“سلفادور دالي”.. وثائقي يبحر في عوالم سريالية لفنان عبثي

اطلّع سوريون كُثر على المذاهب الفنية المتنوعة التي نشأت كردّ فعل، كصرخة من مُثقفِّي أوروبا على جنون الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح أكثر من (60 مليون قتيل)، لكن السوريين بقوا في اطلاعهم عابرين غرباء، لا يذكرون من مرارة الحرب الكثير، صور قليلة لسفر برلك (النفير العام والتأهب للحرب)، وواقع فلسطين، ومعاهدة “سايكس- بيكو” التي رسمت حيواتهم بدون أيّ اكتراث من قبل مُخططيها.

وقد عاش السوريون جنون الحرب في أوج حالاته عنفا وتشرّدا، واختبروا الموت بآليّاته المتعددة وروائحه المختلفة، تشرّدوا، وكأنّ العالم اتخذ من هذه الأرض التاريخيّة مسرحا لحرب عالمية ثالثة لا يموت فيها إلاّ السوريون.

واليوم يقرؤون تلك المذاهب باعتبارها وسائل تعبير شديدة المنطقية عن هذا العالم المجنون، الدادائيّة، السُرياليّة، والتكعيبيّة، في انتظار أن تهدأ الحرب، وأن نهدأ نحن، لنقدّم تصورنا الخاص عن كلّ هذا الوجود المحكوم بسؤال الحتميّة: هل هو منطقيّ هذا العالم أم مجنون؟ هل هذه هي الحرب فقط أم أنّها الحياة العبثيّة إلى هذه الدرجة التي لا تعترف بالحيوات أكثر من أرقام في قوائم معتقلين ومفقودين ومُشرّدين وقتلى؟ من القاتل ومن الضحيّة؟ ما الجمال وما القبح؟ وما هو الشكل، بل ما هي اللغة حتى؟

يأخذنا فيلم المخرج “جان كريستوف” الوثائقي المعنون “صورة شخصية لسيلفادور دالي” (A Soft Self-Portrait of Salvador Dalí) في رحلة مدتها ساعة تقريبا مع “دالي” نفسه، وحبيبته “غالا” التي رفضت الكلام بأي كلمة طوال الفيلم ومدته 55 دقيقة تقريبا، ثمّ رفضت الاشتراك في أي تصوير سينمائي لـ”دالي” وحياتهما، يأخذنا إلى منزله ولوحاته والأهم إلى فكره، ويتحدّث عن جنونه أو عبقريته.

“سلفادور دالي”.. عبثية فنان لا يعترف بالوسطية

لا يعترف عالم الفنان الإسباني “سلفادور دالي” (1904-1989) بأي شكل من أشكال الوسطيّة أو المُهادنة، وهو شخصيّا لم يُهادن بالتأكيد في اختياراته الفنيّة، بل افتخر دوما بذهابه إلى الأقصى. بذات الروح يأتي الفيلم الذي صُوّر في نهاية ستينيات القرن المنصرم، وغالبا عام 1967، فإمّا أن نقبله باعتباره محاولة سينمائيّة لتصوير فيلم وثائقي “سُريالي” أو لا.

من هنا تتأتى الصعوبة الكبيرة في التعاطي مع الفيلم كفيلم سينمائي وثائقي. فالسرياليّة التي يصعب اختصارها هنا كمذهب فني له تمظهراته في الأدب كما عند “أندريه بريتون” (1896-1966)، وفي الفن التشكيلي “سيلفادور دالي”، وفي السينما “لويس بونويل” (1900-1983)، وجميعها اهتمت بتصاوير العقل الباطن أيّا كانت لا منطقيته، بغية التركيز على كل ما هو متناقض وغريب بتأثير كبير من تطوّر علم النفس وانتشار أفكار “فرويد” في التحليل النفسي.

الكاتب والرسام سيلفادور دالي

في المقابل فإنّ السينما الوثائقيّة تشترط في كينونتها وثيقة ثلاثة عوامل، هي الدقة والحياد والموضوعيّة، الأمر الذي يُنشئ تعارضا صارخا بين الاثنين، خاصة إذا ما أخذنا في عين الاعتبار شخص “دالي” نفسه، الذي يدفعنا في كل لحظة من لحظات الفيلم إلى التساؤل: إلى أي درجة نحن نشاهد “سيلفادور دالي” فعلا؟ وإلى أي درجة يُمثّل ببراعة دور الفنان المجنون أو العبقري المشهور “سيلفادور دالي”؟

لا يخفي “دالي” إعجابه الشديد أو غروره بنفسه، وثقته المطلقة بقراءته للعالم والفن، والفيلم لا يخفي ميله الصريح وإعجابه بلوحات “دالي”، في حين يمرّ سريعا على أعمال الفنان الأخرى وبخاصة منحوتاته، أو مشاريعه السينمائية، مُفضّلا قراءة “دالي” عبر لوحاته، وعبر مفرداته.

