“أشجار السلام”.. ثمانون يوما من النجاة في مخزن تحت الأرض خلال الحرب

يستند فيلم “أشجار السلام” على قصة حقيقية جرت أثناء الحرب الأهلية في رواندا بين قبيلتي “الهوتو” و”التوتسي”، التي وقعت أحداثها مباشرة بعد عملية اغتيال الرئيس “جوفينال هابياريمانا” في عام 1994، واستغلال قادة “الهوتو” لها ذريعة لتوجيه تهمة تدبير عملية الاغتيال لخصومهم من قبيلة “التوتسي”، وعلى الفور ودون انتظار نتائج التحقيق شنّ رجالها هجوما مسلحا عليهم.

كثير من قصص تلك الحرب الأهلية الشنيعة التي قتل فيها أكثر من نصف مليون شخص، وعرفت لاحقا بـ”الإبادة الجماعية في رواندا”؛ اطلع عليها العالم من خلال شهادات الناجين منها، ومن بينها قصة مجموعة من النساء هربن من الموت إلى أحد البيوت، وحتى لا يعرف مسلحو “الهوتو” بوجودهن فقد نزلن إلى قبو صغير فيه مخزن لحفظ الأغراض، وبقين مختبئات فيه لم يخرجن منه إلا بعد مرور 81 يوما.

الفيلم من إنتاج شركة “نتفليكس”، وقد حصل على عدد من الجوائز السينمائية، من بينها جائزة أفضل فيلم في مهرجان الفيلم الأفريقي، وتتمحور قصته حول أربع نساء من أصول مختلفة، اجتمعن في المكان الصغير وبقين فيه، في انتظار انتهاء الصراع الدموي الذي كن يراقبن جزءا من تفاصيله من خلال نافذة صغيرة في المخزن تطل على الشارع المقابل للبيت.

مخزن الأرواح.. ملاذ أربع نساء هاربات من الحرب

ظلت مخرجة الفيلم الأمريكية “ألانا براون” تجمع تفاصيل الأحداث وتقابل الناجيات طيلة عشر سنوات، وبعدها وجدت نفسها جاهزة لكتابتها سينمائيا، وبأسلوبها الخاص الذي حاولت فيه تجنب النقل المباشر للفظائع المرتكبة، والتركيز بدلا منها على الصداقة الإنسانية التي تكونت بين النساء خلال ظرف عصيب، كما اهتمت بنقل خلفياتهن الاجتماعية وتعقيدات تكوينهن النفسي حتى لا تحولهن إلى شخصيات جاهزة تطغى عليها الإيجابية الزائفة.

يظهر ذلك من خلال التوتر والتحفظ الذي ساد منذ اللحظة الأولى التي وجدن أنفسهن فيها محاصرات داخل مساحة ضيقة من دون طعام كاف ولا ماء، وكان عليهن طيلة تلك الفترة الحفاظ على تماسكهن حتى لا يكتشف مسلحو “الهوتو” وجودهن، وبالتالي ينتهي بهن الأمر إلى موت محتم.

الراهبة التي لجأت للرهبنة هربا من سلوك والدها الفظ، وتعامله القاسي مع أمها

تستعجل صانعة الفيلم الدخول إلى القبو والاكتفاء بنقل أصوات صراخ مقاتلي “الهوتو” وهم يطاردون رجال “التوتسي” في شوارع المدينة محرضين على قتلهم وواصفين إياهم بالصراصير، ولتحديد هويتهم يسمونهم “الأشجار الطويلة” نسبة إلى طول قاماتهم.

داخل البيت يظهر رجل يُدعى “فرانسوا” (الممثل تونجاي كريسا) وهو يتوسل زوجته “أنيك” (الممثلة ألياني أوموهير) الحامل في أشهرها الأخيرة من أجل القبول بالنزول إلى مخزن بيتهم حفاظا على حياتها، يعدها بالعودة ويوصيها بالاهتمام بنفسها وبمولودهما المنتظر، وبعد مرور مدة من الزمن يوصل الزوج ثلاث نساء أخريات إلى المخزن.

