“ليست أفضل فترات حياتي”.. ميزانية متقشفة وفيلم ثري القصة والصناعة

“ليست أفضل فترات حياتي” (It’s Not the Time of my Life)، هو الفيلم الروائي السابع في مسيرة “سابولتش هايدو” الإخراجية، إلى جانب عدة أعمال أخرى وثائقية وتليفزيونية، وهو في عامه الثالث والأربعين، ويمارس -إلى جانب الإخراج- الكتابة السينمائية والمسرحية، إضافة إلى التمثيل والإنتاج.

في الفيلم، وعلى امتداد ساعات قليلة من منتصف الليل وحتى منتصف النهار، يتحول حدث يومي عادي طارئ إلى أمر كابوسي كاشف على نحو جلي لما في سريرة جميع الشخصيات التي شاهدها على الشاشة.

ففي أعقاب زيارة طارئة وغير متوقعة تقوم بها “إرنيلا” وزوجها “ألبرت” وابنتهما “لورا”، إلى منزل أختها الصغرى “إستر” (الممثلة أورسوليا توروك) وزوجها “فاركاس” (الممثل سابولتش هايدو) وطفلهما “برونو” (الممثل زيغموند هايدو)، تتعقد الأمور بصورة سريعة بين جميع الشخصيات، الأمر الذي يفضي في النهاية إلى مجموعة من الأزمات والمواجهات التي تصعب رؤيتها بمعزل عن الاضطرابات النفسية والأحقاد والضغائن والغيرة بين البشر، من كافة المستويات ومختلف الأعمار وفي عدد من المجتمعات.

“برونو”.. طفل يعكر صفو حياة زوجية طويلة

منذ المشاهد الافتتاحية للفيلم، وعقب انتهاء عشاء لأصدقاء، نلاحظ أن هناك بعض بوادر للتوتر والتشاحن بين “إستر” و”فاركاس”، وأن ثمة ما يشوب علاقتهما المستمرة منذ 18 عاما، وأنها ليست على ما يرام فيما يبدو، خاصة بعدما سألته “إستر” في لهجة استنكارية لا تخلو من السخرية، عن السبب الذي يجمعهما معا تحت سقف واحد حتى تلك اللحظة.

“فاركاس” (الممثل سابولتش هايدو) وطفله “برونو” (الممثل زيغموند هايدو)

وقد جاء هذا التساؤل في أعقاب تبادل للتقريع واللوم من جانب “إستر” لزوجها، لكونه لا يرعى طفلهما على النحو اللائق ولا يعبأ بهما، وفي غمرة الدفاع عن نفسه يتهمها “فاركاس” بكونها متساهلة ولا تحسن تربية “برونو” -الذي يبدو لنا، وهو في عامه الخامس- شديد التوتر والعصبية والنشاط، إلى جانب أنه لا يكف عن الصراخ المستمر.

وفي النهاية يتفقان ضمنيا على أن وجود “برونو” في حياتهما لم يكن بالأمر السليم، وأن قدومه تسبب في عدد من المشاكل والمشاحنات بينهما، بدلا من أن يُسهم في إحداث العكس، خاصة مع اتهام “فاركاس” بتجاهلها التام له وتكريس نفسها كليا لـ”برونو”.

أذيال الخيبة والإحباط تطرق الباب.. زيارة ليست عابرة

بعد تلك المشاهد التي يؤسس فيها المخرج للشخصيتين الرئيسيتين وللعلاقة بينهما، وبعدما نظن أن الفيلم سيقتصر عليهما، وعلى علاقتهما المتوترة، وعلى تناول موضوع أُسَري واجتماعي مطروق، تبدأ وتيرة الفيلم في التصاعد وتأخذ الأحداث في التعقد والتشابك على نحو قوي وجذاب، دون أن يتأثر الإيقاع على امتداد الفيلم وحتى الدقائق الأخيرة منه.

فمنذ اللحظات التي تطرق فيها أخت “إستر” الكبرى “إرنيلا” (الممثلة إريكا تانكو) باب الشقة، ومعها زوجها “ألبرت” (الممثل دموكوس سابو) وابنتهما “لورا” (الممثلة لويزا هايدو)، وقد عادوا لتوهم من هجرتهم إلى إسكتلندا التي استمرت عاما واحدا فحسب.

العائلتان المختلفتان تجتمعان تحت سقف واحد

نعلم في البداية أن السيارة قد تعطلت بهم في طريق العودة، لكن لاحقا، نكتشف المفاجأة، أن زيارتهم ليست عابرة بالمرة، فقد عادوا من هجرتهم يجرون خيبة الأمل والإحباط واليأس، وبالطبع الإفلاس والمستقبل المظلم، ناهيك عن عدم وجود منزل يجمعهم تحت سقفه.

