“آخر الرجال في حلب”.. تضحيات وآلام في حياة أبطال المدينة المنكوبة

 

قليلة هي مساهمات المراكز الإخبارية التطوعية في رفد الإنتاج السينمائي الاحترافي بخامات تصويرية ترتقي إلى مستواه، لكن الحرب الأهلية السورية أفرزت نتاجا محليا صرفا حَريّا بتوقف المحللين والنقاد السينمائيين عنده، لكونه أضحى جزءا من المشهد السينمائي الوثائقي العربي على وجه التحديد.

صحيح أنه في كل الحروب كانت المساهمات الفردية خارج الإطار الاحترافي مصدرا ثريا للإنتاج السينمائي، لكنه ظل في منطقتنا محدودا، وحروبها السابقة مثال على قلّتها، فالموثق البصري منها شبه منعدم، أما غير الدعائي فقليل جدا مقارنة مع الكم المتوفر من التجربة السورية الجديدة.

والأمر دون شك شديد الصلة بالتطور التقني والثورة الرقمية، لكننا نتحدث هنا عن مساهمات تتساوى مستوياتها مع بنية الفيلم السينمائي، وتتجاوز طابعها التكميلي (الإضافي).

فرق الإنقاذ.. شخصيات حلبية الروح والانتماء

قادنا إلى هذا الكلام فيلم “آخر الرجال في حلب” للسوري فراس فياض، وحجم مساهمة مركز حلب الإعلامي فيه، والجهد الكبير المبذول من قبل المصورين فادي الحلبي وثائر محمد، لرفع مستواه والمساعدة في تبيان قوة التمايز بينه وبين الوثائقي القصير الحائز على جائزة الأوسكار “الخوذ البيضاء”، من حيث مقاربة موضوعيهما جانبا من تجارب متطوعين سوريين عملوا ضمن فرق الإنقاذ والدفاع المدني، وتشخيص الفارق النوعي بينهما على مستوى السرد وزوايا التناول، وهذا ما انتبهت إليه جيدا لجنة تحكيم مهرجان “صندانس” في دورته الماضية، فقررت منحه جائزتها العالمية للسينما، فاتحة له الطريق لعروض عالمية وجماهيرية قادمة.

خالد عمر حرج ومحمود حتر، مسعفان حلبيان يعملان في الدفاع المدني
خامات تصوير الفيلم مأخوذة من شرق مدينة حلب طيلة ثلاث سنوات سبقت خروج أغلب سكانها منها، وقد جرى العمل على إعادة صياغتها وفق سياق تصور سينمائي اقترح سرد قصص أبطال سوريين، كل تضحياتهم وجسامة ما يقومون به من مهمات خطيرة لم تجردهم من آدميتهم ولم تعزلهم فظاعة ما عايشوه من بشاعات عن علاقاتهم بالوسط الاجتماعي المنتمين إليه بقوة، حتى أن فكرة ابتعادهم عنه كانت مرفوضة بالكامل عندهم أول الأمر.

وبالتالي جعلتنا قصصهم نشعر بأننا أمام شخصيات حلبية الروح والانتماء، تجسد على الشاشة جانبا من مشهد السوري في محنته؛ قسم منه -وليس كله- له علاقة مباشرة بعملهم منقذين متطوعين سيطلق عليهم لاحقا تسمية أصحاب “الخوذ البيضاء”، كناية عن لون الخوذ التي يحمون بها رؤوسهم من القنابل المتساقطة عليها، ومن كتل الإسمنت وجدران البيوت المتهاوية التي يزحفون تحتها لإخراج أشلاء الموتى أو من بقي على قيد الحياة.

صوت العائلة.. عوالم إنسانية تؤرق أبطال الحرب

هناك جانب من جوانب الفيلم سيرسم بورتريه لبشر من لحم ودم، كل واحد منهم له هواجسه وأحلامه وبالتالي فإن “آخر الرجال في حلب” هو أكبر من مجرد فيلم يعرض عمل مؤسسة تطوعية ما، هو عن اللحظات الفاصلة بين الموت والحياة، بين العادي والبطولي، بين المجرد والمجسد من فكرة الحرب، وهنا يكمن ربما تميّزه الأكبر عن الفيلم الأمريكي “الخوذ البيضاء”.

