الإسكندرية.. مدينة التكوين المتعدد منذ النشأة حتى أمس القريب

الإسكندرية لؤلؤة المتوسط، ومدينة السلام والأجناس المتعددة، كما أرادها مؤسسها الإسكندر المقدوني. تعاقبت عليها القرون والأجيال، وما تزال الأمواج تمازح صخورَها ورمالها، وتحكي لها عن حوريّات البحر والمدائن البعيدة، وتستودعها أسرار العاشقين.

كتب عنها الأدباء وتغنّى بها الشعراء بألسنة شتى، وأنتجت لها الجزيرة الوثائقية فيلما شائقا، التقت فيه أبناءها من كل لون وجنس، وتحدثوا عن مدينة التسامح والتعايش، وحكوا عن قصص النجاح التي أسّس لها الأجداد، وتابعها الأحفاد. وعرضت الفيلم على منصاتها تحت عنوان: “تلك الإسكندرية”.

مدينة التكوين المتعدد منذ أسسها الإسكندر

عندما نتجول في شوارع الإسكندرية وأحيائها، تستوقفنا أسماء مقاهيها ومتاجرها، وطرز مبانيها القديمة وأيقوناتها، التي تشير إلى تاريخ بنائها أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20. وسندعها تروي قصتها بألسنة من سكنوها وعايشوا أحداثها.

يقول د. مصطفى العبادي، أستاذ التاريخ ورئيس جمعية الآثار بالإسكندرية: ولدت الإسكندرية بفكرة عالمية من أفكار بانيها الإسكندر، وهي التكوين المتعدد، من أهل البلد وحامية مقدونية من الجنود، وجالية يونانية من الذين كانوا يسافرون وراءه، “فالمجتمعات المختلطة المتعايشة تكون أقرب للسلام، فتمتزج ثقافاتها وتذوب الفوارق بينها”، بحسب أبي التاريخ هيرودوت.

منظر عام لمدينة الإسكندرية

نمت المدينة وازدهرت ازدهارا كبيرا في قرنها بنائها الأول، وألحِقت بمكتبتها معامل للبحث العلمي، ومرصد لدراسة الأفلاك، وحديقة نباتات وحيوانات لخدمة العلماء، فلا تكاد توجد مدينة بهذا المستوى المذهل من الإمكانات يومئذ.

كانت علاقة مصر واليونان قوية جدا، وكانت اليونان تستورد القمح وورق البردي من مصر، ومصر تستورد منها الأخشاب والفضة لسك النقود. وفي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد كانت روما هي السلطة العليا في حوض المتوسط، وكانت مصر دولة مستقلة تحت حماية الرومان، وكانت الإسكندرية متميزة اقتصاديا، ولكن ثقافيا لم يمنح الرومان الرعاية للعلماء كما فعل اليونان.

تمثال الإسكندر المقدوني

وفي زمن المماليك شهدت الإسكندرية ومصر عامة ازدهارا اقتصاديا، وأنشأت إيطاليا مراكز في الإسكندرية، وكانت الميناء الرئيس، وأصبح لكل جالية أجنبية فندق وقنصل من فرنسا وإسبانيا وإنجلترا.

يقول “إدموند كاسيماتس” السكندري اليوناني الأصل قائلا: تأسس محل “مِنيرفا” سنة 1908، أسسه والدي “نيكولا جاك كاسيماتيس”، الذي جاء من اليونان في 1885، ويحمل ملف ضرائب محل “منيرفا” رقم 1، ومحل “سالفاجو” رقمه الضريبي 19، وصاحبه هو مؤسس مدارس “سالفاجو” التي درستُ فيها في الخمسينيات.

المقابر اليونانية في الإسكندرية

ويتابع: ولدت في الإسكندرية سنة 1938، ودرست في مدرسة “توسيتسيا” اليونانية الابتدائية، وكان مثلها العشرات في الإسكندرية، حيث يسكن عشرات الآلاف من الجالية اليونانية، ولهم مدارسهم ونواديهم وجمعياتهم.

تحديث مصر.. محمد علي باشا يستقطب الأوروبيين

في النصف الأول من القرن الـ20، كان لليونانيين 16 مدرسة ومستشفيان ودار للأيتام وأخرى للمسنين، تكفّل ببنائها أثرياء الجالية، وبدأ كل ذلك بدايات القرن الـ19 بدار لرعاية شؤون الجالية، وكان عددها يومئذ في زيادة مطّردة، فقد كانت الإسكندرية العاصمة التجارية للدولة المصرية الحديثة، التي شرع في تأسيسها محمد علي باشا.

