“بُناة الشعاب المرجانية”.. رحلة مع الأبطال الذين يعيدون الحياة إلى قيعان البحار

أسئلة كثيرة تواجه البشرية اليوم، وهي تُطرح بقوة منذ زمن، وتتعلق بكيفية مواجهة التحدّيات المتفاقمة، المتمثلة في ظواهر الاحتباس الحراري، واختلال التوازن البيئي واحترار المحيطات السريع، والصيد الجائر، والسياحة المفرطة، يرافق ذلك دور حيوي بمجتمعات المحيطات في مواجهة هذه المشكلات، ومنها الأهمية الكبيرة لاستعادة الشعاب المرجانية في كوكبنا.

الانجذاب لجماليات الشعاب المرجانية بوصفها مكانا سياحيا

إنها ليست تلك الشعاب ذات الجمال الاستثنائي التي يصورها الغواصون، بل هي البيئة الطبيعية الخصبة لملايين الأسماك، والمصدّ الطبيعي للعواصف البحرية. لكن السؤال هو: ما العمل بعد فقدان أكثر من نصف تلك الشعاب المرجانية في العالم حتى اليوم، لا سيما والبحار مهددة بفقدان 90% مما بقي في العقدين المقبلين ما لم يتدارك هذا التحدّي؟

استرجاع ذاكرة المكان منذ الصبا

في مشهد لافت للنظر، يجلس الصياد “سمايلا” متأملا تلك المساحة البحرية المحيطة بجزيرة بونتوسوا في إندونيسيا، يسترجع أيام طفولته وصباه وهو يركض في أزقة القرية، ثم ننتقل معه وهو يغوص في القاع، معبّرا عن تلك العلاقة الوشيجة المبكرة مع الشعاب المرجانية، التي لم تنفك عن ملامستها والتعرف على خباياها.

إعداد الهياكل الحديدية تمهيدا للنزول بها إلى قاع المحيط

يوازن الوثائقي في هذا المدخل ما بين العودة إلى الماضي، وبين تصوير المكان الشاعري، وفي وسط ذلك تلك الشخصية البسيطة، تعبّر عن نفسها بتلقائية، وهنا يوازن الوثائقي بين الكشف عن المكان والشخصية، لينقل لنا إحساسا وجدانيا عميقا للصلة التي تربط الصياد الإندونيسي بواقع نشأ عليه، وطبيعة مزدهرة تفاعلت طويلا مع ذاكرته. لكن التحوّل في ذلك المدخل السلس يتمثل في صدمة السؤال: ماذا جرى بعد أن بلغت العشرين من العمر؟

لقد بدأت الشعاب المرجانية تتحطم تباعا، وهي تتحول إلى هياكل هشّة وخاوية، ثم ما تلبث أن تتحول إلى رماد في تقهقر غريب واكب استخدام المتفجرات لغرض صيد الأسماك، لكن النتيجة أن الأسماك افتقدت بيئتها الطبيعية ولم يعد الصيادون يعثرون على ما يحتاجونه من سمك ليصيدوه.

ملاذات آمنة تتلاشى في قاع المحيط

في موازاة تلك الشهادة التلقائية من ذلك الصياد الإندونيسي، نجد قراءة علمية لما تحدّث به، وإجابة لسؤال: ماذا تغير عندما بلغت العشرين من العمر؟

يجيب البروفيسور “ديفيد سميث” أستاذ علوم الأحياء البحرية، قائلا إن الأنظمة البيئية في المحيطات مهددة برمتها، وأولها وأهمها الشعاب المرجانية. وهنا نقارن بين عالمين؛ عالم الشعاب المرجانية المزدهرة، يوم كانت هياكل شاهقة ووديانا عميقة، بل إن كل منها مدينة حيوية في حد ذاتها تستقر في قاع المحيط، توفر مصادر إثراء بيئي واقتصادي لا تقدَّر بثمن، فهي توفر الغذاء للكائنات البحرية، وتشكل حواجز طبيعية مقاومة لتآكل السواحل.

الوثائقي حقق موازنة بين الحقائق والإحصاءات وبين جماليات البيئة البحرية

لكن عواقب الدمار واختلال التوازن البيئي، تتعدى احتياجات مجتمعات الصيادين المباشرة إلى اختلالات جسيمة غير مسيطر عليها، لها انعكاسات خطيرة على النظام البيئي.

