الصمغ العربي في العالم، بل إن بورصة الأُبيض هي أكبر البورصات العالمية على الإطلاق.
وقد ارتفعت نسبة الخام الوارد إلى هذه البورصة في 2015 على سبيل المثال بنسبة 20% عن 2014، فانعكس ذلك على زيادة في الأسعار، أدت إلى زيادة في الإنتاج.
وتنعقد داخل هذه البورصات مزاداتٌ بين الشركات، لشراء أنواع الصمغ بأعلى الأسعار الممكنة، فقد وصل سعر قنطار موسم 2014/2015 إلى 900 جنيه، مقارنة بجنيهات معدودة في سنوات الاحتكار، فانعكس ذلك على ازدهار التجارة والمحافظة على مصادرها وتطوير إنتاجها.
تطويع المنتج الخام.. أبواب اقتصادية كانت مغلقة
يُنقى الصمغ من الشوائب والأعشاب العالقة به، ثم يفرز بحسب الأصناف وجودتها، ثم ينقل إلى الخرطوم وبورتسودان، في رحلة تبلغ أكثر من 2000 كيلومتر.
ويدخل الصمغ في كثير من الصناعات الدوائية والغذائية، ولكن الطلب المحلي عليه لا يشكل نسبة تذكر مقارنة مع الطلب العالمي، ولم يكن أحد يجرؤ على دخول مجال تصنيع الصمغ الخام قبل بداية التسعينيات، بل كانوا ينتظرون عودته مسحوقا مُصنَّعا من أوروبا وأمريكا، ليتمكنوا من استخدامه.
لكن بدأت بعد ذلك محاولات تصنيعية أولية تتمثل في التنظيفات، أو التكسير بأحجام معينة إلى المساحيق الرذاذية، وهذه الأشكال تزيد فرصة تصدير المنتج أو استخدامه في الصناعات المحلية.
وفي 1993، افتُتح أول مصنع لتحويل الصمغ إلى مسحوق أبيض ناصع، فهو خام أهم من الذهب والبترول لدى السودان، إذا وجد الإدارة المخلصة والواعية التي تهتم بمصالح السودان الوطنية.
شجرة في الصحراء تحارب الأمراض المزمنة
فتح استغلال الصمغ الخام بابا للبحث العلمي في مكوناته وفرص الاستفادة منه، لاحتوائه على ما يسمى الغذاء الحيوي، الذي يغذي البكتيريا الصديقة في الجهاز المعوي، لتنتج الأحماض الأمينية القصيرة المفيدة لكافة أجهزة وأجزاء الجسم.
ويعمل الصمغ كذلك على زيادة مضادات الأكسدة التي تحارب السرطان والأمراض المزمنة، ويساعد على التحكم بمقدار السكر في الدم، وإنقاص الوزن أيضا، من غير استخدام أنظمة غذائية محددة.
ثم إن الصمغ منتج متجدد، وأما المنتجات الأخرى كالنفط هي مصادر ناضبة، وهو صديق للبيئة ومعزز للحياة، وأما البترول فمن أكبر أعداء البيئة، والصمغ منتج آمن ليست له آثار جانبية على حياة البشر والكائنات الأخرى.
وبعيدا عن الأبحاث العلمية، يدرك المزارعون وسكان القرى البسطاء أهمية الصمغ العربي في الرعاية الصحية المجرّبة، فالقليل منه مع الماء والسكر يشفي من آلام البطن، ومَسْحُه على الجسد مدة ثلاثة أيام يشفي من “اللوجة” أو تشنجات العصب السابع. ويستخدمه مشايخ الصوفية بخورا في الزوايا والمساجد، ويعالجون به أمراضا أخرى كثيرة.
منتجات الصمغ.. ثروة سودانية في كل بيوت العالم
دأبت أمريكا وبعض الدول الغربية على مقاطعة السودان ووقف استيراد الصمغ العربي منذ عهد نميري في الثمانينيات، لكن أول إعلان رسمي لمقاطعة البضائع السودانية -ولا سيما الصمغ- كان في عهد الرئيس عمر البشير 1997، ولكن بعض الشركات الأمريكي ضغطت على الرئيس “بيل كلينتون”، لاستثناء الصمغ من المقاطعة، ومن تلك الشركات بيبسي وكوكا وبعض شركات الخمور، فالصمغ مكون أساسي في منتجاتها.
وربما لا نبالغ إذا قلنا إن جميع سكان العالم يتناولون الصمغ العربي السوداني يوميا، بشكل أو بآخر، ولكنهم لا يعلمون، فالسوق العالمي يستوعب سنويا 300-400 ألف طن، تأتي 85% منها من السودان.
وقد يأتي يوم يعلَن فيه الصمغ العربي دواءً خالصا، وحينها سيباع بالغرام لا بالقنطار، ولكن حتى يأتي ذلك اليوم سيبقى الصمغ يتصدر قائمة المظلوميات العالمية، شأنه شأن منتجيه الطيبين البسطاء.
ومع انتهاء موسم الحصاد، تدخل القرى في أفراح بهيجة وأعياد سعيدة، امتنانا منها لعطايا رب السماء.