“دردمات”.. ثنائية السجان والسجين في بغداد بعد سقوط التمثال
إنه ليس فيلما مثل سائر الأفلام التي تروي قصة تلعب فيها الشخصيات أدوارا رئيسية أو ثانوية تدور حول حبكة ما لكي تصل بنا إلى النهاية المحتومة، بل هو أيضا نوع من “الدردمات” السينمائية من ناحية الشكل أيضا إذا جاز التعبير، والمقصود أنه يعتمد على التحرر الكبير في السرد، وفي تركيب الجمل التي يستخدمها في بناء عالمه السينمائي.
“دردمات” هو الفيلم الذي أنجزه الفنان العراقي المغترب في باريس سعد سلمان، وصوره في “العراق بعد الفوضى”، إذا جاز التعبير. “دردمات” هي الهمهمات أو الغمغمات التي قد تكون خارجية أي مسموعة، يهمهم بها المرء لنفسه أساسا، أو دفينة داخل العقل لكنها مسموعة له.. بعد أن يعجز عن فهم ما يحدث له وما يحدث حوله.
مأزق السجين والسجان.. قصة تكسر القواعد السينمائية
ليست في الفيلم شخصيات بالمعنى المتعرف عليه، بل يكتفي بشخصيتين أساسيتين فقط هما السجان والسجين.
صحيح أن هناك التزاما بمبدأ وحدة الزمان والمكان، لكن المخرج سعد سلمان يكسر هذا الإطار الزماني المكاني ويتجاوزه تماما، كما يتجاوز الدراما التقليدية التي يحكمها الصراع بين الشخصيات، فيقوم بتجريد موضوعه ويحصره في هاتين الشخصيتين؛ المثقف والسجان.
الاثنان يعكسان مأزقا مشتركا، فالسجان ينفذ الأوامر والتعليمات -كما يقول- طوال سنوات عدة، فيقتل حسب التعليمات، ويعذب طبقا للأوامر، ولا يمكنه أن يصدق أن هذا النظام الصارم الذي ظل خاضعا له لسنوات قد سقط وانتهى، ولم يعد هناك ضباط ولا جنود في المعتقل الرهيب الكامن تحت أرض مزرعة للدواجن في بغداد، وهو يتصور في البداية أن في الأمر “مؤامرة ما”.
جنون السجان.. عبثية الساعات التي تسبق السقوط
يبدأ السجان يتذكر -وهو بين بعض العقل والكثير من الجنون- كيف اختفى كل المعتقلين، بعد أن لقوا جميعا حتفهم بالقتل، ولم يبق هناك سوى سجين واحد هو زهير الذي يقوم بدوره المخرج سعد سلمان نفسه، ذلك المثقف الذي قضى أكثر من 20 عاما في سجون النظام، ففي لحظة عبثية يجد نفسه الناجي الوحيد من المذبحة الجماعية بالمعتقل في الساعات التي تسبق السقوط.

ولا يستوعب السجان لحظة التغيير الفارقة في حياته، فينتهي إلى الجنون المطلق والهذيان الذي لا ينتهي، فيضرب أبواب الزنازين ويصرخ في المعتقلين الذين لم يعودوا هناك، يخاطب مسؤولا لم يعد له وجود على الطرف الثاني من الهاتف، ويجدل أسلاكا يحاول أن يصنع منها مشنقة، ويفكر في شنق السجين أو إطلاق النار عليه، ثم يتراجع عن الفكرة ويقدم له الطعام ويحلق له لحيته التي استطالت، فجعلته يبدو أقرب إلى حيوان مذعور، يحملق بعينيه الواسعتين المندهشتين في الفراغ، فلا يفهم ماذا يدور حوله.
وهم الحرية.. مأزق الخروج إلى سجن الواقع الكبير
أخيرا يقرر السجان اصطحاب السجين إلى الخارج للنجاة معه، وأمام ممثلي القوات الغازية يتهم كلاهما الآخر بأنه السجان، وينتهي الأمر بالإفلات من المأزق المؤقت ولكن في اتجاه المأزق الأكبر. إنه مأزق السجان والسجين، وهو مأزق وجودي، كما أنه مأزق تاريخي أيضا.

فمن ناحية ما هو أقرب إلى عبث في علاقة الفرد بالعالم، منه إلى أفكار “سارتر” حول مسؤولية الفرد عن ما يحدث له، لكنه أيضا عن ذلك المأزق التاريخي الذي يتمثل في أن الحرية التي تتحقق أخيرا حينما يرى السجين الشمس للمرة الأولى منذ سنوات طويلة؛ سرعان ما يكتشف أنها ليست الحرية التي يعرفها بخبرته السابقة في الحياة قبل السجن.
لقد اختفت الأماكن، واختفت معها الذاكرة التي تحددها في ذهنه، إنه يخرج من المعتقل لكي يكتشف أنه أصبح سجينا في سجن أشد قسوة، ليس فقط سجن الواقع الكبير، بل سجن الذات بعد أن فقد القدرة على الإحساس بما يحدث حوله أو عجز عن فهم أي منطق له.
تقلب الوجوه والأزياء.. بغداد ما بعد سقوط التمثال
إن بغداد التي عرفها السجين المثقف قبل دخوله السجن ليست هي التي يخرج إليها بعد “سقوط التمثال”. ما هذه الوجوه، وماذا حدث للنساء: لماذا يرتدين الملابس السوداء، وما كل هذا الحزن المطل من عيونهن، وأين ذهبت الوجوه البشوشة، ومن أين أتت كل هذه السيارات وهؤلاء البشر، ولماذا لم يعد يجد كتبا في جماليات الشعر والفن، لماذا أصبحت كلها فجأة كتبا دينية؟ وما هؤلاء التجار المنتشرين كالوباء في كل مكان، أين الوزارات.. أين الداخلية والأمن، بل أين ذهبت الدولة؟ أين الدولة؟