بهذه المقابلات يحرص المخرج على إيجاد توازن موضوعي، ما بين المعلومات المجرّدة والمباشرة التي قدمها للمُشاهد، وتظهر تنامي انهيار الشعاب المرجانية، وتأثيرات ذلك على النظام البيئي كله، وبين كشف الوقائع واليوميات التي يعبر عنها ملامسون لذلك الواقع، وبذلك صرنا نطرح مع أنفسنا سؤالا محيرا، خلاصته: ما السبيل لإنقاذ الشعاب المرجانية أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟

خسائر جيران الشعاب المرجانية

ينتقل بنا الوثائقي إلى مزيد من المعطيات، تكشف أهمية الشعاب المرجانية في حفظ التوازن البيئي، بل إلى حقائق تتعلق بالاقتصاد. إنه نوع من اقتصاد البحار، لا سيما عندما نعلم أن حجم ذلك الاقتصاد يعادل ميزانيات دول، فالشعاب المرجانية يعتمد عليها في الغذاء ما لا يقل عن 500 مليون إنسان، إما اعتمادا مباشرا أو غير مباشر، وحماية المناطق الساحلية، وكونها تيسّر سبل العيش.

ويعيش أكثر من 275 مليون إنسان من جميع أنحاء العالم في المناطق المجاورة للشعاب المرجانية (ضمن 30 كم من الشعاب وأقل من 10 كم من الساحل)، ويعيش نحو 850 مليون شخص في حدود 100 كم من الشعاب.

غواصون يقومون باقتطاع أجزاء حية من الشعاب المرجانية لإعادة استنباتها

وفي البلدان النامية، تسهم الشعاب المرجانية بنحو ربع مجموع المصيد السمكي، فتوفر الغذاء لما يقدَّر بمليار إنسان في آسيا وحدها.

كل هؤلاء هم الخاسرون الذين يقدمهم الوثائقي، متنقلا بين مجتمعات المحيطات من إندونيسيا إلى جزر هاواي إلى سواحل أستراليا إلى كينيا، وكل ذلك يقوم على أساس حقيقة مشتركة، خلاصتها انهيار نظام الشعاب المرجانية، وحماسة أولئك السكان للانخراط في برامج إنقاذ تلك المستعمرات البيئية الجاثمة في قاع المحيطات.

صيادون محليون يتدرّبون على مهمة إعادة استنبات الشعاب المرجانية

إنها الشعاب المرجانية التي تغطي أقل من 1٪ من سطح الأرض، لكنها في ذات الوقت تضم أكثر من 30٪ من جميع أنواع الأسماك البحرية، وحيث تنتمي إليها آلاف من الأنواع السمكية وتجد فيها ملاذاتها الآمنة.

نجم الشعاب المرجانية المنقذ

في ظل تدهور تلك العوالم الفاعلة في التوازن البيئي، تصبح مهمة إنقاذ ما يمكن إنقاذه مهمة وتحدّيا، وهو ما تضطلع به جمعيات ومؤسسات ومتطوعون وباحثون، وهؤلاء ينتشرون في كثير من بلدان العالم، ولا سيما في تلك المناطق التي تترامى على المحيطات، وتتآكل فيها تلك الكنوز البيئية.

والمبادرة التي يقدمها الوثائقي مبنية على خبرات هؤلاء، تُستعرض منذ بداياتها المبكرة، أي من تحديد حجم الكارثة، وبذلك يكون الوثائقي جرس إنذار، يعرض جسامة الموقف، كما يقدم صورة حيّة لأولئك الذين تصدّوا للمهمة، وهم يتدرّبون على الإنقاذ ابتداء من إندونيسيا.

مراحل غرس المقاطع الحديدية لتثبيت نجم الشعاب المرجانية

يتجمع صغار الصيادين والمتطوعين رجالا ونساء، وهم يصنعون نجم الشعاب المرجانية، وهو هيكل حديدي لا يتعدى مترا أو مترا ونصفا طولا وعرضا على هيئة سداسية، وله ركائز تمكن من تجليسه في القاع، وخلال ذلك تُلصق القطع المرجانية على ذلك الهيكل وتنزل، ثم يُحفر قليلا في القاع لتثبيته.

