“الأصفار والصلبان”.. معاناة الأقلية البيضاء تحت وطأة الاحتلال الأفريقي

تمثال لامرأة أفريقية يعلو بطوله بنايات مدينة لندن الشاهقة، وسود يعيشون في بيوت فخمة ويتجولون بسيارات فارهة، كما أن الشرطة التي تحفظ الأمن في المدينة يتألف جميع أفرادها من الرجال السود الأقوياء.

بينما يعيش البيض في أحياء سكنية فقيرة ومهملة خائفون دوما من السلطات والحكومة التي أصبحت بيد السود تماما، وكل محاولاتهم في الحصول على مزيد من الحقوق الإنسانية الأساسية يُقابل برفض وأحيانا بعنف كبير.

هكذا تبدو عوالم المسلسل البريطاني “الأصفار والصلبان” (Noughts & Crosses) الذي عرضته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). تتخيل قصة المسلسل أن سودا أتوا من القارة الأفريقية قد احتلوا أوروبا بأكملها منذ 700 عام، وهم يسيطرون منذ ذلك الحين على الحكم فيها، وقد فرضوا نظاما عنصريا عليها، كما أنهم يمسكون بالسلطات جميعا، بينما يعيش البيض منبوذين ومهمشين ولا يمكنهم الحصول على وظائف حكومية إلا بصعوبات كبيرة، وحتى أن الاختلاط بين الأعراق في المدينة يُواجه بسخرية وعنف، ويقترب من أن يكون فعلا ممنوعا.

احتلال أفريقي للقارة الأوروبية.. خيال درامي يلقي بظلاله على الواقع

لا يُبيّن المسلسل الأحداث التي وقعت منذ احتلال الأفارقة للقارة الأوروبية، إذ إنه يبدأ من العصر الحالي الذي لا يختلف كثيرا عن الحياة التي نعيشها اليوم، فسكان مدينة لندن -عاصمة الإمبراطورية الأفريقية- يشبهون في حياتهم الحياة المعاصرة التي نعرف، فهم يتواصلون بنفس وسائل الاتصال المعروفة اليوم، والحكومة وأجهزتها الأمنية المتنوعة تشبه إلى حدود كبيرة أنظمة اليوم، والأمر الأهم أن تطلعات الناس وأحلامهم سواء كانوا سودا أو بيضا لا تختلف أبدا عن بشر اليوم.

مرَّ الاحتلال الأفريقي للقارة الأوروبية بمراحل عدة -كما يبدو من إشارات الحلقات الأولى من المسلسل- بداية من القمع الكامل للبيض في الماضي إلى نظام أقل قسوة اليوم، وإن كان هذا النظام الحالي ما زال يحتفظ بتركات الماضي الاستعماري، بيد أن التطورات الطبيعية التي مرَّ بها عالم المسلسل الخيالي أثرت بدورها على طبيعة الحكم الأفريقي للقارة الأوروبية، إذ إنه يَعرف اليوم استحالة مواصلته لسياساته العنصرية السابقة التي تلقى معارضة من بعض السود أيضا.

الشاب الأبيض “جود” في صدام دامٍ مع أحد أفراد شرطة الحكومة الأفريقية في أجواء احتجاجات جديدة بين البيض والحكومة

كان هذا العالم المُعقد هو عالم مسلسل “الأصفار والصلبان” الذي يمكن تشبيهه بالولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي عندما كانت السياسات العنصرية ضد الأمريكيين السود سائدة، بينما كانت تنمو ببطء حركات شعبية وسياسية بين السود -وحتى البيض- ترفض هذه السياسات، وتسعى إلى تغييرها وإزالتها.

يقترب المجتمع الذي يقدمه المسلسل البريطاني من تغييرات عاصفة ستزلزل كيانه بحيث تمثل المقاومة التي يبديها اليوم رد فعل بديهي على هذه التغييرات، وهذه اللحظة من الزمن والمميزة بخصوصيتها، وأيضا بثمنها البشري الذي سيكون باهظا للغاية؛ هي دائما لحظة نموذجية للدراما.

