“نزوح”.. عائلة سورية تنتقل من مناطق الثوّار إلى هيمنة الدولة

ليست القصة التي يقدمها الفيلم الروائي الطويل “نزوح” للمخرجة السورية سؤدد كعدان غريبة علينا، إذ يجسد قصة عائلة كانت على مفترق طريقين، إما البقاء في بيتها، أو النزوح إلى مكان آخر، بسبب اتفاقات بين الثوار الذين كانوا يتحكمون في الحي الذي يعيشون فيه، والجيش السوري الذي يريد أن يُعيد فرض سيطرته الأمنية على المنطقة، وقد شاهدنا مثيلات هذه القصة مرارا على نشرات أخبار التلفزيون في السنوات الخمس الماضية.

ولعل ما يميز هذا الفيلم الطويل الذي عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان البندقية الدولي، هو أن الفيلم قد صُوِّر بإذن الحكومة السورية وفي مناطق سيطرتها، وهو الأمر الذي يلف الفيلم بطبقة من الإشكالات والجدل، ويضعه تحت عدسة مكبرة من الظنون ربما لا يستحقها في الواقع.

سينما الحرب.. هيام في البكائيات ووجع لا ينتهي

بداية ليس هذا أول عمل فني سوري يتناول الثورة والحرب يصور بموافقة السلطات السورية، بل إن للمخرجة نفسها فيلما سابقا بعنوان “يوم أضعت ظلي” (2018)، وتتناول في حكايته آثار الثورة السورية على السوريين العاديين، عبر قصة امرأة سورية من الطبقة المتوسطة تجد نفسها وحيدة في مواجهة واقع قاس لم تعتده.

 

ولعل ما يجمع هذه الأعمال هو إسهابها في وصف الألم السوري والواقع الجديد الذي وجد السوريون فيه أنفسهم بعد الحرب، بيد أن هذه الأعمال اختارت أن لا تحفر على الإطلاق في التاريخ السابق للثورة، وتطرح أسئلة عن المسؤولية للقوى النافذة في سوريا، أو كيف يمكن الخروج من الهوة السحيقة التي يعيش فيها البلد اليوم من دون مراجعات أو مكاشفات جذرية بدت غائبة حتى اليوم عن هذه الأعمال.

بدا معظم هذه الأعمال هائما في بكائيات ووجع سوري لا ينتهي، ومتفاخرة على نحو ما بلحمة وطنية أثبتت الأحداث والواقع أنها انهارت بسهولة أمام ضربات التحولات والأحداث الداخلية والخارجية. وتوسلت الأعمال السورية التي يمكن إطلاق صفة الرسمية عليها جزافا بالعواطف، وابتعدت عن العقل والتحليل، لتتحول إلى واسطة للتنفيس عن الحزن السوري العام عبر النبش في الجرح الذي خلفته الحرب، من دون توفر النية الفعلية في مداواة هذا الجرح.

من سيطرة الثوار إلى هيمنة الدولة.. عائلة تنتظر المجهول

يرسم فيلم “نزوح” صورة لما يمكن أن يكون عليه بيت تعيش فيه عائلة سورية في منطقة كانت تحت سيطرة الثوار، إلا أنها ستعود إلى هيمنة الدولة قريبا. يرفض الأب معتز (الممثل سامر المصري) المغادرة، بينما تخشى الأم هالة (الممثل كندة علوش) ما يمكن أن يؤول إليه الوضع الخطر من حولهم، وأما البنت المراهقة زينة (الممثلة هالة زين) فهي تعيش في عالم من الأحلام والخيالات، وهو العالم الأكثر نضوجا على صعيد الكتابة، وكذلك الأرفع سينمائيا من عالمي والديها، ويرفع هذا الفيلم مراتب عن أعمال فنية مشابهة.

يبدأ الفيلم بمشهد للبنت وهي ترسم على أحد الأسرّة في غرفتها، فقد أجبرت الحرب الفتاة على اختزال عالمها الصغير أصلا إلى ما بين جدران المنزل حيث تعيش مع أبيها وأمها.

العائلة السورية التي تنتظر المجهول بعد أن انتقلت من مناطق سيطرة الثوار إلى مناطق هيمنة الدولة

 

تدور الحياة اليومية في منزل العائلة حول التفاصيل المجهدة، من توفير البنزين لمولدة الكهرباء والماء الذي انقطع تماما، يرقص الأب عندما تشتغل المولدة القديمة لإنتاج الكهرباء، ويعم الوجوم الجميع عندما تتوقف، وتدور الكاميرا في مشهد آخر مع المروحة التي تشتغل على مولدة الكهرباء، لكن يوقفها الأب خوفا على وقود المولدة الكهربائية القريب من النفاذ.