ومن هنا تبدأ رحلة الإنقاذ، فتكون المفاجأة أن تلك القطع من الشعاب المرجانية التي اقتُطعت وأعيد إنعاشها قد عادت إلى الحياة بمرور الزمن، وعادت ملاذا للأسماك وللكائنات البحرية.

كما يسلّط الفيلم الضوء على مبادرة “أمل ينمو”، وهو من أكبر مشاريع ترميم الشعاب المرجانية في العالم، بوصفه برنامجا للحلول المستدامة.

غواصون يقومون بتثبيت الهياكل السداسية في مشروع إنقاذ الشعاب المرجانية

وها نحن مع نجم الشعاب المرجانية ننتقل إلى كينيا، حيث تنشط منظمة “بناة الشعاب المرجانية” في كينيا، في مقابل شعاب “مور” في أستراليا، و”أواهو” في جزر هاواي، بقيادة كبير علماء البحار البروفيسور “ديفيد سميث”، وبالتعاون مع المجتمعات الساحلية والمنظمات غير الحكومية، لتوسيع شبكة برامج استعادة الشعاب المرجانية.

يتحدث البروفيسور “سميث” قائلا: لقد شهدت عقودا من تدمير الشعاب المرجانية، بسبب سرعة ارتفاع درجات حرارة المحيطات، والصيد الجائر، وارتفاع مستويات التلوث بجميع أشكاله، واختلال التوازن البيئي، ولهذا فإن استعادة الشعاب المرجانية في العالم ليست مهمة تقوم بها جهات منفردة، بل تتطلب تكاتف مجتمع المحيطات والشركات والمتطوعين والعلماء من جميع أنحاء العالم، للالتفاف حول بُناة الشعاب المرجانية ومساندتهم وتوسيع نطاق جهودهم.

تجربة الصيادين والمتطوعين في إحدى الجزر الإندونيسية حققت نتائجها

تتحدث “أولي كرافاليو”، الممثلة والمدافعة عن البيئة، والمنتجة المشاركة في منظمة “بناة الشعاب المرجانية”، عن نفسها في نفس ذلك الإطار الذي يكرّسه الوثائقي في اختيار شخصيات نوعية، تقول: “نشأتي في جزر هاواي علّمتني كم نحن محظوظون بالعيش في انسجام مع محيطاتنا، ولهذا فإن من المهم والجوهري بالنسبة لي أن أندفع باتجاه حماية حديقتي الخلفية، وحيث إن هذا الفيلم يتيح للجمهور من حول العالم فرصة التعرف على ما نحن فيه وما هو آت، فضلا عن الأهمية الحيوية لاستعادة الشعاب المرجانية”.

حلول مشكلة صنعتها يد الإنسان

ها نحن ننتقل مكانيا إلى أوهو في جزر هاواي، حيث يواكب الوثائقي تشخيص السكان لواقعهم البيئي، وجوانب من سيرة حياتهم على مدى عقود، حتى نصل إلى مرحلة تدهور صحة المحيط عموما، وهي ظاهرة عالمية تشمل محيطات أخرى، وتشترك كلها من زاوية أخرى في تدمير الشعاب المرجانية.

بناة الشعاب المرجانية في جزر هاواي يواصلون المهمة

يوظف الوثائقي الشهادات المتعددة، لتعميق المادة العلمية والغوص في تفاصيلها، وهي عملية استقصاء متواصلة، يتتبع فيها ما آلت إليه الحالة في كل بيئة تنمو فيها الشعاب المرجانية، وحيث تتدهور حالة المحيطات بالتزامن مع تدهور حالة تلك الشعاب المنسية في قاع المحيط.

إنها قصة أمل وصمود بشري، فرؤية الشعاب المرجانية تعود إلى الحياة في تلك الجزر النائية، هي في حد ذاتها تجربةٌ مؤثرة، وهنا يقدم الوثائقي نوعا من المشاهدة اليقظة، ويطرح عدة أسئلة لا يرغب كثيرون بطرحها على أنفسهم، متجاهلين حجم الكارثة.