يقول د. محمد عوض، أستاذ العمارة ومدير مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط: بدأ محمد علي مشروع التحديث بوضع أسس نقل الحداثة من تركيا وأوروبا، ودعوة الأوروبيين للهجرة إلى مصر، وذلك بعد أن كانت مدينة متدهورة، فقد تولّت عنها التجارة الأوروبية باتجاه رأس الرجاء الصالح.

محمد علي باشا الكبير

وفي 1807 اتُخذ قرار بتحديث المدينة وتطوير مينائها لاستقبال السفن الكبيرة، وشقّ قناة جديدة للمياه العذبة من النيل. والمدينة من ناحية العمران قسمان؛ هما القديم العثماني، والحديث الذي بناه الأوروبيون في 1834، ويبتدئ هذا القسم بميدان القناصل، الذي يمثل تعددية المدينة من الإنجليز والفرنسيين والطليان واليونانيين. وبناء المؤسسات كمجلس التخطيط والصحة والبورصة ومجلس الجاليات.

يقول “أوزفالدو لاتيرسا” السكندري الإيطالي: ولدتُ في الإسكندرية سنة 1928، جاء جدي في 1850 وافتتح محل نجارة، وجاء جدي من أمي في 1900، وعمل بَنّاء في مصلحة السكة الحديد، كنا نلعب معا مع الصغار من مصريين ويونانيين، وكانت الحياة حلوة، ومنهم تعلمت اليونانية والعربية.

الإسكندرية.. مدينة التسامح والتعايش والتنوع

يوصف حكم محمد علي بالانفتاح على كافة التيارات السياسية والاجتماعية في القرن الـ19، والتسامح الديني الذي لم يكن غريبا على الإسكندرية، فقد كانت ملتقى أفكار وأديان طوال تاريخها، وارتبط اسمها بتاريخ الكنيسة الشرقية، وشهدت في القرن الخامس انفصال الكنيسة المصرية القبطية عن اليونانية الأرثوذكسية. ووصلت إلى 14 كنيسة زمن محمد علي.

ومن الأرمن الصيدلاني “غاربيت أنصوريان”، المولود في الإسكندرية سنة 1932، وقد جاءت أسرته من تركيا في 1914، وكذلك “ريبيكا بوهجيليان” القادمة من إسطنبول سنة 1928 وكان عمرها 4 سنوات، وكانت عائلتها تعمل في البقالة وتصنيع السَّمنة وبيعها تحت العلامة التجارية “وردتان وطبّاخة”. والأرمن اليوم يمتهنون الخياطة وصياغة الذهب والتجارة.

ميدان القناصل، “المنشية” حاليا

ويرتبط أرمن مصر بمحمد علي باشا ارتباطا وثيقا، فقد أمِنهم على مصر اقتصاديا وإداريا، وتقلد 5 منهم منصب ناظر التجارة والأمور الإفرنجية خلال القرن الـ19، ومقره الإسكندرية، ومنهم “نوبار باشا نوبريان” الذي أصبح لاحقا أول رئيس لحكومة مصرية، ومنهم “بوغوص يوسفيان”، كاتم أسرار محمد علي و”أبو الأرمن” في الإسكندرية، فقد شجعهم على الهجرة وتبرع بأملاكه لبناء مؤسسات الجالية.

احتلال مصر.. قوات بريطانيا تنغص حياة السكندريين

جاء عام 1882 بالقلاقل والمشادّات بين الأجانب والمصريين، وامتزجت ثورة عرابي بتورط الخديوي إسماعيل ماليا مع الدائنين الأجانب، فدخلت على إثرها القوات البريطانية، وضربت الإسكندرية واحتلت مصر، ولكن الإسكندرية حظيت باهتمام لدواع اقتصادية، ولتستمر حركة الميناء لتصدير القطن إلى بريطانيا، واستمر كذلك تدفق الأجانب.

مبنى البورصة

يقول “إدموند كاسيماتس” السكندري اليوناني الأصل: كان تصرف الفرنسيين والبريطانيين بهدف السيطرة على البلاد والتحكم في إرادة أهلها، أما الجاليات الأخرى مثل اليونانيين والطليان والأرمن وغيرهم، فكان هدفهم الاستقرار والعيش في أمان والعمل وكسب المال، بسبب الظروف السيئة التي عاشتها أوروبا يومئذ. لقد اختلط اليونانيون بالمصريين جيدا، فكان منهم سائق الأجرة والبقّال والخبّاز والنادل.

