“رمسيس راح فين؟”.. علاقة بين الإنسان والتمثال تختزل قصة عميقة

عند صدوره عام 2019، لاقى فيلم “رمسيس راح فين؟” حفاوة كبيرة من النقاد، وتوج بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام الوثائقية والروائية القصيرة في دورته الـ21، وعرض في مهرجان لايبزغ السينمائي.
ولكن مع ذلك، كانت مشاهدة الفيلم لمن أراد عصية طيلة السنوات الماضية، حتى طرحته الجزيرة الوثائقية مرئيا ثم مسموعا على منصة “ساوند كلاود” في مطلع عام 2025، فأتاحت مرة أخرى تجربة من أجمل تجارب الأفلام الوثائقية المثيرة للتأمل والتأويل.
يمكنني أن أفهم لماذا قرر عمرو أن يحكي قصته من خلال ميدان رمسيس وتمثاله، مع أنه يسكن حي السكاكيني الذي يبعد قليلا عن الميدان. ففي جيل عمرو الذي ولد عام 1962، كان لتمثال رمسيس دور كبير في تشكيل الذاكرة الجمعية للمصريين، وأصبح ضيفا دائم الحضور في ثقافتهم الشعبية.
ترى الناقدة الأدبية “غوديث بتلر” أن الفضاءات العامة -مثل الساحات والميادين- تشكل ساحات تمثيلية، تؤثر في الذاكرة الجماعية والعلاقات الاجتماعية، ويمكن تصنيف الميادين العامة أماكن تتولد فيها مشاعر الحميمية والعاطفية، من خلال التفاعل البصري والجسدي مع النصب أو التجمعات البشرية، ونرى تلك الفكرة تحضر بشدة في فيلم “رمسيس راح فين؟” للمخرج عمرو بيومي.
أن نحكي قصة المدينة من قصتنا
يمكنك أن تعد فيلم المخرج عمرو بيومي لوحة شخصية، كتلك التي رسمها “فان جوخ” لنفسه أكثر من مرة، فنشهد فيه على تاريخ شخصي جدا ترويه الذات عن نفسها، لا الآخر عنها.
يطالعنا منذ اللحظات الأولى عمرو بيومي بمناظر لزكائب وكراكيب أشيائه التي حملها من شقة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، حتى بلغ شقة الأسرة القديمة في حي السكاكيني مرة أخرى عام 2013، حين كانت تمر مصر بحالة من عدم اليقين، تشابهت مع حالة بطلنا كذلك.
ومن تلك اللحظة قرر أن يعاود شغفا قديما كان مدفونا في ذكرياته، بأن يفتش عن مصير التمثال، تمثال رمسيس، الذي كان عدة سنوات حاكما لميدانه وشاغله، ولم يعد كذلك الآن.

من هذا المنطلق تعد رحلة البحث عن رمسيس محاولة أخرى لاكتشاف علاقة الإنسان بالمدينة والنصب والتماثيل، وتاريخا آخر لتلك الأشياء التي نظن أننا نعرف تاريخها من الكتب وما دون على شواهدها، في حين يحمل صمتها -في سكونها وحركتها من مكان لآخر- تاريخا شخصيا كالذي أخرجه عمرو بيومي.
وفي فيلم “رمسيس راح فين؟” الذي يناقش الميادين العامة والتمثال، ويسرد قصة شخصية أحيانا، وجزءا من تاريخ بلد في أحيان أخرى، تصبح لدينا أماكن محددة، وتواريخ محددة تتسلسل كذلك، ولكن ليس لدينا فضاء واحد.
فكما يقسم “هنري لوفيفر” في نظريته عن إنتاج الفضاء، فإن لدينا في الفيلم “فضاء مدركا” نختبره في الحياة اليومية بالميادين والشوارع والحدائق، و”فضاء متصورا” ينتجه المخططون والمهندسون المعماريون وصناع القرار الذين هم أبطال يحضرون في الفيلم رؤوسا ناطقة أو مواد أرشيفية، وتمثل ذلك الفضاء خرائط ومخططات حضرية، وهو غالبا ما يعكس عقلية السلطة ورؤاها حول استغلال الفضاء.