عودة المفلسين.. نقد وغيرة وحسد وتأنيب وجدال

تدريجيا تبدأ الأسرة القادمة في التقليل شيئا فشيئا من تحفظها ورسميتها، وتشرع في التعامل والتحرك داخل المنزل بأريحية تامة، توهمك في بعض الأحيان أنهم هم أصحاب المنزل الأصليين وليسوا ضيوفا، ثم يأخذ الزوجان في انتقاد أسلوب حياة ومعيشة “إستر” و”فاركاس”، والإعراب لهما صراحة عن حسدهما لهما لارتفاع مستواهما المادي والمعيشي مقارنة بهما، وفي مناسبة أخرى تعترف “إرنيلا” لأختها أنها تتمنى لو كان زوجها “فاركاس”، وأن تعيش معه نفس الحياة التي تعيشها هي.

“فاركاس” يسأل زوجته “إستر”عن فترة مكث اختها وزوجها معهم

بعد ذلك يطلب الزوجان اقتراض بعض المال من “إستر” وزوجها، وعندما يقابل طلبهما بالرفض يطلبان البقاء عندهما لبعض الوقت، حتى يتنسى لهما تدبير أمورهما. الأمر الذي يدفع “إستر” و”فاركاس” إلى التحدث بصراحة وقلب مفتوح مع الزوجين حول حياتهما التي دمّراها بسفرهما وهجرهما لكل شيء وذهابهما إلى المجهول، ثم عدم تحملهما وعودتهما بعد أقل من عام، والتحدث عن الحنين إلى المجر وصعوبة أن يعيش المجري بالخارج، وعدم استطاعة المجري التأقلم خارج وطنه إلى آخره، وذلك بعدما خططا للمكوث بالخارج عشر سنوات على الأقل.

يأخذ “فاركاس” على وجه الخصوص في تذكير الجميع بهذا، والسخرية من تلك الأقوال التي أطلقت على عواهنها دون تمحيص أو دراسة، وتشاركه زوجته بعض الشيء في تأنيب شقيقتها وزوجها، وفي غمرة ذلك تأخذ الحوارات في التداخل، ويصعب في بعض الأحيان متابعتها بدقة لارتفاع الأصوات وتداخلها، والانتقال المفاجئ من موضوع إلى آخر بسرعة بالغة، خاصة بعدما بدأ كل فرد على حدة يكيل الاتهامات المتنوعة للآخر.

صدى التشاحن في المنزل الضيق.. زيت على نار

مما زاد من صعوبة الأمر والشعور بالتوتر الدرامي والانفعالات العصبية، ذلك الحيز الضيق الذي تتحرك فيه الشخصيات طوال الفيلم، وهو منزل “فاركاس” و”إستر” الذي لا نبرحه طوال الفيلم، ولا شك أنه أجج من وتيرة التشاحن بين شخصيات الفيلم، حتى بين الطفلين.

الأخت الضيفة “إرنيلا” تتعجب من طريقة حياة أختها “إستر” وزوجها المرفهة

ولا شك في أن الفيلم يدور في إطار الدراما الاجتماعية الساخرة، وإن كانت السخرية هنا مريرة على نحو سوداوي، ويناقش قضية الزواج ومشاكله، لا سيما بين الشباب الذين يواجهون أزمة منتصف العمر، والذين ينتمون إلى الشريحة المتوسطة التي هي على قدر من التعليم والثقافة والاهتمام بالفنون والآداب داخل المجتمع المجري.

يمكن أن نلمس كل هذا منذ اللحظات الأولى بالفيلم، لكن مع انتهائه تجد نفسك أمام عدة أسئلة، من بينها، ما الذي يجعل ذلك الفيلم على هذا القدر من التميز؟

“سابولتش هايدو”.. سير على الخيط الفاصل بين السينما والمسرح

لا يعدو هذا العمل أن يكون مجرد دراما اجتماعية أقرب منها للعمل المسرحي أو نوعية الأفلام التي يطلق عليها سينما الحجرة، وتعتمد في أغلبها على قوة الحوار ورشاقته، ودقة رسم الشخصيات وعمقها، والأداء التمثيلي بالطبع، وهذا ليس هو الفيلم الأول ولن يكون الأخير من تلك النوعية.