إصابة شاب أبيض في الرأس.. ليلة دامية مع شرطة الحكومة الأفريقية

تبدأ الحلقة الأولى من المسلسل بمشاهد طويلة شديدة الدلالة والآنية، إذ تصل سيارة شرطة الحكومة الأفريقية إلى مكان كان يحتفل به شباب بيض من بينهم بطل المسلسل “كالوم” وأخوه “جود”، وقد كانت مناسبة الاحتفال حصول “كالوم” على فرصة للالتحاق بالشرطة التي هي بشكل عام حكر على السود.

تفلت الأمور سريعا في المواجهة بين الشرطة والشباب البيض في تلك المشاهد الافتتاحية من المسلسل، كما أن أجواء الاحتقان والغضب كانت واضحة كثيرا وتشير إلى تاريخ طويل من العنف والمعاملة غير العادلة.

يبدو طول هذه المشاهد وغوصها في التفاصيل مقصودا، فهي تشبه ما يحدث في بعض الدول الغربية أحيانا في تقاطعات الشرطة مع شباب من أصول عرقية ليست بيضاء، فالتشكيك والخوف من الآخر هو السائد في تلك المواجهات، وهذا سيوفر محيطا مثاليا لعنف منفلت قاس.

أصيب أحد الشباب الموجودين في تلك المواجهة إصابة خطيرة في رأسه، وخيمت هذه الحادثة على الحلقة الأولى والثانية من المسلسل، إذ إنها أطلقت موجة احتجاجات جديدة بين البيض والحكومة، ووضعت شخصيات المسلسل على المحك، فالبطل “كالوم” حائر بين الانضمام إلى حركة الاحتجاجات، وبين التحضير لمقابلته المهمة للعمل في الشرطة، بينما أخوه الغاضب يلومه على رغبته في الانضمام إلى جهاز أمني يقمع أبناء عرقه.

خادمة بيضاء في منزل السود.. حلقة الربط بين عالمين مختلفين

على الرغم من اتساع المشهد العام الذي يبدأ به المسلسل، فإنه ركز تدريجيا على شخصيات محدودة ستعكس عبر تفاصيل حياتها اليومية وخياراتها أثر الأحداث الكبيرة في الخارج، وسيتوزع الأبطال الرئيسيون في المسلسل بين عائلتين:

الأولى عائلة من البيض ينتمي لها البطل الشاب “كالوم” الذي يعيش مع أخيه ووالديه، والثانية عائلة البطلة “سيفي” التي تعيش مع أختها ووالديها، أما ما يربط العائلتين فهو عمل الأم البيضاء كخادمة في منزل العائلة الأخرى النافذة، إذ يعمل أب العائلة كوزير داخلية البلد، وله طموحات سياسية خطيرة ستتكشف عبر زمن المسلسل.

“سيفي” و”كالوم”.. علاقة قفزت على تعقيدات الواقع

بموازاة الصراعات العرقية والأحداث السياسية الجسيمة تنشأ قصة حب عذبة بين “سيفي” و”كالوم”، حيث يتقابل البطلان الشابان عندما كان “كالوم” يعمل كنادل في حفلة أقامتها عائلة “سيفي”، ويتذكر البطلان بسرعة أنهما كان يلعبان معا عندما كانا طفلين قبل أن تباعد بينهما الظروف العامة في البلد.

قصة حب تنشأ بين البطلين “سيفي” و”كالوم” الذي يعمل في حفلة أقامتها عائلة سيفي، ويتذكران أنهما كانا يلعبان معا في طفولتهما

تتحدى قصة الحب بين “سيفي” و”كالوم” كل الظروف والتقاليد العامة، فهما من عالمين مختلفين جدا، ويفرق بينهما العرق والمركز الاجتماعي، بيد أن هذا لن يوقفهما، كما لن توقف البطلة ارتباطها بصديق أسود ذي مركز مهم في شرطة البلد، وقد جن جنونه حين عرف أن صديقته التي كان يتمنى الزواج منها اختارت شابا “وضيعا أبيض اللون”.