“موتيسي”.. طبع حاد وعنصرية مقيتة وحياة على المحك

من بين النساء شابة من قبلية “التوتسي” تُدعى “موتيسي” (الممثلة بولا كوليوشو)، وهي متذمرة وشرسة الطباع، لكنها تتمتع بذكاء وفطنة في الوقت نفسه. لا تعترف بفضل أصحاب البيت، وتحسدهم لأنهم من قبيلة “الهوتو”، وأن فرص نجاتهم كبيرة، بينما هي حياتها على المحك، وتتوقع أن تكون نهايتها مثل نهاية سكان قريتها التي أبادها المسلحون عن بكرة أبيهم، واضطرت بسببها للهروب منها في جنح الظلام.

رد فعل الزوجة على كلامها يوضح أنها وزوجها هما من “الهوتو” المعتدلين الذين لا يرضون بالعنف وسيلة لحل المشاكل، وأنهم مثل غيرهم من المعتدلين مطلوبين للمسلحين الذين يعاملونهم كخونة يستحقون الموت أيضا.

معاناة الناجيات مع شخصية تظهر جانبها الموحش في زمن القهر

لا تتخلى الشابة عن تذمرها وحِدّة طباعها، وتظهر عدائيتها ضد الشابة الأمريكية “بيتون” (الممثلة ألياني أوموهير) التي انضمت إليهم، إذ تُذكرها باستمرار بلون بشرتها الأبيض وجنسيتها الأمريكية التي ستحميها من الموت.

وسط كل ذلك التوتر الناشئ من خوف مسيطر على المكان كانت الراهبة “جانيت” (الممثلة تشارمين بينغوا) تحاول خلق مناخ متسامح بين النساء لكن دون جدوى، فالضغوطات النفسية والخوف من المجهول أقوى من دعواتها.

اغتصاب امرأة “التوتسي”.. مشهد يكشف عنف أحد رجال الكنيسة

تهتم صانعة الفيلم كثيرا بشخصياتها وتكوينهم، حيث تعطي لكل واحدة منهن فرصة عرض خلفيات نشأتها، لأنها تريد تقديمهن كبشر لا كملائكة، ويظهر ذلك من خلال تفاصيل صغيرة تتعلق بالطعام القليل الذي يوفره صاحب البيت لزوجته ولهن، ومن أجل توصيله يأتي في فترات متباعدة إلى المكان للاطمئنان على المختبئين فيه، ومن بينهم زوجته التي كان يشجعها رغم معرفته بالأخطار المحتملة لإسقاط جنينها.

كتاب “بذور الحب.. أشجار السلام” يفتح ممرا لقيّم نبيلة وأخوة جديدة

في الفرصة المتاحة بين سرد القصص تُحوّل المخرجة كاميرتها إلى الخارج لتنقل مشهدا فظيعا منه، وفي إحداها تصور عملية اغتصاب امرأة من “التوتسي” لم تنفع توسلاتها للمسلحين الذين كان من بينهم رجل تعرفه الراهبة لكونه من بين أعضاء الجوقة (كورال) التابعة للكنيسة، تحاول مناداته للانضمام إليهن، وذلك لظنها بأنه رجل صالح، أما البقية فيرفضن طلبها، وبعد لحظات تتأكد بنفسها من خذلان تقييمها له. لقد اكتشفت حيوانا شرسا في داخله حين رأته بأمّ عينيها يقتل المرأة بعد اغتصابها بدم بارد.

ستعترف بما يشبه الخيبة بأنها لم تكن تتوقع منه كل ذلك السلوك الشنيع الذي لم يكن يظهر عليه في وقت السلم، كما تعترف أيضا بأنها لجأت للرهبنة هربا من سلوك والدها الفظ، وتعامله القاسي مع أمها، حتى أقدمت على الانتحار تخلصا من قسوته.

مصرع الأخ.. عقدة نفسية من مخلفات عصر الكحول

يبلغ صاحب البيت الشابة الأمريكية بإمكانية الخروج من المخزن، بعد إصدار قادة “الهوتو” قرارا يسمح للبيض بمغادرة البلد، لكنها ترفض المغادرة وتشعر بالخجل من تمييزها عن البقية، فقط لأن لون بشرتها مختلف عن لون بشرتهم.