وهناك فضاء آخر هو “الفضاء المعاش”، وهو الذي يشكل قصة عمرو ورمسيس، ويختبر عاطفيا ورمزيا بشكل يومي، ويحمل ذكرياته وتجاربه والمعنى الذي يضفيه شخصيا على المكان، وهنا يحدث نوع من أنواع مقاومة السلطة، فيمكن للفرد أن يعيد تشكيل دلالة الفضاء بمعزل عن نيات السلطة، والفيلم هو صراع دائم بين المعنى الذي تريد السلطة إضفاءه على رمسيس، وما يعنيه رمسيس لدى عمرو.
تاريخان للمدينة والسلطة
في مشروعه غير المكتمل “مشروع الأروقة”، تأمل الفيلسوف الألماني “فالتر بنيامين” علاقة الإنسان بالمدينة ومفهوم “المتسكع”، فرأى المدينة مكانا يُستكشف بالتجربة الشخصية، عبر التسكع ورصد التفاصيل اليومية في أروقتها. ويرى “بنيامين” أن التسكع يشهد على تاريخ غير مدون عن المدن، يتجلى في الشوارع والأسواق والمباني العادية، وليس فقط في الوثائق الرسمية.
يساعدنا “متسكع” بنيامين على الاشتباك والتفاعل أكثر مع رحلة عمرو، وتسكعه في المدينة وراء التمثال، وسبب اختياره أن يروي قصته وصراعه مع أبيه ورحلة بحثه عن الحرية من خلال تتبع تمثال رمسيس، الملك الفرعوني، البناء الأعظم.
فالذين تحكموا في حركته وتنقلاته من مكان لآخر، هم فراعنة مصر المعاصرون وحكامها، مثلما حاول الوالد أن يتحكم في حياة عمرو وحركته، لكن عمرو كان بشرا لا تمثالا، لذلك قرر المقاومة، ومن هنا نشأ فعل الصراع في الفيلم، وفي الحياة التي عاشها عمرو مصارعا أباه محمد.

إن فكرة السلطة هي سمة تحضر كثيرا في الفيلم، فتأويل عمرو التاريخي لنقل التمثال الأول إلى القاهرة، كان أنه تزامنا مع استبداله بتمثال نهضة مصر لمحمود مختار، فتمثال نهضة مصر كان يمثل نصبا تذكاريا لثورة 1919 ومنجزها السياسي والاجتماعي الليبرالي، في حين رأت دولة يوليو أن ترسخ شرعية ثورة يوليو 1952، التي أنهت الحكم الملكي وصادرت الحياة السياسية الليبرالية، من خلال وضع تمثال رمسيس في أهم ميادين القاهرة.
السلطة من ناحية أخرى تتمثل في شخصية الأب محمد، ويشرح عمرو ذلك -مع الحب والعواطف- بموضوعية، وأحيانا بقسوة، بعرض ذكريات صادقة حية في الصور والأرشيف العائلي، فالوالد مهيب ذو شخصية شديدة الحضور، نافذ الكلمة، ولا يتوانى عن تأديب ابنه وزوجته بالضرب إن لزم الأمر.

ينتقي عمرو من ذاكرته ما يواكب تأكيد حضور السلطة فكرةً رئيسية في الفيلم، لذلك يستعيد تجربة الخدمة العسكرية الإجبارية في سنوات الشباب، وما تفرضه على الإنسان من محو فردانيته وذاتيته، وهنا يختبر عمرو -ذو النفس المتمردة- أن يكون ذاته في موقع سلطة بحكم القانون العسكري الميري، الذي يؤدي به إلى أن يتسبب بذاته ويديه في محو كرامة وإنسانية عسكري آخر أقل منه في الدرجة العسكرية، وما يفعله ذلك الموقف من وضعه أمام نفسه.
تحضر السلطة دائما في الفيلم، وتتنوع بين السلطة السياسية والأبوية، سلطة الأب الحاكم للأسرة، والحاكم الأب للشعب المصري من عبد الناصر إلى مبارك، وهنا يتقاطع ميدان رمسيس وتمثاله بصفته موقعا دائما للتمرد على السلطة، فلقد شهد لحظة من لحظات تمرد عمرو على أبيه، ومن لحظات تمرد الشعب المصري على حاكمه، في انتفاضة الخبز 1977، وكان محطة من محطات اندلاع ثورة يناير 2011.

