“الهيمنة على البحر”.. أساطيل عملاقة تنهب بحار أوروبا بعيدا عن الأنظار

يتحرى المخرجان السويديان “بيتر لوفغرين” و”هيلينا فريدريكسون” عن الأسباب التي تمنع دول الوحدة الأوروبية من محاسبة المتسببين في إفراغ بحر الشمال والبحر الأبيض المتوسط من بعض أنواع الأسماك، مع أن ساستها أقروا قوانين تحُد عمليات الصيد البحري الجائر، فهو لا يتسبب بتدمير التوازن البيئي البحري فحسب، بل تمتد آثاره التدميرية إلى الإنسان والطبيعة.

هذا الاستقصاء السينمائي يأتي عبر منجز وثائقي مهم يحمل عنوان “الهيمنة على البحر” (Makten över havet)، ومن خلاله يتوصل صناع الفيلم إلى حقائق ذات صلة بطبيعة النظام السياسي الأوروبي، الذي تتشابك مصالحه مع مصالح أصحاب شركات الصيد البحري العملاقة.

مجاميع الضغط تنشط خارج قاعات الوحدة الأوربية

فأصحاب تلك الشركات لا يأبهون بالنتائج التدميرية للبيئة البحرية بقدر ما يهمهم ضمان مصالحهم، واستمرار سفنهم في صيد الأسماك بكميات هائلة، تتجاوز كثيرا الحصص المخصصة لها، وذلك خرق صريح للقانون، ومع ذلك فهم ماضون في عملهم بلا قيود، ما دام هناك فساد سياسي ومجاميع ضغط ناشطة من داخل الوحدة الأوروبية، تضمن لهم مصالحهم على طول الخط.

سفن الصيد الجائر.. أسطول يهدد البحار بالانهيار البيئي

يقابل المخرجان علماء بحار وسياسيين أوروبيين عملوا مدة في بروكسل، ضمن أقسام مختصة بالزراعة والصيد البحري في المجلس الأوروبي، ثم يسمعان شهادتهم عن الحالة السيئة التي وصل إليها بحر البلطيق اليوم، بعد إفراغ مياهه من أنواع خاصة من الأسماك التي كانت متوفرة بكثرة في أعماقه، منها سمك الرنجة والقد.

إفراغ بحر البلطيق من سمك القد والرنجة

وقد بات ذلك يهدد بانهيار بحر البلطيق بيئيا جراء الصيد المستمر لهذه الأنواع، ولما يخلفه نقصها من خلل في عمليات التكاثر الطبيعية، إذ يصبح عدد الأسماك الميتة أكثر من المولودة. والأمر نفسه يحدث في البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما في المياه المقابلة لسواحل الدول الأوروبية، ويحدث كذلك في بقية البحار والمحيطات، ولكن بدرجات أقل.

ولمعرفة تأثير ذلك على الصيادين الصغار من مواطني الوحدة الأوروبية، يقابل الوثائقي أحد الصيادين الإيرلنديين، وهو يشكو من شح كميات الأسماك في المياه المقابلة لسواحل بلده، ويقارنها بالماضي يوم كانت الكميات وفيرة تكفي لضمان حصوله على رزقه، وفي الوقت نفسه تبقي البحر في حالة جيدة.

أما اليوم فالمياه ملوثة، والبحر بات خاليا من الأسماك، بعد أن سحبتها شِباك سفن الصيد العملاقة معها، وما زالت تأتي قبالة الساحل، وتسحب كل ما بقي منها بلا قيود.

وزراء البحار.. قرارات سرية بعيدة عن علم المواطن

يتساءل الصياد البسيط عن أسباب السماح لتلك السفن بأخذ كل ما تريد بلا محاسبة، فمن هو صاحب السلطة الحقيقية على البحر، هل هم السياسيون الذين ينتخبهم الناس ليمثلوا البلد ومصالحه في مجالس الوحدة، وعليهم يقع واجب الدفاع عن مصالح المواطن؟

يأخذ صانعا الوثائقي أسئلة الصياد ويذهبان للبحث عن جوابها من داخل الوحدة الأوروبية في بروكسل، وتتكون لدى الوثائقي صورة ملتبسة عن عمل وزراء الصيد والثروة السمكية فيها، بعد مقابلة عدد من أعضاء مجلس وزراء الوحدة، فمع أنهم يتخذون قرارات سنوية يحددون فيها كميات الأسماك المسموحة بصيدها، فإن آلية اتخاذ القرارات تظل سرية ولا يشرَك المواطن الأوروبي فيها.