تتمحور قصص هذا الوثائقي الدنماركي الإنتاج حول شخصيتين، هما خالد عمر حرج ومحمود حتر، وقد عملا معا طيلة سنوات ضمن فرق الدفاع المدني، وجمعتهما محن ولحظات فرح، ولفتهما أحزان كثيرة، وظلا زميلين وصديقين هاجسهما الأول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حصيلة حرب تطحنهم كل يوم، وتعيد لهما لحظاتُ زمن هاربة من الموت الأملَ في مجيء يوم تنتهي فيه كل الآلام.

هل يفقد الأطفال والدهم في قصف النظام؟
يكمن الاختلاف بينهما في أن خالد أب لأولاد، فهمه الشخصي مرتبط بهموم عائلته ومستقبلها، أما محمود فهو أعزب كرّس حياته لمساعدة ضحايا الحرب والقصف، وقلبه على أخيه الأصغر المتطوع معه في حلب دون علم أهله، تخفيفا من قلقهم عليهما.

فالمنقذ ذو القبعة البيضاء غير معفي من وابل القنابل والصواريخ المنهمرة على المدينة وسكانها ليل نهار، وكل مشهد إنقاذ من تحت الخرائب يعقبه صمت يقول ما لم تقله الصورة المخيفة المؤلمة، فالانسحاب إلى الداخل يؤجل ظهور المشاعر على حقيقتها، ويبطئ تفاعلها مع الخارج.

ومن أجل استيعاب المذابح التي ينغمس وسطها، سيحتاج المسعف لبرهة من زمن خالٍ من الضجيج والصراخ، ليعيد عبره تأمل ذاته والعالم المحيط به، وكان الأطفال يوفرون لخالد شيئا منه، أما محمود فكانت زياراته للذين ساهم في إنقاذ حياتهم تعيد إليه بعض توازنه، وتشحن عزيمته للعمل أكثر، من أجل إنقاذ ومساعدة ضحايا جدد ينتمون كليا إلى نفس مكانه وعالمه.

حوض السمك.. تشبث بالحياة يتحدى وحش الحرب

ليست محنة رجلين هي التي تشغل المشهد العام لفيلم “آخر الرجال في حلب”، بل حجم العنف المنفلت وغير المعقول في صراع لا يتوانى القوي فيه من استخدام أشد الوسائل فتكا، فيصبح ما يقوم به رجال الإنقاذ قطرة في بحر الدم. ولهذا فقد تجنب صانع الفيلم الدخول في معمعة المعارك الطاحنة بين المعارضة والنظام، فكان عنده ما يكفيه من حصيلتها، وكان تركيزه منصبا في الأساس على خلفية المشهد وأبطاله رجال الإنقاذ.

وبتجنبه ذلك، توفرّت له فرصة التقاط إشارات وتعابير الخراب الحلبي بأبهى تجلياته، وتأمل الشرخ المجتمعي العميق الذي أحدثته الحرب والإمساك بقوة ببقايا نزعة إنسانية ترك لخالد وصديقه التعبير عنها في مشاهد مكثفة، كل واحد منها يصلح أن يكون فيلما بذاته، مثل شراء خالد أسماك زينة وسط حالة توتر عالية كانت تعيشها المدينة.