هذا السؤال الأخير يتردد على صورة “دردمات” خارجية، أي بصوت عال، وهو يتوجه بالسؤال إلى رجل في عرض الطريق، والرجل يشير بيده في اتجاه ما، ويقول إنها هناك. يسأله زهير: هل تراها؟ فيرد: نعم، إنها في نهاية الممر. يسير في اتجاه الممر، وينفذ من داخل السوق في مشهد يتجاوز الواقعية إلى السريالية، لكنه لا ينتهي سوى إلى الفراغ.
أما السجان المجنون، العريف جبار فإنه يصبح لصيقا به كما لو كان قدره الذي لا يملك منه فكاكا، فهو يتبدى له في كل مكان، بل ويبدو أحيانا كأنه يطارده، يريد أن يخنقه بكتلة من الأسلاك المجدولة يلفها حول رقبته. هذه الأسلاك يراها أيضا في كل مكان من شوارع بغداد، تلك الأسلاك العشوائية الكثيفة المجدولة الممتدة في الفراغ، إنها الخوف الكامن في داخله من المعتقل الذي لم يكن يرى في داخله سوى الضوء الأحمر.
طرح التساؤلات.. نفق طويل لا ضوء في آخره
لا تؤدي التساؤلات إلى إجابات منطقية من داخل فيلم سعد سلمان، فهو ليس عملا تقليديا يخضع للمنطق المألوف كما أشرت، بل يبدو بالمجمل أقرب إلى حلم، أو -بالأحرى- كابوس طويل ممتد في الزمان والمكان.
نعم هناك ملامح للواقع من مدينة بغداد بشوارعها ونهريها الخالدين وأسواقها وسكانها، ولكن في سياق آخر مختلف بعد أن فقدت الأشياء معناها، فالأماكن لم تعد هناك، وما بقي فقدَ صلته بالذاكرة أو أصبح حطاما، والناس ليسوا نفس الناس رغم أن ملامحهم لم تتغير كثيرا، والقبح حل محل الجمال، والحزن حط على المدينة، والذاكرة نفسها أصبحت مهددة بالفقدان والضياع.. فما السبيل؟

هذه التساؤلات كلها تأتي إلينا من بين ثنايا لقطات هذا العمل البليغ البديع الرقيق الذي يصنعه فنان مهوس بطرح الأسئلة، لكنه غير معني بتقديم إجابات عليها، فهو لا يرغب في محاكمة أحد، ولا في توجيه إدانات، بل يبدو فيلمه بأكمله وكأنه مصنوع من وحي مثقف اغترب عن هذا الواقع، سواء وسط سنين المنفى الممتدة في أوروبا، أو داخل غياهب السجن، وحين خرج من السجن عاد وحيدا، كما لو كان قد ولد اليوم فقط، مع موت آلاف الأشياء التي كانت تشكل معالم أحلامه.
واليوم لم تعد الأحلام هناك، ولا يوجد أحد يمكنه أن يسمع، تماما كما كان الأمر دائما في حياة (زهير – سلمان): ثلاثون سنة أتكلم ولا أحد يسمع.
“عاش العراق الجديد”.. قصيدة سينمائية ترسم صورة مظلمة
لم يقدم مخرج الفيلم إجابات، لكنه قدم كاميرا واثقة تعرف متى تتحرك، تمسح جدارا أو صفحة نهر، وغناء شجيا حزينا يمنح الصورة أحيانا لحظات من الإنارة الداخلية بعد أن تتوقف كل الكلمات والدردمات.
كما كان الأداء التمثيلي أيضا بارعا، صحيح أنه يميل إلى الشكل المسرحي في أداء محمد المعموري تحديدا (في دور السجان)، لكنه مقصود لتكثيف تلك الحالة من الهوس التي تجعله مثلا يقوم بتمثيل دور الجلاد والضحايا، عندما يأخذ في إطلاق الرصاص على معتقلين وهميين لم يعد لهم وجود في المعتقل، ثم يلقي بالسلاح ويرتمي على الأرض، ليمثل دور الضحية وهو يترنح متألما ينازع لحظاته الأخيرة قبل الموت.

في نهاية الفيلم نرى جدارا قرب النهر كتب عليه شعار “عاش العراق الجديد”. ويبدو أن بطلنا سيستغرق في النوم، أو ربما سيدخل إلى غيبوبة طويلة، فالفيلم ينتهي بالإظلام التام مباشرة بعد هذا الشعار المكتوب. فما الذي حدث لعراق زهير وأين أخذوه منه.
ليست هناك -كما ذكرت- إجابات، ولا رغبة في تقديم إجابات أو بيان احتجاجي من خلال المزج بين الوثائقية والدرامية، حقا هناك إعادة صورة مؤثرة بواقعيتها الوثائقية لبغداد بعد الحرب، لكن مفردات فيلم “دردمات” أقرب إلى مفردات الشعر، كلمات وجمل وأبيات متناثرة، لا تهدف إلى الحكي وإلى صنع “التراكم”، بل إلى التعبير عن المشاعر والهواجس والأفكار والأحاسيس.
وهذا كل ما يهم في حقل الفن.