زورق محمّل بهياكل حديدية تمهيدا لإنزالها الى قاع المحيط

تقول “أولي كرافاليو”: أردت رد الجميل لمجتمعي في هذه الجزيرة، وبما أنني جزء من برنامج ترميم الشعاب المرجانية، فقد أتيح لي التعاون مع العلماء والصيادين والغواصين في هاواي، للمساعدة في تطبيق هذا الحل لمشكلة هي أصلا من صنع الإنسان، وأن مشاهدة الفيلم الوثائقي “بُناة الشعاب المرجانية” يسهم في رفع مستوى الوعي بمشكلة ستؤثر علينا جميعا في نهاية المطاف وعلى نطاق عالمي.

معركة تراهن على العلم والإنسان

ينحو الوثائقي منحى استقصائيا في تتبعه للأزمة القائمة، ويوصلنا إلى قناعة خلاصتها أن لا أحد يرغب في رؤية الشعاب المرجانية تختفي، لكن التوقيت ملحّ للغاية؛ فالشعاب المرجانية تسابق الزمن قبل أن تزول، ويقدّر الباحثون أن أكثر من نصف الشعاب المرجانية في العالم فُقدت بين عامي 1957-2007، وإذا لم يحدث تغيير، فقد نفقد 90% مما بقي في العقدين المقبلين.

مشروع الأمل لإحياء الشعاب المرجانية ينتشر عبر المحيطات

ولا تزال الشعاب المرجانية -على أهميتها- غائبة عن الأنظار، إذ يظهر بحث جديد أن 73% من الناس يقلّلون من أهمية الشعاب المرجانية التي فقدناها.

هذه الفجوة في الوعي جزء من المشكلة، وهي من أسباب إنتاج هذا الفيلم الوثائقي، في موازنته ما بين الحقائق والإحصاءات العلمية، وبين الترويج للمهمة الإشكالية التي يواجه فيها أفراد قلائل في كل بلد هذا النوع من الخسارة، فالشعاب المرجانية تحمي الشواطئ من العواصف والتآكل، وتدعم الثروة السمكية العالمية، وإذا فقدنا الشعاب المرجانية نكون قد فقدنا أكثر بكثير من مجرد شيء جميل نستمتع بالغطس فوقه.

سكان محلّيون وصيّادون يواصلون العمل في مشروع إنقاذ الشعاب المرجانية

والحاصل أن الفيلم لا يقدم مجرد جرس إنذار بإقران المعلومات العلمية ولغة الأرقام بجماليات الصورة الوثائقية، بل إنه يقدّم لنا لمحة نادرة ومفعمة بالأمل عن المجتمعات التي تكافح للعيش في 4 مناطق ساحلية من إندونيسيا وهاواي وأستراليا وكينيا، وكل منطقة تعيد إحياء المرجان بطريقتها.

مع أن استعادة الشعاب المرجانية في العالم ليست مهمة يمكن فعلها بانفراد، بل تتطلب تكاتف مجتمعات المحيطات، والمؤسسات المعنية بعلوم البحار، وتلك التي تعنى بالبيئة والكائنات البحرية من جميع أنحاء العالم.

غواصون يرصدون عودة الحياة الى بيئات بحرية انتعشت فيها الشعاب المرجانية من جديد

وفي هذا الصدد يقول البروفيسور “ديفيد سميث”: مع أننا شهدنا نجاحا واعدا منذ انطلاق البرنامج، فإن الطريق لا يزال طويلا أمامنا في هذه الرحلة. إن كسب دعم جميع من يشاهد هذا الفيلم الوثائقي سيساعد على المضي قدما في هذا البرنامج.

نختم بحقيقة وجود نحو 800 نوع من الشعاب المرجانية، يعدّها بعض العلماء بمنزلة الصناديق الطبية في القرن الـ21، فأكثر من نصف أبحاث الأدوية الجديدة لمكافحة مرض السرطان تركز على الكائنات البحرية، علاوة على استخدام الشعاب المرجانية في علاج السرطان، وفيروس نقص المناعة المكتسب، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والقرحة، وأمراض أخرى.

عودة الحياة إلى الشعاب المرجانية بعد حملات إعادة الترميم

عرض هذا الفيلم الوثائقي أول مرة في فعالية “السجادة الزرقاء”، التي أقيمت في متحف التاريخ الطبيعي بلندن في 10 أبريل/ نيسان الماضي.


إعلان