ليست المشاكل اليومية هي كل ما يواجه العائلة، فالجيش السوري يقترب، والعائلة من آخر الباقين في الحي، بعد خروج الجيران خارجه ضمن اتفاقيات أمنية مع السكان تضمن سلامتهم.

“أنا ابن الشام لا أصير لاجئا”.. ملامح السوري الفخور والأب الكاريكاتوري

“أنا ابن الشام لا أصير لاجئا”. تلخص هذه العبارة التي صرخ بها الأب بوجه زوجته على نحو ما ملامح شخصية الأب، وهو رجل سوري فخور بأصله، ولا يريد أن يتحول إلى لاجئ، بيد أن هذا التفسير لا يبدو كافيا عند وضعه أمام التحولات الخطيرة للظروف المحيطة بالعائلة والخطر القادم.

يبدو الأب وكأنه خارج للتو من أحد المسلسلات السورية النمطية، وبالخصوص مسلسلات الحارة الدمشقية، فقد بدت شخصيته مسطحة إلى حد كبير، وبدا أقرب إلى الكاريكاتور منه إلى الشخصية الحقيقية المركبة، وحتى حبه وتعلقه ببيته كان يمكن فهمه وتقديره لو جاء مصحوبا بأداء متفهم مركب.

أما شخصية الأم فكانت أكثر تعقيدا من الأب، لكنها أيضا بقيت تتأرجح بين “الأم” كما تحضر في الأعمال الفنية العربية النمطية، أي الأم المسحوقة والمسلوبة أمرها، وبين امرأة تدفعها الظروف الخارجية إلى محاسبة ماضيها وقراراتها، وبالتالي أخذ وجهات جديدة لم تكن تحلم بها لولا ما يحصل في بلدها ومحيطها من ثورة وسقوط مسلمات.

تلف الكاميرا في حركة دائرية عبر شباك غرفة جلوس عائلة الفيلم على الحي المدمر في الخارج (صور الفيلم في حي مدمر في سوريا)، لم تبق الكثير من البنايات الواقفة في الحي، عدا تلك التي تعيش فيها العائلة السورية.

الممثل سامر المصري بدور الأب والممثلة كندة علوش بدور الأم السورية التي تتفقد منزلها المهدّم

 

هذا هو الواقع الذي تعيش فيه العائلة، والفصل القادم من حياتها سيكون الأكثر تحديا على صعيد مستقبلها وعلاقتها بالحرب التي صارت على بُعد أمتار منها.

قذائف القصف.. فتحة في السقف تشكل نافذة الأحلام

في مشهد مذهل بتقنياته وأثره تسقط قذيفة على بيت العائلة وتفتح فتحة كبيرة في سقفه، وتهدم جدران عدة في البناية وتفتحها للعناصر الطبيعية. تظهر لقطات بطيئة تشظي قطع من البناية إثر القنبلة المدمرة، حيث يمكن متابعة فعل البارود المدمر في البناء.

يُعدّ المشهد باحترافيته وإتقانه سابقة على السينما العربية، إذ يترك أثرا كبيرا، ويهز التركيبة المحافظة التي بدا بها للفيلم، ويدفع إلى مواجهات مؤجلة.

ستفتح الفتحة في سقف البناية نافذة الأحلام لبنت العائلة، إذ لم يعد يقف بينها وبين السماء المفتوحة فوقها إلا شرشف يطير بسهولة، أو تزيله هي نفسها عندما تريد أن تقابل ابن الجيران عامر (الممثل نزار العاني)، وهو صبي يقاربها بالعمر، وكان يساعد الثوار في إنتاج الأفلام والمواد السمعية لإرسالها إلى الإعلام في خارج سوريا.

يُعد جزء الأحلام الخاص ببنت العائلة أكثر أجزاء الفيلم سينمائية وتأثيرا، إذ يتضمن هذا الجزء كثيرا من الخيال والتجريب الصوري لجهة تحويل هواجس الفتاة وأحلامها بعالم واسع بعيد عن الحرب، إلى صور سينمائية بارعة ومؤثرة في كثير من المواقع.

بيد أن المناخ المحافظ العام والافتعال الذي طبع الفيلم سيتسلل بدوره إلى العالم الخاص بالفتاة المراهقة، وعندها تزيد المخرجة مثلا من تفاصيل بعينها لتغازل جمهور السينما الفنية والمثقفين تحديدا بكليشيهات معروفة.

بنت العائلة المراهقة زينة تحدق إلى السماء بعد أن فتحت قنبلة سقف بيتهم

 

يملك ابن الجيران المراهق كل شيء في بيته تقريبا لتنفيذ كليشيهات الفيلم الفنية، فهو يستطيع مثلا أن يعرض أفلاما منزلية صوّرها هو بنفسه على عارضة على سطح المنزل، ويسجل شهادة صوتية للبنت بأجهزة صوت محترفة، كل هذا والجيش السوري على بعد أمتار قليلة فقط.