مرت قصة الحب في المسلسل بمطبات هائلة، وكل مرة تبدو وكأنها لن تنجو، لكنها تعثر على القوة التي تجعلها تتواصل. يخفي الحبيبان قصة ارتباطهما عن الجميع في محيطهما بسبب خوفهما من اللوم والانتقاد وحتى العقاب، وعندما ينكشف أمر العلاقة يقف الجميع ضدها قبل أن يلين قلبي والدتيْ البطلين وتسمحان بها.

سوداوية الأحداث.. قصة حب في مهب الريح

هناك فروع عديدة في قصة المسلسل يتصل بعضها بقصة الحب بين البطلين، كما أن هناك سرّا يخفيه والد البطلة المسؤول الحكومي المهم، إذ إنه يملك ابنا من علاقة غير شرعية، ويمكن أن يؤدي انكشاف أمره إلى تدمير مستقبله السياسي، وتعاني زوجته كثيرا من هذا السرّ، إذ يمنعها أن تعيش حياة طبيعية مع زوجها.

تزداد سوداوية المسلسل مع تواصل أحداثه، فتكاد قصة الحب الرئيسية فيه أن تذهب ضحية للظروف السياسية والاجتماعية العامة، كما يزيد انضمام أخ البطل لجماعة بيضاء محظورة من تعقيد حياة أهله، إذ يضطر “كالوم” أن يترك الشرطة التي انضم إليها بعد أن اكتشف أن أحد زملائه كان ينوي قتل أخيه، بينما يضحي أبو العائلة -الذي يملك تاريخا في جماعات الدفاع عن حقوق البيض- بحياته لإنقاذ ابنه المتورط في عمل إرهابي أدى إلى قتل أبرياء.

قنبلة الحادث الإرهابي.. انفجار في الأحداث شتت المسلسل

بينما سارت الحلقتين الأوليين ببطء وتمهل بشخصيات المسلسل والعالم الغريب الذي تعيش فيه، حشدت الحلقات الأخرى الكثير من الأحداث في زمن قصير، الأمر الذي أثر كثيرا على جودة هذه الحلقات، فقد عرضت تفاصيل تورط ابن العائلة بعمل إرهابي بسرعة كبيرة، وكذلك الأحداث اللاحقة، ومنها محاكمة الأب الذي أراد تخليص ابنه من الموت، فادعى بأنه هو من وضع القنبلة التي قتلت الأبرياء.

صورة تجمع وزير الداخلية الذي يمتلك ابنا غير شرعي مع زوجته التي تعاني من مشاكل نفسية

كما أن تفاصيل أخرى -مثل الابن غير الشرعي لوزير الداخلية ومشاكل زوجته النفسية- شتتت من الانتباه للقصة الرئيسية وحدتها التي بلغت مستويات عالية كثيرا في الحلقتين الأوليين، خاصة عندما ركزت على سعة الفجوة بين العالمين الأسود والأبيض وآثار ذلك على الشخصيات، كالمشاهد التي أظهرت مقدار الاحتقار والمهانة التي واجهها البطل عندما بدأ في التدرب والعمل في جهاز الشرطة.

وبينما كانت قصة حب البطلين تُشكل ما يمكن اعتباره نسخة جديدة من قصص الحب المستحيلة هما “روميو وجوليت” في هذا العالم الغريب العنصري الذي يحاسب فيه الناس على لون جلودهم ومركزهم الاجتماعي، فإنها أيضا رسمت تفاصيل المسلسل بعناية كبيرة، ومنحت الوقت الكافي حتى تنضج بتمهل، كما لعب أداء الممثلين الجيد للشخصيتين دورا مهما في جعل المسلسل يدور حول قصة حبهما التي أضافت الكثير من القتامة والشجن على عوالم العمل الدرامية.

تبادل الأدوار بين عالمين.. مكمن قوة المسلسل

يذهب الكثير من الاهتمام في المسلسل إلى التفاصيل البصرية، فقد شيد عالما مقلوبا يكون فيه السود هم أسياد العالم والبيض هم الأقلية المضطهدة، ليكون هذا العالم تذكيرا دائما بما يُمكن أن يكون عليه حال عالم اليوم لو تبادل الأقوياء والضعفاء الأدوار، كما أن هذا الجانب شكل أهمية كبيرة في المسلسل، وهو -إلى جانب القصة الرئيسية والفرعية- ما يمنح حلقات المسلسل القوة والديمومة.