الصيد البحري الجائر مستمر في بحر البلطيق والبحر المتوسط

لا أحد من مواطني الوحدة يعرف من يؤثر في اتخاذ القرارات التي تجيز زيادة كميات الأسماك المسموحة بصيدها في كل عام، وهو لا يعرف موقف كل دولة من الزيادة المقترحة، وكأن الأمر لا يعنيه بل يعني الوزراء فقط، فالقرارات التي تجيز زيادة كميات الصيد في الغالب تتخذ بسرعة، ويبت بها خلال يومين فقط.

هذا الأمر يراه الساسة الأوروبيون المعارضون للفساد غير سليم، ومنهم النائبة “إيميلي أورلي” المكلفة بالتحقيق في الإخفاقات الحاصلة بتطبيق قرارات البحار وقواعد الصيد فيها، وبسبب تفاقمها تدعو إلى تغيير آليتها، ورفع السرية عنها لإشراك الناس فيها، لأنها في نهاية المطاف تمس حياتهم ومستقبلهم.

تداخل المصالح.. تقاسم الكعكة بين الساسة ومجموعات الضغط

يقرر الوثائقي الذهاب بعيدا في بحثه لمعرفة القوة الحقيقية المؤثرة في اتخاذ قرارات الصيد، فيتسلل إلى “فندق تون الوحدة الأوروبية” في بروكسل، فيلتقي الوزراء هناك بعد انتهاء عملهم في بهو الفندق.

يكتشف صناع الوثائقي وجود أناس من خارج المجلس يساهمون بشدة في مناقشة القرارات التي يريد الوزراء البت بها، ويتضح أن هؤلاء هم مجموعة الضغط الداعمة لأصحاب الصناعات السمكية، ويُطلق عليهم اسم “أولد بويز نتوورك”.

الصناعة السمكية تطلب المزيد من الأسماك وبلا توقف

تتشارك مجموعات الضغط مع بعض الوزراء في المصالح، ولهذا يجد كلامهم طريقه للتطبيق مباشرة عند اتخاذ القرارات بكميات الصيد المسموح بها، وبنوع الضوابط المتخذة للحد من الصيد في مناطق معينة.

يتبيّن من الاستماع للأحاديث الجارية بين الطرفين، أن المصالح المتبادلة بين السياسيين ومجموعات الضغط، هي مَن تقرر مصير البحار في المستقبل، لا المواطنون الأوروبيون.

المناطق الرمادية.. ميدان اللعبة البعيد عن الأنظار

يطلق المعارضون للفساد السياسي على المنطقة التي ينشط فيها هؤلاء الهامسون في آذان الساسة في بهو الفندق اسم “المناطق الرمادية”، وهي المناطق التي لا تظهر في المشهد العام للوحدة الأوروبية في بروكسل.

البحار تموت على يد سلطات تلعب في المنطقة الرمادية

في تلك المنطقة يتحدد نوع القرار الحاسم ولمصلحة من يصب، ولها يخصص المنتفعون منها أموالا وإمكانات كبيرة، حتى أضحى تجمع “اللوبي” في بروكسل هو الأكبر في العالم.

ويعمل في هذا اللوبي حوالي 30 ألف إنسان، ينشطون للتأثير في القرارات المهمة في حقول الزراعة والصناعة البحرية العملاقة، وهم يعرفون جيدا كيفية التأثير على السياسيين، واختراق السلطة السياسية بوسائل مختلفة؛ منها الرشوات وتبادل المنافع غير النزيهة.

ولذلك فإن مجموعات الضغط هذه هي في الحقيقة التي تتخذ القرارات الحاسمة، لا ممثلي مجلس النواب الذين يجهل جلهم تفاصيل العمل البحري.

غزو البحار.. سياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية

لتحليل الانحراف الحاصل في مبادئ عمل الوحدة الأوروبية، يرجع الوثائقي إلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حين ظهرت المجاعات والأمراض، وفرضت على السياسيين الغربيين البحث عن سبل لتوفير مستوى حياة أفضل، واقتصاد متنام يقضي على مظاهر الجوع والفقر في القارة.

بحار مريضة في انتظار من يعالجها

وقد شكّل ذلك التوجه الجماعي الملامح الأساسية للوحدة الأوروبية اللاحقة، وكان الإقبال على الصيد البحري -الذي أُهمل خلال الحرب- الوجهة الأكثر اهتماما لديهم، وذلك لوفرة الغذاء الآتي من البحر.

ولهذا السبب شجع السياسيون الأوروبيون الصيد في البحار، وأغدقت البنوك القروض على الصيادين لشراء سفن أكبر حجما من سفنهم الصغيرة، وترسخ يومئذ مبدأ الصيد أكثر فأكثر بسفن عملاقة، فهذا هو الضامن لمستوى غذائي ثابت وجيد النوعية.