زواج المراهقة.. ندم الماضي يأكل الأم ويقلب الأحداث

إذا كان الخوف من الجيش السوري القادم إلى الحي لم يحرك الأم بالقدر الكافي، فإن زواجا يجري ترتيبه لابنتها المراهقة يدفعها هذه المرة إلى الثورة على زوجها وتركه، إذ أنها زوجت قبل سنوات ابنتها الكبيرة بهذه الطريقة، وما زال الندم يأكل قلبها على ذلك الزواج، ذلك أن البنت محاصرة اليوم في منطقة أخرى، بسبب قرارات غير ناضجة من زوجها.

ما يعقب هروب المرأة وابنتها بدون الأب هو سلسلة غير منضبطة من المشاهد والانفعالات والانتقالات النفسية غير المفهومة بالكامل، وتعد تحويله على صعيد الأسلوب مع نصف الفيلم الأول، وبالخصوص مجموعة المشاهد الحلمية والحميمة لبنت العائلة المراهقة.

الضفة الآمنة.. سوريا مُهدمة وأنقاض على مدى البصر

في الطريق إلى الضفة الآمنة تمر الأم وابنتها -ويلتحق بهما بعد ذلك ابن الجيران- بسوريا مهدمة وأنقاض على مدى البصر، وذلك في مشهديات سورية تبقى صادمة على الرغم من شيوعها في الإعلام في السنوات الأخيرة.

لكي يبرر الفيلم تصوير مشاهد منه من الجو، سيصادف أن يحمل ابن الجيران طائرة “درون” تركها الثوار، لتصور لقطات من السماء للخراب العام في الحي الذي كانت تقطنه العائلة.

في الطريق إلى الضفة الآمنة تمر الأم وابنتها بسوريا مهدمة وأنقاض على مدى البصر

 

لا يتيح ابتعاد الأم وابنتها عن سطوة وحضور الأب للدراما أن تنضج أو تتطور، بل تواصل ضياعها في أفكار وقيم جاهزة وتقليدية، كهاجس الذهاب إلى البحر الذي يلح على الشخصيات برمزيته المعروفة، أو رغبة صيد الأسماك لبنت العائلة.

تقابل الشخصيات في رحلتها للعبور إلى الجهة الأخرى شخصيات سورية على الطريق، وقد بدا بعضها تائها أو فقد عقله بسبب ما رآه من أهوال. لقد مرت هذه الشخصيات على الشاشة دون تأثير كبير، رغم أنه كان يمكن استثمارها في توسيع رقعة المشهد الذي يقاربه الفيلم، وإضافة تفاصيل إنسانية إلى المشهد السوري، بدل الاكتفاء بعائلة الفيلم وابن الجيران.

“نزوح”.. فيلم يسمي الأشياء بلا استعارات

بالمقارنة مع الأعمال الفنية التي نفذت في مناطق الحكومة السورية، يتميز فيلم “نزوح” بأنه يسمي أحيانا الأشياء بأسمائها ودون تورية أو استعارات، فالأم وابن الجيران يبدوان قلقين من وصول الجيش الذين يسمونه باسمه، لكنهما في المقابل يبقيان عند حدود التسمية، لتتعثر الدراما في فخ المحظورات الذاتية التي فرضت على صُناع الفيلم أنفسهم.

حتى تعلق الأب ببيته يبقى بدون تفسيرات مقنعة، لأنه عرض بدون عرض فعلي وبدون خلفيات، بل بدا أقرب إلى العرض الدعائي الفج الذي كرسه أداء سامر المصري السطحي للشخصية بانفعالاته البدائية المنفلتة.

ينضبط إيقاع الفيلم ويسمو بلغته السينمائية عندما يركز على الفتاة المراهقة في الفيلم، فقد بدت شخصيتها مكتملة وواضحة المعالم، ولأنها -بسبب عمرها- بعيدة عن التحديات الرقابية التي ربما واجهت كتابة شخصيات مثل الأب والأم، ففتاة مراهقة مثل فتاة الفيلم لم تطور بعد وجهات نظر فيما يجري حولها.

تلعب الممثلة هالة زين شخصية الفتاة بعفوية كبيرة، فهي فتاة تتطلع للمستقبل وتحلم بحياة طبيعية بعيدا عن العنف الذي وجدت بلدها فيه، بيد أن السيناريو الضعيف والمتردد للفيلم وغياب الرؤية الواضحة للفيلم نفسه فيما يريد أن يقول بالشأن العام برمته؛ أحاط البنت نفسها بكثير من التفاصيل الزائدة، وأثر في النتيجة على قوة حضورها.