هنا تحضر المفارقة الساخرة في الفيلم، فبعد أن يؤكد عمرو في روايته لتاريخ تمثال رمسيس وميدانه وشخصه -بصفته ملكا اقتدى به رؤساء منهم أنور السادات- أنه دوما كان ميدانا لتركز شرعية أي سلطة سياسية في البلاد، ينقلب ليكون ميدانا لتقويض شرعية السلطة، ويعاد بالاحتجاجات والمظاهرات تشكيل الفضاء المتصور مرة أخرى، وفقا لاستخدامات غير متوقعة تعكس مقاومة السلطة.
وأيضا شهادة على تلك العلاقة المعقدة بين الأب الحاكم والابن المقهور، حيث يشهد ميدان رمسيس على جنازة الرئيس جمال عبد الناصر، التي اشترك فيها الشعب (الابن) مودعا الحاكم (الأب)، وهو مكلوم يقتله الحزن على فقد أبيه.
رمسيس في كل مكان
وفي ذلك الربط الذي يحاول أن يقدمه عمرو بين قصته، وقصة أبيه في الجزء الأول من الفيلم، مع التمثال، يبدو الأمر أشبه بقصيدة مرتجلة، أو أن رساما التقط ريشته وقرر الرسم عفويا، لذلك يثير الفيلم أسئلة مثيرة للاهتمام، في مواضيع تتعلق بالسلطة السياسية والأبوية، لكنه لا يستكشفها بشكل كافٍ.
ويصبح الأمر في بعض الأحيان استدعاء صور وأحداث منتقاة من الذاكرة، للتذكر وحده، ويحافظ على طابعه الممتع والجمالي في تلك الناحية كأنه أنشودة للذكريات، حلوها ومرها. وفكرة المشاعر والذكريات تلك يؤكدها عمرو ذاته في الفيلم بقوله “يمكن للإنسان أن يكتشف بإحساسه أكثر كثيرا من عينه”.

وإلى جانب أهمية تمثال رمسيس عند عمرو، نستعرض أهمية أكثر اتساعا، فيظهر استخدامه في عدد من أفلام الرسوم المتحركة، وفي مجال الإعلانات، حتى أن الفيلم يستمد عنوانه من عنوان إعلان في الستينيات، استخدمت فيه شركة مثلجات التمثال الشاهق في ميدانه، وقد أثار هوس المصريين حتى استهلكوه في الأفلام والمسلسلات والكاريكاتور والأحاديث اليومية أمثولةً ونكتة وعلامة أيضا.
رواة آخرون للقصة
في عام 2006، صدر قرار بنقل تمثال رمسيس من مكانه، وكان ذلك القرار بداية حثت عمرو على ما يربط مصائر البشر بأقدار الحجر، كما يذكر في تعليقه الصوتي على الفيلم.
ولذلك يحفل الفيلم بكثير من اللقطات الأرشيفية صورا وفيديوهات، التقطها عمرو بعدسته، وتلك ميزة أخرى تعد في جماليات هذا الفيلم، الذي يضيف إلى تاريخ مدينة القاهرة المرئي، بعد ما غُيرت هويتها وشُوهت كثيرا في السنوات الماضية.