زاوية تصويرية تشعر المشاهد بسعة البيت (الصغير) الذي يتم تصوير الفيلم فيه

في تصورنا أن الإجابة على مثل هذا الطرح تكمن دون شك في التناول السينمائي الذي استخدمه المخرج “سابولتش هايدو” في تنفيذ فيلمه، فلم نشعر معه أننا إزاء فيلم مسرحي أو مسرحية مؤفلمة، فتمرّسه منذ بداياته في مجالي المسرح والسينما، جعله يعرف جيدا ما هو الخط الفاصل بين السينما والمسرح، وجنّبه عدم الخلط بينهما، ومكّنه من السير فوق ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بينهما.

ونلاحظ هذا على سبيل المثال في تمكنه وبراعته في توظيف الكاميرا وحركتها، ونجاحه البالغ في تحريكها كيفما يشاء، على امتداد الفيلم، داخل مساحة الشقة الضيقة، وكذلك فيما يتعلق باللقطات المقربة على أوجه الممثلين.

المخرج الذكي.. زوايا الحوار

زوايا التصوير.. تفاصيل ذكية تصنع سحر السينما

كثيرا ما يتعمد المخرج “سابولتش هايدو” استخدام اللقطات المقربة -لا سيما أثناء فترات التشاحن واحتداد الحوار بين الشخصيات- وحشر الشخصيات جميعا، أحيانا داخل نفس الإطار، أو تعمد إظهار مساحات ضيقة للغاية من المنزل، أو توظيف الحجرات لتحقيق نفس الغرض.

بوستر فيلم “ليست أفضل فترات حياتي”

وعندما يحدث العكس، نجده يتجول بنا في حرية تامة في أرجاء المنزل، ويدع الإضاءة تنير الإطار، ويترك حرية الحركة والتصرف لشخصياته التي ترصدها الكاميرا في لقطات متوسطة أو بعيدة.

وفي آونة أخرى نشعر بتلصص الكاميرا على الجميع، أو حتى إهمالها لهم والاهتمام بقطع من الأثاث أو الديكور أو باب يصفق أو تفصيلات بسيطة من هذا النوع. وبالتالي، فقد أوجد “هايدو” عددا من الحلول الفنية جنبته تماما أن يخرج فيلمه على نحو مسرحي الإخراج أو حتى قريبا من العمل التليفزيوني.

أداء الشخصيات.. عظمة متقشفة تجسد قصة بسيطة

إن كون الفيلم قد بني بالأساس على قصة بسيطة لا يقلل من قوة الفيلم ولا الأحداث، ولا من الحوارات المشوقة في المتابعة، ولا يجعلنا نغفل الأداء التمثيلي البالغ القوة من جميع الشخصيات دون استثناء، حتى الطفل “برونو”.

ولا شك أن هذا عائد أيضا إلى المصداقية الكبيرة التي صنع بها هذا الفيلم البسيط، بداية من القصة وانتهاء بالأداء. فقصة “ليست أفضل فترات حياتي” مستمدة من حياة المخرج وزوجته، والمنزل منزلهما، والبطلة هي زوجته، والابن والابنة ابناهما في الحقيقة، وطاقم التمثيل هذا، وطاقم الفيلم أيضا، دائما ما يستعين به المخرج في تنفيذ أفلامه، وهم أصدقاء بالأساس.

“إستر” وزوجها في لقطة رباعية مع أختها وزوج أختها

ولذا نرى أن الفيلم يعتبر بالفعل من النماذج التي يُحتذى بها، وهو بمثابة درس في التقشف في كل شيء، والاعتماد على أبسط الأشياء التي تحقق أعظم استفادة ممكنة، ففيلم مبهر ومشوق كهذا لم تكلف ميزانيته أي شيء تقريبا، ولم يعمل فيه طاقم عمل كبير.

ومع ذلك لا يبدو أي أثر ملحوظ لهذا على أي مستوى من مستويات الفيلم، وكأنه قد صنع بميزانية ضخمة، الأمر الذي يضعنا في النهاية أمام ذلك التساؤل الأبدي المتعلق بالسينما العربية ومستواها التنافسي، سواء السينما المستقلة أو غير المستقلة، فدائما ما يرجعه كثيرون لضعف الميزانية والإنتاج والرقابة إلى آخره، وأفلام مثل “ليست أفضل فترات حياتي” وغيرها الكثير، تدحض قطعا كل هذه الأقاويل والمزاعم.

فاز هذا الفيلم المجري المتميز “ليست أفضل فترات حياتي” للمخرج “سابولتش هايدو” بجائزة أفضل فيلم في المسابقة الدولية للأفلام الروائية بالدورة الحادية والخمسين لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي (2016)، إلى جانب حصول المخرج على جائزة أفضل ممثل عن دوره في نفس الفيلم.