سيفي تُشارك في إحدى حفلات الأفارقة المُترفة التي يبدو فيها السود هم أسياد العالم بينما البيض أقلية مضطهدة

يتبادل البيض في المسلسل المواقع مع السود في العالم الفعلي الذي نعيشه، فهم يسكنون في أماكن معزولة مغلقة، ويلبسون الملابس الغريبة بألوانها وتصاميمها، ويعبرون عن مآسيهم برسومات غرافيتي ترسم على جدران الأحياء المغلقة التي يعيشون فيها، بينما يعيش السود مترفين في أحيائهم الغنية وبيوتهم الواسعة، وهم يسيطرون على جميع المناصب المهمة في البلد، فعندما حوكم والد البطل كان جميع القضاة والمحلفين من السود.

كانت هناك تفاصيل أكثر تأثيرا من غيرها تبين غرابة العالم المقلوب الذي يرسمه المسلسل مثل سلسلة المشاهد التي تتبع البطلين الشابين عندما كان يحاولان أن يقضيا بعض الوقت معا بعيدا عن نظرات الاستهجان في الشارع.

اتجه البطلان إلى مكان سري لا يفتح أبوابه إلا للعشاق من أعراق مختلفة، وعندما دخلا هذا المكان كان مليئا بأزواج خائفين، لكنهم سعداء لأنهم في مكان عام لا يُحاسبهم على اختيارهم لشريك من عرق آخر، مع أن البطلين لم ينعما بكثير من السكينة بهذا المكان الخاص، فقد دمره حبيب البطلة السابق الذي كان يبحث عنها في دهاليز الحي الأبيض حيث يقع ذلك المكان.

أزمة تعايش الأعراق الملحة.. إشكاليات العالم الحقيقي

يستند المسلسل إلى رواية متسلسلة تحمل الاسم ذاته للكاتبة “مالوري بلاكمان”، وتتوجه الرواية للمراهقين والشباب، وتقدم قصة الحب الرئيسية فيها من وجهة نظر البطلين، ولا يأخذ المسلسل التلفزيوني هذه المقاربة، لكنه يبقي على العوامل الأخرى في الرواية، ويُضيف لها قوة بصرية وقتامة كانت مؤثرة في كثير من المواقع.

قصة الحب بين “سيفي” و”كالوم” تحدت كل الظروف والتقاليد، فهما من عالمين مختلفين، ويفرق بينهما العرق والمركز الاجتماعي، بيد أن هذا لن يوقفهما

لا ريب أن مسلسلا تنتجه هيئة الإذاعة البريطانية المعروفة بتوازنها الكبير وحكمتها سيكون شديد الحرص، وهو يتناول موضوع الأعراق المشكلة، وسينجح المسلسل في معظم وقته في إثارة الأسئلة ودفع المشاهد للتأمل، ولن يحصر نفسه بتقديم عالم غريب مقلوب.

هناك عدة مستويات من الأفكار التي يثيرها المسلسل مع مشاهديه تبدأ بصدمة العالم غير المألوف الذي يقدمه عندما يكون السود (الأقلية في العالم الغربي الفعلي الذي نعيشه فعلا) هم الفئة القوية والمهيمنة، والمشاعر التي يمكن أن يثيرها هذا العالم المتخيل في مشاهد اليوم، وربما دفعه للتفكير في سلوكه وأحكامه لجهة قضية الأعراق الحساسة.

لا يقدم المسلسل عالما مبسطا، فالشر والخير موجود في شخصيات من السود والبيض على حد سواء، وهذا ما سيتكشف تدريجيا عبر أحداث المسلسل، وسيضيف هذا التعقيد أهمية للمسلسل، ويرفع في نهاية الأمر من قيمة القضايا التي يتناولها ويفتحها للنقاش، فيقترب من النقاش الدائر اليوم في كثير من الدوائر الفكرية والإعلامية عن تحديات العلاقات بين الأعراق والمسؤوليات الفردية والجماعية تجاه هذه المسألة.