“حالة عشق”.. طبيب تجميل ألقى بنفسه في مجازر غزة
عُرض نحو 194 فيلما من 72 دولة حول العالم في الدورة الجديدة من مهرجان القاهرة السينمائي، المقامة بين 13-22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024.
وقد كان للأفلام الفلسطينية منها نصيب الأسد، فقد شهدت الدورة عرض عدد غير قليل من الأفلام الفلسطينية الوثائقية والروائية.
كان الفيلم الفلسطيني “أحلام عابرة” في مفتتح فعاليات المهرجان، وذلك عرضه العالمي الأول، وهو من تأليف وإخراج الفلسطيني رشيد مشهراوي، ويدور حول سامي البالغ من العمر 12 عام.
يأخذنا الفيلم في رحلة ليوم واحد، برفقة عمه وابن عمه الأكبر، بحثا عن طائره المفقود، وقد أخبره جيرانه أنه ربما عاد إلى موطنه الأصلي.
تمتد الرحلة من مخيم للاجئين في الضفة الغربية إلى مدن فلسطينية شتى، منها بيت لحم والقدس القديمة وحيفا، فنرى ما يحدث لهم وما يجري بينهم من عبث الواقع، والحياة اليومية الصعبة للفلسطينيين، وتأثيرها على شخصياتهم وعلاقاتهم بأنفسهم والآخرين.
إلى جانب ذلك الاحتفاء، استُحدثت جائزة خاصة لأفضل فيلم فلسطيني قصير، من مسابقة أفلام تحت عنوان “المسافة صفر”. يقول مدير المهرجان عصام زكريا للجزيرة الوثائقية إن المنتج جابي خوري عرض عليه التبرع بجائزة خاصة، لتسليط الضوء على الأعمال الفنية الفلسطينية.
وحول عروض أفلام “المسافة صفر” التي صوّرت داخل فلسطيين ما بعد السابع من أكتوبر، تابعت الجزيرة الوثائقية عددا من الرحلات الوثائقية التي اختارها المهرجان، لعمل عروض نقدية عليها تباعا، ومنها فيلم “حالة عشق”.
“حالة عشق”.. سيرة ذاتية تتشابك مع القضية الكبرى
يحكي فيلم “حالة عشق” قصة غسان أبو ستة، وهو جراح فلسطيني بريطاني وناشط في القضية الفلسطينية، وقد قال قبل مدة إن سلطات مطار “شارل ديغول” في باريس منعتنه من دخول فرنسا.
وقد كان مقررا أن يلقي كلمة في مجلس الشيوخ الفرنسي، لكنه مُنع من الدخول بسبب نشاطه في فلسطين.
يسعى الفيلم لتوثيق رحلة الطبيب غسان أبو ستة في فلسطين، عن طريق مخرجتين؛ هما كارول منصور ومنى خالدي، وهما من أصدقاء عائلة أبو ستة، فتوثقان كل حركاته، لرصد رحلته في قلب المأساة الفلسطينية، من الجانب الطبي.
يصبح محور الفيلم محاولة التفكير بإعادة تعريف السيرة الذاتية، فمع أنها ذات استثنائية مطلقة، فإنها تأخذ شكلا جماعيا في حالة غسان، بدءا من اسم عائلته المنسوب للقرية الفلسطينية التي جاء منها، ثم محاور الحديث الذاتي معه، النابع من أهميته العامة للقضية.
حتى أن اقتحام حياة أبو ستة الأسرية يأتي في إطار تفاعل العائلة مع غيابه، وحضور القضية الطاغي على حياة الجميع.
لذلك قد يبدو هذا الوثائقي في المقام الأول -قبل أي تحليل- بمنزلة وثيقة سياسية مهمة، تلقي الضوء على فلسطين هنا والآن، فيتداخل لديه الخاص مع العام، ويكتسب قيمة حياته أو معنى وجوده من محورية القضية، سواء قرر دعمها والتضحية في سبيلها، أو هجرها وحيّد نفسه عنها.
“يبدو الأمر إنسانيا قبل كل شيء”
على خلفية المهرجان، حاورت الجزيرة الوثائقية كارول منصور ومنى خالدي، وهما مخرجتا فيلم “حالة عشق”. تقول إحداهما إن خطابات مثل تلك التي يقدمها الفيلم باتت ضرورية أكثر من أي وقت مضى، لأن الإبادة مستمرة والسكوت عنها مستمر.