كوابيس تأتي في منامات المرأة الحامل وتقلق وجودها

ستحكي لهم جانبا مظلما داخلها، وهو الذي بسببه تطوعت للعمل الخيري، ففي شبابها كانت متهورة تكثر من شرب الكحول، وفي مرة وهي تحت تأثيره أرغمت أخاها الصغير على مصاحبتها في سيارتها للوصول إلى مكان قصدته، وفي الطريق تعرضت لحادث سير أدى إلى وفاته، شعورها بالذنب دفعها لمحاولة الانتحار، لكنها نجت من الموت، وحتى تخفف من عذاباتها الداخلية تطوعت لمساعدة الناس المحتاجين في رواندا.

أما الزوجة المحبة لزوجها فكان الخوف من فقدان جنينها هو الهاجس الأكبر لها، فقد سبق حملها الأخير أنها أسقطت دون إرادتها أربعة أجنة، ولم تصدق أن الأخير سيبقى في بطنها حيّا.

مقتل الزوج الخائن.. خطر الجوع وسقوط الجنين يهدد المخزن

كان الجوع مصدر قلق جميع النساء، ومن أجل الاستحواذ على القليل المتوفر من الطعام، كانت الأنانية تظهر بطرق مختلفة في سلوكهن، لكنهن سرعان ما كن يعترفن بذنوبهن ويطلبن المغفرة والتسامح، لقد كن متفهمات لذلك السلوك الأناني، فكل واحدة منهن تريد البقاء على قيد الحياة بكل الوسائل.

يشد الفيلم الجميل والمؤثر المتفرج إليه طيلة زمنه، رغم انغلاق المكان وصغر مساحته التي حاولت مخرجته التخفيف من رتابتها بين فترة وأخرى، وذلك من خلال خلق صلة بالخارج، عبر قصص جانبية مثيرة لاهتمام المتفرج، مثل ملاحقة المسلحين لصاحب المنزل، بعد اكتشافهم أنه يعمل مدرّسا في مدرسة مشتركة للطلبة من القبيلتين.

 

لقد اعتبروه خائنا وراحوا يبحثون عنه في كل مكان، وسمعت الزوجة خبر موته عرضا من مسلحين دخلوا بيتها بحثا عن هاربين، فانهارت وكادت أن تفقد جنينها. هنا يتداخل الخيال مع الواقع عبر مشاهد متخيلة على شكل كوابيس تراودها في منامها، كوابيس تعكس خوفها من ضياع أملها في أن تصبح أما.

بلجيكا.. نفوذ سياسي وتنصل من المسؤولية

تتصاعد الأحداث الدرامية في الخارج، ويرتفع معها منسوب التهم الموجه لبلجيكا التي كان منتظرا منها التدخل لوقفها بسبب نفوذها السياسي في البلد، وقوة تأثيرها على الأطراف المتصارعة فيه، لكن بلجيكا لم تقم بواجبها، بل تركت الأطراف المتصارعة يتحاربون فيما بينهم من دون أن تسهم في إيقاف القتال.

وقد اكتفت قوات الأمم المتحدة أيضا بنقل الأجانب وموظفيها من البلد لتتركه نهبا للعنف المنفلت.

أما النساء المحاصرات فبسبب قلة الطعام والقلق المتزايد وضيق المكان الذي كن يتناوبن على النوم فوق أرضيته، فقد بدأت الآثار تظهر على أجسادهن التي فقدت قوتها مع مرور الوقت، والطعام الذي يهربه صاحب المنزل إليهن لم يكن كافيا، والخوف من أن يؤثر على نمو الجنين في بطن أمه كان يزداد وينتقل إلى كل واحدة منهن.

الملصق الخاص بالفيلم ويظهر فيه تشبت الضحايا المحتجزات بالأمل للخروج

كل هذا زاد من التعويل على حل قد يأتي من خارج المخزن، إذ ربما يضع حدا لعذاباتهن، لكن المفاجأة أنه جاء من كتاب كان موجودا في داخله.