ويأخذنا حفيد “أوزفالدو” في جولة بالسيارة في شوارع الإسكندرية قائلا: هذه ورشة الخشب التي أسسها جدي، وهذه مخازن القطن التي كان يستخدمها كبار تجار الإسكندرية اليونانيين، مثل عائلة “سالفاجو” و”بيناكي” و”خوريمي”، وهنا مخازن خشب عائلة “ستانيي”، وهذا مقر مكاتب شركة “غيربل” السويسرية للخشب، وهذه ورش ميكانيكا وخراطة للإيطاليين.

عمارة وبضاعة ولغات شتى في مدينة واحدة

أتاحت قوة المدينة الاقتصادية إعادة إعمارها بسرعة، ونشأ في 1890 مجلس بلدي مختلط من المصريين والجاليات، وبدأ إعمار “محطة الرمل” بالتزامن مع إنشاء خط السكة الحديد زمن الخديوي إسماعيل، وكُهرب خط “الترامواي” سنة 1904 ووصل منطقة فكتوريا. وبدأ إنشاء الكورنيش سنة 1905 من الميناء الشرقي، وانتهى بقصر المنتزه في الثلاثينيات.

تمثال الأرمني “نوبار باشا نوبريان”، أول رئيس وزراء لمصر

وكان كثير من الأرمن يسكنون أولا منطقة “كراكون اللبّان”، وكذلك معظم الإيطاليين، ثم ينتقلون منها باتجاه منطقة الرمل، أو أحياء صلاح الدين والعطّارين وكرموز، وكان اليونانيون يتمركزون في العطّارين. ولم تكن جالية معينة تحتكر أحياء كاملة. وقبل 1948 كان عدد يهود الإسكندرية 40 ألفا من جنسيات شتى، ولهم مستشفى ومدارس و8 معابد، وحاخامهم إيطالي.

يقول فتحي الصفتي، وهو من مواليد حي العطارين سنة 1946: كان يشاركنا في عمارتنا يونانيون ويهود، وكنا نخيط أحذيتنا عند العم معروف اليهودي، ويشاركنا في الحي أرمن وغيرهم، ولم نكن نشعر باختلاف الأديان، فأمي لها 3 أولاد، أسمتهم موسى وعيسى ومحمد.

قصف الإسكندرية على يد القوات البريطانية 1882

ويقول د. العبادي: ولدت سنة 1928 في الإسكندرية، وكان والداي يقيمان في فيلا في لوران، كانت ملكا لأسرة يهودية عراقية، لم نكن نشعر بفرق بيننا وبينهم، أولادهم يمكثون في بيتنا أكثر مما يمكثون في بيتهم، ولم تكن في الإسكندرية طائفية تجاه دين أو عرق معين، فالمعماري “ماريو روسّي” هو الذي صمم جامع المرسي أبو العبّاس ومسجد القائد إبراهيم.

وارتفعت أسعار القطن المصري بين الحربين العالميتين، فتحسنت حالة الدولة والأفراد بمختلف أجناسهم من الناحية الاقتصادية، وازدهرت العمارة في الإسكندرية كثيرا، وكان للطليان دور كبير في إعمارها. وسيطر الأجانب عموما على قطاع الأعمال التجارية والصناعية.

بقيت هوية المدينة عالمية بامتياز، فاليوغسلافي يبيع كعكة “الكولوريا” المصنوعة في بلغراد بشارع سعد زغلول، واليوناني يبيع الزيتون المعلّب، والأرمني يبيع البسطرمة. وكانت لغة الشارع فرنسية غالبا، ولكل حيّ لغة أهله، وكان الجميع -ولا سيما التجار- يتقنون 4-5 لغات على الأقل.

ثورة ثقافية في عاصمة السينما بالشرق

عاشت الإسكندرية حياة ثقافية مزدهرة، وعرضت فيها مسرحيات فرنسية قبل عرضها في باريس، وكانت عروض الأوبرا الإيطالية والموسيقى العالمية في مسرح محمد علي وصالة الهمبرا، وكانت المدينة مركز إنتاج ثقافي بفضل أهل الشام في النصف الثاني من القرن الـ19، فأسسوا أول فرقة مسرحية، وأصدروا جريدة “الأهرام” أول مرة في الإسكندرية.