لذلك فطرح الجرائم من الجانب التاريخي، ربما بات نوعا من الواجب على الصنّاع إلى الناس، فالهدف من كل ذلك في الأساس دحض الظلم عن الفلسطينيين وغيرهم.
ثم تقول الأخرى إننا في النهاية نعمل في المجال الإنساني، ولذلك يبدو الأمر إنسانيا قبل كل شيء.
وترويان أنهما كانتا بالأساس تستهدفان الجمهور العام، لكن بشكل أخص المجتمعات الطبية العالمية، فقد بات من واجبها إدانة ما يحدث طبيا على الأقل، ودفع من لم يحسموا قرار دعمهم -مع كل ما يحدث- إلى إدانة الإجرام.
وعند سؤالهما عن الدافع العام الذي جعلهما تعملان على هذا الفيلم وتنجزانه في أقل من عام، قالت إنهما وجدتا أن الموضوع قد طرح نفسه على الجميع لعمله.
فبمقارنة ما يحدث وجدتا لديهما تواصلا مباشرا مع غسان وأسرته، فهما على علاقة جيدة بالعائلة، لذلك كان القرار الصائب هو تسجيل شهادة الرجل وتوثيقها.
تبرر إحداهما أثناء الحديث أن الأمر لا يقتصر على توثيق شهادة، بل إنهما متعايشتان مع هذا الواقع الذي يدفعهما لطرح قصتهما كذلك، مع الرجل الذي نال شهرة طاغية، تسببت في غضب الاحتلال.
ما يبدو مثيرا للسخرية أنهما كلتيهما قدمتا للمهرجان من لبنان المحاصر، الذي توسّعت إليه الحرب بعد الانتهاء من الفيلم، حتى أن مونتاجه ووضع البصمات الأخيرة عليه حدث أثناء القصف على لبنان نفسها.
يبدو الأمر بعيدا نسبيا، لكنه أقرب تماما للتوثيق العام، الذي يعني للبنان ما يعنيه لفلسطين المحتلة.
أداة السينما.. خطاب قوي قادر على التأثير
كان السؤال الأبرز هو كيفية إيجاد وقت مستفيض للتسجيل مع رجل لا يجلس مع عائلته إلا قليلا، فتجيبان بأن علاقتهما به قوية جدا، وأنه آمن بخروج الفيلم، الذي يحمل قوة أكبر من المقابلات التلفزيونية السريعة التي يسجّلها، بل قد يصل إلى قطاعات مختلفة نوعيا عن مشاهدي التلفزيون.
أضف إلى ذلك ثبوته في التاريخ، بوصفه قصة تكشف الإجرام الطبي، الذي لا يتعلق بالحرب حتى لمن يبررها.
ترى المخرجتان أن السينما ليست فنا من أجل الفن، بل أداة ذات خطاب قوي يمكن أن يؤثر أو يترك انطباعات للجميع.
وتقولان إن لديهما حملة تأثير، لتوسيع الجمهور الذي يمكن أن يشاهد هذا الفيلم، تتحركان لعرضه بعد المهرجان في جامعات ونقابات ومدارس وحملات مناصرة. ويمكن أن يصبح الفيلم -مع أعمال أخرى- وسيلة ضغط لصناعة تغيير حقيقي لوقف الإبادة.
في الفيلم السابق “عايدة”، استخدمت المخرجة كارول منصور الأمر ذاته في التأثير، فاختارت رواية القضية في أماكن شتى، والنظر إلى جمهور أوسع، قد يكون فيه من لم يحسم قراره في إدانة الصهيونية، وما تفعله على مستويات شتى.
السابع من أكتوبر.. مأساة غيرت حياة طيبب التجميل
يبدأ الفيلم من مساحة مختلفة تماما عما يمكن توقعه؛ فنرى إنسانا مجهولا يبحث في موقع “غوغل” عن أطباء عمليات تكبير الشفاه.
يظهر اسم غسان أبو ستة في بداية البحث، بوصفه طبيبا استثنائيا لعمل تلك العملية التجميلية، التي تبدو ظاهريا خاصة بطبقة بعينها في مجتمع “رفيع”.