“بذور الحب.. أشجار السلام”.. كتاب صامت يهزم بنادق الحرب الصاخبة

كان الكتاب موجودا في حقيبة الشابة الأمريكية، وهو عبارة عن كتاب رسومات قصص للأطفال عنوانه “بذور الحب.. أشجار السلام” لمؤلفته “سوزان أليجاه كيرن”، لقد أثار وجوده موضوع اللغة، وكيف أن أغلب النساء في رواندا كن يتكلمن الإنجليزية، لكنهن أميات لا يعرفن القراءة أو الكتابة.

قرأت الأمريكية لهن صفحات منه، وكلها تتحدث عن بذور الحب التي ينشأ منها البشر وبقية الكائنات، ومع الوقت تكبر وتصبح أشجار سلام، وقد فتحت رسومات وكلمات الكتاب المجال لدواخل النساء الطيبة لتظهر على حقيقتها، لقد صرن أكثر تضامنا وتفهما لبعضهن، وفي لحظة حاسمة طلبن من الشابة التوتسية الهاربة من المجزرة مغادرة المكان أولا إذا ما توفرت لها فرص النجاة.

الزوج يخفي زوجته في مخزن حفظ الأغراض

رفضت الفتاة الدعوة، وأكدت أنها لن تتركهم كما تركها أقاربها وحيدة تعاني من آلام اغتصاب قريب لها، ولم يقدم أهلها ولا القرية المساعدة المطلوبة لها، بل تركوها وحيدة منبوذة، فقد أكدت لهم أنها لن تكون مثلهم تترك من يحتاج للوقوف معه وقت الضيق وأصرت على البقاء، وبأكبر قدر من الحماسة للتضحية بكل شيء في سبيلهن بعد أن اكتشفت طيبتهن وسماحتهن، ولهذا حاولت بكل قوتها فتح باب المخزن المقفل من الخارج. حتى نجحت بمساعدة البقية، لكنهن اصطدمن بسماع أصوات قادمة من الخارج، مما دفعهن للانتظار ريثما يتضح الأمر.

خاتمة الحرب الأهلية.. لحظة خلاص من الحرب والأمية

يقترب الفيلم من نهايته بفتح باب المخزن، لكن ثمة مشاهد سبقته أضفت معنى عميقا على قصته المؤثرة المليئة بقيم إنسانية، وكاشفة لتضامن نسائي حقيقي يُبيّن قوة المرأة في أوقات المحن.

تُركز الكاميرا على جدار المخزن وقد سجلت عليه النساء عدد الأيام التي مكثن فيها، وكتبن أيضا أسماءهن بأنفسهن، بعد أن علمتهم الشابة الأمريكية طريقة كتابتها، كما تعلمن قراءة أسطر من كتاب الأطفال الذي صارت معانيه دافعا لهن للتشبث بالحياة، وفي انتظار أن يكن هن أيضا أشجارا للسلام القادم. لقد فتحت القراءة والكتابة لديهن رغبة في إكمال تعليمهن في حال انتهاء الحرب الأهلية الشنيعة التي كانوا يسمعون صداها داخل مخبأهم.

مخرجة الفيلم ” ألانا براون”

وفي اليوم الـ81 من الاختفاء، دخلت مجموعة من مسلحي الجبهة الوطنية الرواندية التي طردت مقاتلي “الهوتو” إلى المنزل، وسمعت الزوجة صوت زوجها ولم تصدق. خارج المخزن حكى لها كيف تخلص من الموت بأعجوبة، بينما بقية مُدرسي المدرسة -وجُلّهم من المعتدلين- لقوا حتفهم على أيدي المسلحين.

لحظة خلاص لا تتوج خاتمة الحرب الأهلية فحسب، بل أيضا نهاية ماضٍ أليم تحررت منه النساء المختبئات خلال زمن تشكلت فيه بينهن أخوة جديدة، حتى صارت منبعا لأمل بخاتمة مرحلة سوداء من تاريخ رواندا، وبوابة للعمل من أجل ترسيخ السلم الأهلي الذي عملن على توسيع مفاهيمه والتثقيف بمبادئ العفو والتسامح إلى جانب الدعوة لترسيخ سلم حقيقي كالذي أكد عليه كتاب قصص الأطفال في أكثر من صفحة من صفحاته الملونة الجميلة.