جامع المرسي أبو العباس

وشهدت المدينة في 1896 ثاني عرض عالمي للسينما، وبعدها أنشأ السكندريون أول صالة عرض، وشركة إنتاج، وإستوديو تصوير، ومعهدا لتعليم هذا الفن الجديد، وخلال سنوات أصبحت مدينة السينما في الشرق، وكانت عائلة بهنا المسيحية القادمة من الموصل قد أسهمت في ازدهار هذا الفن في الإسكندرية وعموم مصر.

جذبت الثورة الثقافية في حقبة ما بين الحربين فنانين من شتى دول العالم، فأسسوا مدارس لتعليم الفنون، ومنهم الكاتب الإنجليزي “مورغان فورستر” الذي جاء في مهمة عمل، وكتب أول كتاب له عن مدينة الإسكندرية، ألا وهو “دليل الإسكندرية”، وقد ربطته علاقة متميزة بالشاعر اليوناني السكندري “كونستانتين كَفافيس”.

المعماريان الإيطاليان مصمما جامع المرسي أبو العباس

تقول د. سحر حمودة، أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة الإسكندرية: كانت للشاعر كَفافيس علاقة غريبة بالإسكندرية، فيها شد وجذب، وكراهية وتصالح، ولكن اسمه ارتبط وثيقا بالإسكندرية، ونال شهرة عالمية كبيرة بعد وفاته، وكانت قصائده قصيرة ولكن قوية، على الطراز الحديث بعيدا عن البناء التقليدي للشعر.

وقد فتِن أدباء كثيرون بالإسكندرية وكتبوا عنها، وأنجبت كتّابا وشعراء تبوؤوا مكانة عالمية، منهم الإيطاليان “فليبو مارينيتي” و”جوزيبي أونجاريتي”.

المتوحشون الجدد ينقضون ما بناه العظماء الأوائل

ألقت الحرب العالمية الثانية بظلالها على الإسكندرية ومواطنيها، فسقطت عليها القنابل، وشرخت العلاقة بين أبنائها، ودفع الإيطاليون يومئذ ثمنا باهظا، فتأممت مصالحهم وأعمالهم، واقتيد رجالهم إلى المعتقلات.

دار الأوبرا “قصر الحمراء”

وشكلت حرب 1948 وإعلان دولة إسرائيل حرجا كبيرا ليهود مصر، وكذلك حرب 1956 “العدوان الثلاثي”، فكلها تركت جراحا غائرة في الجسم السكندري المتنوع، حتى جاءت القوانين الاشتراكية سنة 1962، فهرب الأغنياء بأموالهم خوفا من تأميمها، وبقي الناس العاديون من موظفين وعمّال.

تغيّر العالم وتغيّرت مصر، ومعهما تغيرت الإسكندرية، لكن هويتها متعددة الثقافات ظلت تقاوم لتبقى، فماذا بقي من الميراث السكندري؟ هل هي مجموعة مبان وميادين من الطرز القديمة؟ كلا، بل هي الروح السكندرية باقية في نفوس أهلها، يتناقلونها من جيل إلى جيل ولن تضيع.

أول صدور لجريدة “الأهرام” كان من الإسكندرية

يقول “ماسيمو لاتيرسا” حفيد “أوزفالدو”: درستُ في المدرسة الإيطالية، وأكملت في المدارس الأمريكية، أصحابي من اليونانيين والمصريين واللبنانيين والأرمن وغيرهم، ولي حضور فاعل في المجتمع الإيطالي اجتماعيا ودينيا، وتعلمت الموسيقى في المعاهد اليونانية، ولكنني في النهاية إسكندراني، فهذه هي الهوية الجامعة لجميع أهل الإسكندرية.

فالسكندري يفاخر بانتمائه لهذه المدينة، إذا سألته في أي مكان في العالم يقول لك “أنا إسكندراني”، ولا يقول أنا مصري. كان الإمبراطور الروماني يحتكر حق منح المواطنة في الإسكندرية، كما كان ملوك البطالمة من قبلهم. وعندما جاء الرومان فرضوا على كل مصري “جزية الرأس”، وأعفي منها المواطنون السكندريون.

ميدان المنشية “القناصل” سابقا

تلكم هي الإسكندرية يا سادة، المدينة التي انصهرت في بوتقتها الأجناس والديانات والأفكار، فأنتجت مزيجا فريدا من التسامح والتعايش والبناء، المدينة التي جمع شتاتَها الإنسانيون العظماء، وفرّق أهلها المتوحِّشون الجدد، مدَّعو الحداثة وحقوق الإنسان، وهم أبعد ما يكونون عنها.


إعلان