ظهرت الآثار السلبية لذلك التوجه المنفلت بعد عقود قليلة، وبسببه شحت كميات الأسماك في مناطق كثيرة من البحار المحيطة بالدول الأوروبية، لكن أصحاب السفن العملاقة لا يريدون التوقف أو الخسارة، فظلوا على نهجهم يجوبون البحار لصيد أكبر كمية من الأسماك بشباك سفنهم العملاقة.

مصالح متبادلة بين السياسيين وأصحاب سفن الصيد العملاقة

وستظهر مع ذلك علامات دالة على جشعهم وشراهتهم، منها إعادة الأسماك الصغيرة الميتة هائلة العدد إلى البحر ثانية، وذلك لقلة ربحها، وقد أدى هذا السلوك الجشع إلى تلوث البحار، وتقليص أعداد الأسماك الصغيرة فيها، مما تسبب بتدمير البيئة البحرية، ولا سيما في بحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط.

تنظيم الصيد.. خدعة سياسية تفاقم سوء الوضع

في ثمانينات القرن المنصرم برزت التأثيرات السلبية للصيد البحري الجائر، ومنها قلة كميات الأسماك في البحار، وبسببها ظهرت صراعات بين الدول حول حصصها من صيد الأسماك، ولذا دعا القادة الأوروبيون لوضع سياسة صيد بحري مشترك، تتحدد فيها حصة كل دولة أوروبية من الأسماك، ولأجل ضمان التوزيع العادل كلفت “المجلس الدولي لبحوث البحار” من أجل تحديد مناطق الصيد، وتقدير كميات الأسماك الموجودة فيها.

إعادة الأسماك الميتة إلى البحر ثانية لتزيد من تلوثه

وكانت هناك مجموعة مؤسسات تعمل لصالح شركات الصناعة السمكية، وهي الجهات المعنية بالصيد البحري، وكانت توصل تصوراتها إلى مجلس وزراء الوحدة، التي ينبغي أن تتخذ قراراتها النهائية لمصلحة دولها ومواطنيها.

ويشير الوثائقي إلى مفارقة تتمثل في أن قرارات الوحدة كانت دائما تتجاهل توصيات العلماء والخبراء في المجلس العلمي، وتأتي في صالح أصحاب سفن الصيد العملاقة ومالكي الصناعات السمكية، وبالنظر إلى الأرقام نجد أن نسبة السماح لتلك الشركات بالصيد خلال الأعوام 2001-2020 في بحري البلطيق والأبيض المتوسط بلغت ما بين 30% إلى 80% من النسبة التي يوصي بها المجلس.

لقد أضحى حوالي 2000 موظف في المجلس بلا فائدة، لأن أغلب توصياتهم لا يؤخذ بها، وبعد مدة من الزمن شكلت رواتبهم عبئا على دافعي الضرائب في دول الوحدة الأوروبية.

وبالمقابل أغدقت حكومات تلك الدول الأموال والدعم لشركات الصيد البحري العملاقة، من أجل تحديث أساطيلها، وتطوير وسائل صيدها، وضمان حصولها على أكبر كمية من الأسماك، وهذا الدعم غير العادل -حسب عالمة البحريات “هيلين تشيرسكي”- أدى إلى تدهور البحار وزاد الاختلال البيئي فيها، وهذه الأضرار قد تتفاقم أكثر إذا ما ظل السياسيون يدعمون الشركات العملاقة، على حساب العالم ومستقبله.

تجارب الحد من انهيار البحار.. نعم نستطيع

يقول سياسيون معارضون للفساد إن ممثلي دول الوحدة في كثير من المجالات يفشلون في مهامهم، ومع ذلك لا يحتج الناس على أدائهم، لأن الناس لا يعرفون بالدقة ما يجري في أعماق البحار، الأمر الذي تستفيد منه مجاميع الضغط.

لا فرص لقوارب الصيد الصغيرة

ينقل الوثائقي تجربة صغيرة لصيادين إيطاليين في قرية “تورا غوتشتو”، فقد قبلوا -بعد طول رفض- الامتناع عن الصيد في المناطق القريبة من سواحلهم لبضع سنوات، وبعد خمس سنوات حصلوا على نتيجة مبهرة، فقد زادت كميات الأسماك وتحسنت البيئة البحرية بشكل لافت، مما شجع الكثير منهم لنقل نفس التجربة إلى مناطق أخرى من سواحل البحر الأبيض المتوسط.

هذه التجربة يستند عليها الناشطون البيئيون ليبرهنوا أن حماية البحار ممكنة إذا ما عمل الجميع على ذلك، ومنعوا جشع أصحاب سفن الصيد العملاقة، وغيرهم ممن لا تهمهم صحة البحار ولا مستقبل الأجيال الجديدة من البشر.


إعلان