على أنقاض البنايات المهدمة، يجلس خالد حرج وزميله يتجاذبان أطراف الحديث

هل كان يحاول التخفيف من حدة التوتر، أم الهروب منها عبر شراء وبناء حوض للأسماك في بيت يحتمل قصفه في أي لحظة؟

سيُعيد مشهدٌ موازٍ يظهر فيه حوض أسماك آخر معلق فوق شرفة بيت مهدم سرياليةَ الواقع، وليس شراء خالد للأسماك إلا تساوقا منطقيا معه. ربما سؤال محمود وهو في ذروة انشغاله بعملية انتشال أشلاء الضحايا من تحت الأنقاض عن الوقت، بسبب ارتباطه بحفل عرس صديق لا يريد التخلف عن حضوره؛ ليس إلا تكملة لغرائبية التشبث بالحياة، ممزوجة بأعلى درجات الواقعية.

ما قبل الحرب.. حنين إلى دفء الأيام الخالية

يمثل أطفال خالد جزءا مهما من عالم فيلم المخرج فراس فياض، فقد ركز عليهم وعلى مكالماتهم لوالدهم أثناء غيابه عنهم في مهمات عاجلة تفرض عليه النوم خارج البيت ليال، بما فيها من تعابير حب وحنان ورغبة في عيش الحياة لا يعادلها سوى حجم الحزن الذي بدأ يتسرب إلى روح والدهم، فعاد للتفكير -بصوت عال- بالهجرة من المدينة، وكان ينقض تلك الفكرة في الوقت نفسه بأخرى تقول له إنه مثل السمكة تموت إذا خرجت من الماء، كما سيموت هو لو خرج من حلب.

حوض السمك صامد رغم القصف الكثيف والدمار

لم تفلح توسلاته للقادرين على إخراج عائلته، وعليه فقد ظل مصيرهم مرتبطا بالمصير الواعي الذي اختاره لنفسه. وفي داخل روحه طفولة يعبر عنها أحيانا مثل أولاده في أشد الظروف حلكة، وفيه طيبة متأصلة جعلته بطلا، قبل أن تصنع مواقفه ملامح شجاعته وإقدامه.

أما محمود فهو مثل آخرين يعيشون وسط الحرب، كان يميل إلى الصمت، ويقتصد في التعبير عن دواخله، لكن سلوكه وحماسته في العمل وضعاه موضع الأبطال دون سلاح، في مدينة تتشبث بأبطالها، بيد أن مناجل الموت كانت تحصدهم مثلما كانت تحصد أرواح أهالي حلب.

صياغة واقع المدينة.. لغة سينمائية تحمل صوت المنكوبين

ليس تنويع عرض مشاهد القصف وإنقاذ الضحايا من تحت الركام إلا تعبيرا مكثفا عن عملية إبادة شاملة بمعناها الحقيقي، وقد كثفت الموسيقى التصويرية التي صنعها “كارتين فوندال” قوة تجسيدها دراميا، كما عمق مونتاج “ستين يوهنسين” و”ميشيل بارو” للخامات التصويرية مستويات تعابيرها البصرية، فجاء المنجز كله -رغم ما في بعض حواراته من ضعف وتكلف- مبهرا، بحيث يمكن القول إن “آخر الرجال في حلب” أعاد صياغة واقع المدينة بلغة سينمائية ارتقت لتكون صوتا لمنكوبيها.

خلف القصف الأسدي على ريف حلب مئات القتلى من الأطفال الأبرياء والنساء والولدان

سيسمع العالم صوت المنكوبين من الفيلم دون ضجيج أو ادّعاء، وما موت خالد التراجيدي في قصف للطيران الروسي إلا واحدا من التعابير الحزينة التي نقلها، وختم بها مساره الذي بدأ بمشاهد الطائرات الحربية وهي تخترق سماء المدينة.

ينتهي الفيلم بمشاهد قصف المدينة وترحيل معظم سكان الجزء الشرقي منها، ومعهم قسم من أصحاب “الخوذ البيضاء” إلى أماكن من سوريا تشهد هي الأخرى خرابا، وتتعرض للقصف دون رحمة، فإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تحت ركام بيوتها، سيصنع أبطالا سلميين يودون حقا لو أنهم ظلوا بشرا عاديين يعيشون في مدنهم الأولى، قبل أن يحل بها الخراب.