“الآن يتحدث دالي”

يتحدّث “سلفادور دالي” كثيرا طوال دقائق الفيلم بوعي كامل لحضور الكاميرا التي توثّق هذه اللحظة، هذه الكلمة، وهذه الفكرة للتاريخ، ولا يقاطعه إلاّ صوت العظيم “أورسون ويلز” (1915-1985) وتقطيعات مونتاج الفيلم التي حاولت الوقوف مع أبرز علامات “دالي” كما ظهرت في لوحاته.

حين يتحدث “دالي” يستخدم دوما الإشارة إلى “سلفادور دالي” وكأنّه يتحدث عن آخر ليس هو، فيقول مثلا: “الآن يتحدث دالي” (Now Dali speaks)، أو “دالي لم يفهم أبدا لوحة واحدة لدالي” (Never Dali understand one panting of Dali)، دون أن يُخطئ مرّة واحدة ويستخدم مفردة “أنا”.

“غالا” حبيبة “دالي” والتي رفضت الكلام بأي كلمة طوال الفيلم ومدته 55 دقيقة تقريبا

في مقابل صوت “دالي” المفعم بالطاقة وقوّة الحضور، بإنجليزيته الثقيلة التي يعتبرها “إنجليزية دالي” كما يقول؛ يأتي صوت المخرج الإنكليزي العظيم الذي لا يظهر في أي مشاهد الفيلم صوتا هادئا، قويا، حياديا كما يُفترض به أن يكون، لكن كلماته ليست كذلك وهو يُقدّم للفيلم بخاصة، حين يكيل المديح والتعظيم لـ”دالي”.

وصوت “ويلز” حقيقة هو ضابط إيقاع الفيلم المضطرب الذي ينقلنا بتعريفه وربطه بين مراحل حياة “سلفادور دالي” المختلفة في فيلم يحاول أن يغطي زمنيا حياة هذا الفنان من العشرينيات حتى ستينيات القرن العشرين.

ومن هنا يسرد “ويلز” أبرز النقاط في طفولة “سلفادور دالي” الذي وُهب اسم أخيه المتوفى، فحاول دوما أن يثبت أنّه “هو”، وليس صورة عن ذاك الكائن الذي كان يجب أن يكون لكنه رحل. ويعرض بشكل موجز جدا لتطوّر فكر “دالي” وعلاقته بفنّاني ومثقفّي زمانه، خاصة “بريتون” وتأثرّه بفكر “فرويد” وحركات الفن الجديدة خاصة “البوب”، كذلك إعجابه بالثقافة الإغريقية وأساطيرها، وبتطوّر العلوم والتكنولوجيا.

وفي الوقت ذاته الذي تأخذنا فيه كاميرا المخرج مع تطوّر لوحات وأدوات “دالي” الفنية، نقف مع علاماته المُتكرّرة مثل “البيضتين” اللتين يتحدث عنهما حديثا مطوّلا، وعن فكرة التوأم، عن “دالي” و”دالي”، وعن “دالي” و”غالا”.

بيت الساحل الصخري.. جولة في مصدر الإلهام الفني

يكاد الفيلم يكون الأكثر شمولا لفن “سلفادور دالي”، إذ يغرق في محاولته الغوص في تفاصيل لوحاته وضبطها في سياق منطق “دالي” نفسه.. سياقها الزمني، مفاتيحها، موضوعاتها، ألوانها.  يقول “ويلز”: الساحل الصخري القريب من منزل “دالي” و”غالا” حيث عاشا وحيث صوّر الفيلم في قرية ساحلية صغيرة في شمال إسبانيا قرب مدينة ليغات؛ كان مصدر إلهام لـ”دالي” في عدد من أعماله.