في هذا الصدد يمكن تصنيف فيلم “رمسيس راح فين؟” موازيا من الناحية التصويرية لأهمية أفلام رسخت صورة القاهرة في سنوات تحولات عاصفة، مثل فيلم “الحريف” (1983) لمحمد خان وقاهرة الثمانينيات بعد الانفتاح.
هنا أيضا يركز عمرو بيومي -في تتبعه لمسار التمثال- على مدن وشوارع ومساحات إعلانية على الجسور، وأناس بملبسهم ومأكلهم وأنواع هواتفهم، يمكنهم أن يرووا حكاية عن قاهرة العقد الأول من الألفية الجديدة.

ومن ناحية المونتاج والموسيقى، نحضر فيلما عرض سيلا من الصور والفيديوهات والمجلات ولقطات من أفلام، واستطاع أن يروي قصة حميمية ربما تستطيع أن تحكي نفسها بلا تدخل من الراوي.
ولقد ساعدت الموسيقى على ذلك أيضا من خلال أغاني ومواويل تراثية مصرية، وُضعت في مكانها المناسب، فحين الحديث عن السلطة يحضر موال بدرية السيد “العدل فوق الجميع”، وفي لقطة رحيل رمسيس من ميدانه ووداع الناس له نسمع موال محمد طه “بكرة السفر يا حبايب”.
وللفيلم نمط موسيقي رائع، يتمثل في الموال النادر “عم يا جمال”، وبتكامل المونتاج مع الموسيقى، لم يحتج عمرو إلى أن يتدخل راويا في الحكاية كثيرا، بل إن صمته في الفيلم قد يبلغ ربع الساعة، وهو لا يتجاوز 55 دقيقة.
رحلة رمسيس وعمرو.. إنسان يبني علاقة عميقة مع تمثال
الفيلم بصفته منتميا إلى نمط أفلام “الرحلة” أو الطريق، يصنع عالمه وخريطته، وللخرائط دور تلعبه داخل الفيلم، وأغلبها خرائط رسمها عمرو بذاته، لتعبر عن طرق تفاعله مع التمثال، منطلقا من النقطة الأولى من بيته في حي السكاكيني الذي يبعد عن التمثال كيلومترات قليلة.
وهو يؤكد هنا فكرة الفيلسوف الفرنسي “ميشال دي سارتو” عن “الخرائط غير المرئية”، التي يصنع بها الأفراد العاديون تاريخ المدينة بأنشطتهم اليومية، وتشكل تاريخا خفيا للمدينة.

ولا تبدو الحميمية في الفيلم غريبة، فبمرور الدقائق لا يبدو غريبا في نظرنا أن نشاهد ما يجعل إنسانا يكوّن علاقة مع تمثال، وأن تصل إلى حد الشغف بتصوير رحلة نقله، ثم صناعة فيلم منها فيما بعد عن قصة حياتهما، هو وصديقه التمثال كما سماه.
إنها نظرية “شبكة الفواعل” التي طورها الفيلسوف الفرنسي “برونو لاتور”، فهو يرى أن الأشياء غير الحية -كالتماثيل والنصب التذكارية- ذات قدرة مماثلة لقدرة البشر على التأثير والتفاعل مع البشر، مما يعني أن لحظة التحديق في التمثال ليست مجرد فعل بصري، بل هي علاقة متبادلة.
وفي الحقيقة، تعد عملية التأمل والتحديق تلك -التي هي توأم سمة “السلطة” في الفيلم- دافعا مهما في الفيلم، فالتحديق في الصور والأعمال الفنية في الأماكن العامة لا يتشكل من نظرة محايدة، بل من خلال سياقات ثقافية وتاريخية وسياسية وشخصية.

كل هذا يجعل العلاقة بين عمرو والتمثال تتطور وتتغير بتغير الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي في مصر حقبة بعد أخرى، حتى يودع التمثال الميدان إلى مثواه الحالي، وتنقطع الصلة بينه وبين عمرو، وهو ما يبدو أنه ترك أثرا عميقا وحزينا في نفسية البطل، فلا يذكر موقع التمثال الحالي، ولا ما ذهب إليه، ولا يأتينا بصورته في موقعه الحالي، وكأنه قصد إنكارا لموت الصديق، ليبقى السؤال بلا إجابة “رمسيس راح فين؟”.