وبينما نرى الرجل يتحدث بأريحية عن عالم الطب التجميلي التكميلي، نشاهد تحولا مفاجئا يظهر على وجهه في مشهد تالٍ، فتتسارع حركة الكاميرا وحدّة المونتاج وسرعة الكلمات، لتظهره يتحدث عن المأساة التي بدأت في السابع من أكتوبر، فجعلته يترك إقامته وعمله في طب التجميل ببريطانيا، ويذهب إلى غزة.
تنتج هذه المفارقة من اللحظة الأولى إغراء نسبيا في استكمال الفيلم.
على حافة الكرسي.. رجل أعادت الحرب تشكيله
بين الأريحية التي تركها الرجل في إنجلترا، والعودة لمنطقة حرب، نرى قضية ومصيرا وشيئا أبعد من التضامن، حول مدى ما يؤمن به ليجعله يفعل ذلك، إنه شيء فلسفي يحرّك الإنسان، أو يجعل راحته في قلب الخطر.
يبدو تاريخ الرجل متوافقا تماما مع الحديث الفلسطيني، فقد حضر كل المعارك الإسرائيلية الفلسطينية منذ التسعينيات.
كان ثمة شيء يستدعي التأمل في جلسة الرجل، أثناء حواره مع المخرجتين، فهو يجلس على حرف الكرسي أو فوقه تماما، كأن الريح تحته، فهو لا يحب الجلوس، ويبدو أنه لم يعتده.
لقد أُعيد تشكيله في المجزرة، فالصراخ في رأسه وصور القتلى والجرحى تتملّكه. ويبدو مستعدا دائما لترك التصوير والذهاب مرة أخرى إلى غزة.
يقول الرجل إن المؤذي أثناء العمليات، هو رؤية الأشياء الطبيعية، مثل الملبس والزينة والأشياء البسيطة، التي تزيّن الفقراء الذين يعالجهم.
مشاهد هوليود الحقيقية في غزة.. معركة مرة
يتحدث غسان عن اللحظة التي وُلد فيها طفل بعد 40 يوما من الحرب، فقد كانت لحظة استثنائية لديه، وربما في تلك اللحظة تحديدا يمكن أن يتداخل شعور المتفرج، بين كونه يشاهد وثائقيا أو فيلما خياليا.
يمكن إرجاع أغلب المشاهد روائيا أو سينمائيا إلى هوليود من شدة خطورتها، حتى عندما يشبّه الرجل أحد مشاهد النزوح -التي تابعها العالم كله- بفيلم “ماكس المجنون” (Mad Max)، وهو فيلم خيالي أنتج عام 1979.
لا يبدو العنف الذي يحكي عنه غسان أداة للتهديد، وليس قتلا فحسب، بل تمثيلا بالقتل، وحين نذهب إلى ما هو أبعد من الموت، تبدو المعركة هذه المرة مصيرية ينتابها الغل.
كان مونتاج الفيلم متواضعا نسبيا، ربما لسرعة إنتاجه، فلم يأخذ حقه من الصناعة عموما، ولم يدمج الذاتي بالعام بما يكفي، بل تحول سريعا لعائلته، لرصد عيش الرجل الذي يبدو أسطورة بشرية متحركة.
كما يرصد أحوال مستشفيات فلسطينية، شهدت وقائع مفزعة، مثل سردية الشفاء، ومجزرة المعمداني، ثم مستشفى النصر للأطفال، ومستشفى السرطان التركي، ثم الردّيس، ثم كمال عدوان الذي انتهى فيه الوقود ومُنع عنه عمدا، وصولا إلى مستشفى العودة وربما غيره.
يمر الاحتلال على كل مستشفيات غزة لتدميرها عمدا، ويوثّق الفيلم في سياقات شتى كل ذلك الإجرام، المتجاوز للحرب ذاتها.
ربما يبدو مسارا حزينا ووصمة عار عالمية، في مجتمعات ما زالت تناشد وتندد بحقوق السلاحف في المياه، في حين تتجاهل أناسا يتعمدون قصف المستشفيات، بلا خجل ولا خوف من قانون عالمي.