وبين هذا الشاطئ وبين المنزل يتجوّل معنا “دالي” ليعرض فكره الفني، لنرى اللوحات بعيني “سلفادور دالي” لا بأعيننا، وهنا يكون مقتل الفيلم حقيقة كفيلم وثائقي سينمائي، في محاولاته تصوير هذه اللوحات كإنشاء تمثيل فعلي للوحة ضخمة رسمها “دالي” توضع على شاطئ البحر، ومن الفراغ الذي يشبه بابا، يرفعه مفتاح في اللوحة، نجد “دالي” يخرج في الفيلم ليتابع الحديث معنا، أمّا موضوع المجسمين الضخمين لبيضتين تتكسرّان فتخرج منهما “غالا” و”دالي” فقد استمر أكثر من ست دقائق تقريبا في فيلم مدته تتجاوز الخمسين دقيقة بقليل.

نرى بناء المشاهد في عدة لقطات كما في هذين المثالين، أو في المشهد الذي يرسم فيه “دالي” زوجته “غالا”، فقد شكّل بناؤه لوحة فوتوغرافية سُرياليّة إن صحّ القول، بالإضافة إلى اشتغال المخرج على تقنيات التصوير والمونتاج وجميع الأدوات التي بين يديه، ومنها حتى اللعب على الحِواريّة بين صوتي “دالي” و”ويلز”، إذ يخاطبه “ويلز” قائلا:

هل تريد الحديث عن عائلتك؟ لا. هل تريد الحديث عن لوحاتك؟ لا. هل يمكنك الإجابة عن سؤال واحد؟ لا. هل تريد تصوير هذا الفيلم؟ نعم.

“دالي” والسريالية.. لعب على الحبلين يضيع المتلقي

كل هذه التفاصيل وسواها اشتغل عليها “جان كريستوف” في محاولة لتقديم فيلم وثائقي سُريالي إن صحّ التعبير، يُظلم كثيرا إن نُظرَ إليه باعتباره فيلما عن حياة “سلفادور دالي”، في حين أنّه محاولة للحديث عن فكر “دالي” الفني وطريقة تفكيره، عبر شخصه وبصوته.

الفيلم يتحدث عن حياة “سلفادور دالي”وفكره الفني وطريقة تفكيره

لكن “دالي” يلعب على الموضوع ولا يتحدث عن “دالي” بل عن الفنان السريالي أحد أبرز رموز هذه الحركة، الأمر الذي أضاع المتلقي بين فيلم يتناول “سلفادور دالي” أو “الحركة السريالية” خاصة أنه لا يفيد الفيلمَ مرورُه السريع على الخلفية التاريخية التي أحاطت بهذا المذهب، وعلى مواقف “سلفادور دالي” في حياته -وليس فقط في فنه- من كل تلك المتغيّرات التي كانت تحدث على الساحة السياسية، والتركيز أكثر على الساحة الفنية والثقافية والاجتماعية.

ورغم أن الفيلم أبرز اهتمام “دالي” بالتطوّر التكنولوجي خاصة، فإنه لم يكن كافيا للإحاطة بكافة متغيرات السياق الزمني الواسع الذي يتناوله الفيلم.

أفلام السينما.. غنى فكري يصنع نجاح الشاشة الكبيرة

عمل “سلفادور دالي” بنفسه كاتبا مع المخرج الإسباني “لويس بونويل” فيلمين هما “كلب أندلسي” (Andalusian Dog) عام 1929، و”العصر الذهبي” (The Golden Age) عام 1930، وحققا نجاحا بارزا وتحوّلا إلى علامات سينمائية تدرّس، و”بورتريه ذاتي لسلفادور دالي”.

وقد تميّز هذان الفيلمان بغنى فكري، وبثقل بصري، وبدرجة من التشويش، مردّها محاولة تصوير خيالات اللاوعي سينمائيا، وإن بأقلّ قسوة ومباشرة عنهما.

لكن مشكلة هذا الفيلم الأساسيّة تبقى في كونه وثائقيا، إذ يضعف هذا التشويش قوّة الوثيقة وحياديتها، ومن دقتها بالأخص، عبر تلك المحاولات التشريحيّة من المخرج لأعمال “سلفادور دالي”، إذ تقارب التدريس الأكاديمي الساذج، لكن حديث “سلفادور دالي” يبقى بمثابة شهادة أو خطاب طويل منه عن فنه وفكره وعن المذهب “السُريالي” إذا ما نجح المشاهد في إسقاط كل الضوضاء البصريّة التي يعرضها المخرج، والتي تشوّش أكثر ممّا تفيد في عرض الأعماق التي تفتح السريالية بابا واسعا لها.

وختاما يبقى الفيلم عملا مثيرا للاهتمام، إذ يثير الرغبة في التعرّف إلى هذا الفنان وهذه المدرسة، عبر مزيد من البحث والقراءة.