“نحو الشمال”.. اغتيال الحلم الأمريكي المهاجر على شواطئ نيويورك

كل المواسم اليوم هي مواسم هجرة إلى الشمال، حيث الحياة الحرة والسعادة الغامرة، أو هكذا يُخيّل إلى شبابنا. المفارقة الكبرى أن السعادة هي حلم الشبان الذي يجعل أغلبهم تعساء، و”الحلم الأمريكي” حسب المؤرخ والكاتب الأمريكي “جيمس تراسلو آدامز” عبارة عن تجربة جديرة بأن تُخاض، ومغامرة جديرة بأن تُعاش، بعد أن أضحى الفردوس الذي طالما حلم به الشاعر الرومانسي مفقودا، لكن تبعاته كثيرا ما تتحوّل إلى كابوس مميت.

هذا شأن الشاب الروماني “دوميترو” الذي تزوّد بحقيبة ظهر صغيرة وأحلام كبيرة وهو يندس بين الحاويات على ظهر سفينة تايوانية تمر عبر موانئ الولايات المتحدة، عساه يظفر بـ”الكثير من الأموال”، ذلك هو موجز فيلم “نحو الشمال” (To the North) 2022 للمخرج الروماني “ميهاي مينكان”.

“الفيلم الذي كنت أرغب دائما في صنعه”

خلال مناوبته على ظهر سفينة شحن تعبر المحيط الأطلسي نحو الشمال الأمريكي؛ يكتشف البحار الفلبيني “جويل” وجود الشاب الروماني “دوميترو” مختبئا بين الحاويات.

هنا يكون مأزقه الكبير، فإخبار قادة السفينة التايوانيين بأمره يعني هلاك الشاب وإلقاء جثته في عرض البحر وفق ما يجري به العمل على ظهر السفينة، أما إخفاء سرّه فيعني مسؤولية العناية به ومساعدته على الوصول سالما إلى وجهته، وتلك مغامرة غير مأمونة العواقب، ويحسم الكتاب المقدّس قرار “جويل”، فبظهوره بين أغراض الفتى يقرر الرجل ذو التدين العميق أن يساعده لإتمام رحلته نحو الولايات المتحدة بسلام تقربا لله.

يشرح المخرج “ميهاي مينكان” انبثاق فكرة الفيلم في ذهنه بقوله: بدأت الأمر بفيلم وثائقي إذاعي، فقد حدثت القصة في ربيع عام 1996 في المحيط الأطلسي، وكان في الوسط “جويل”، وهو رجل عادي وبحار فلبيني. ذات يوم أثناء قيامه بواجب على ظهر السفينة وهي تبحر إلى الولايات المتحدة، اكتشف مسافرا رومانيا خلسة. في ثانية كان عليه أن يتخذ قرارا من شأنه أن يغير حياته، أن يفضح وجود الشاب، ويرسله بالتالي عمليا إلى الموت القاسي؟ أو أن يصغي إلى إيمانه وقلبه ويساعد المسافر خلسة ويعرض نفسه وطاقمه للخطر؟

 

في تلك اللحظة، أدركت أن هذا هو الفيلم الذي كنت أرغب دائما في صنعه. قصة اختيارات أخلاقية ولطف وتعاطف وشجاعة وخوف. فيلم يخاطب الناس عن حياتهم.

مشهد السباحة.. مياه البحر تجمع ألوان الشعوب الكادحة

يبدأ الفيلم بمشهد لشابين يسبحان في المحيط يظهر عليهما الإرهاق والاستسلام، كان أحدهما أسمر البشرة، ثم تبدأ القصة بـ”دوميترو” الشاب الروماني الذي يلتقي مع شاب بلغاري إثر مباراة كرة القدم، فيقرران التسلل إلى الميناء والاختفاء على ظهر سفينة شحن البضائع بين الحاويات الضخمة.

من هنا تبدأ رحلة القبض على الحلم الأمريكي، وفي البال حياة الرفاهية وتكديس الثروة انتقاما من شظف الحياة في الشرق الأوروبي. تُرى ما صلة الشابين السباحين بقصة الفيلم؟ وما محل الشاب الإفريقي الأصل، والحكايةُ تدور بين رومانيا والولايات المتحدة الأمريكية؟

إنها رسالة المخرج التي توضح أن قصته منزوعة من مساق متعدد النظائر والأشباه، وحكاية “دوميترو” هي حكاية شبان آخرين مشابهين له في كل أصقاع الدنيا.

الكتاب المقدس.. مُثُل المسيحية تنقذ من هلاك شنيع

يجمع السيناريو بين شخصيات يجمعها القدر معا لأول مرة، أو يفصل بينها تباعد مادي وروحي؛ الروماني “دوميترو” ورفيقه البلغاري والملاحة الفلبينيين وقادة السفينة التايوانيين. كان عليه أن ينسج من هذه الخيوط المنفصلة شبكة مترابطة، يستهلها بذلك البلغاري الذي يُلقى في عرض البحر بعد التفطن إليه، وما نهايته المفجعة إلا مؤثر درامي يرسم في ذهن المتفرّج المصير المحتمل لـ”دوميترو” في حال القبض عليه.

البحار الفلبيني “جويل” الذي لا يمتلك السلطة ليغير من قرار قادته

يبدو أن “جويل” لا يوافق على مصيره المؤلم، لكنه لا يمتلك السلطة ليغير من قرار قادته، وحتى يخرجه من حياده ويحشد تعاطفه مع الشاب الروماني؛ يبتكر فكرة ظهور الكتاب المقدس، وهو رجل ديّن، فلطفه ومُثُله المسيحية يدفعانه إلى مساعدة شاب لا يعرف عنه شيئا.

هنا تبدأ ملامح الشبكة في التشكل، يخاض الصراع بين قطبين، فيشكل “دوميترو” و”جويل” وبعض رفاقه الفيتناميين قطب التسامح والتطلع إلى الحياة، ويمثل القادة التايوانيون الصرامة العمياء التي تستهين بالأرواح. وهذا ما يخلق تفاعلا بين الطرفين مثيرا للفضول، وما يفرض على المتفرّج أن يكون في صف الشاب الحالم بالهجرة وإن خالف القانون، وفي صف قطب الخير. فالمواجهة غير المباشرة بينهما هي في حقيقة الأمر مواجهة بين الفقراء الأخيار والأغنياء الأشرار.

ورغم ما أبداه السيناريو من مهارة في نسج الشبكة، فإن حشر الفقراء جميعا في دائرة الخير والقادة التايوانيين في دائرة الشر لا يخلو من سطحية وتنميط.

حاويات السفينة.. فضاء صلب وبارد يجسد قسوة العالم

تدور الأحداث على ظهر سفينة شحن سابحة فوق مياه المحيط الأطلسي، ورغم عدم استغلال العناصر الطبيعية كالعواصف والأعاصير وما شابه لخلق المغامرات، فإنها كانت توجّه الأحداث وتمنحها وقعا خاصا، فالتفطن لـ”دوميترو” يعني الإلقاء به في المحيط بعيدا عن رقابة القانون، أو إدانة جمعيات حقوق الإنسان.

وبالمقابل كانت الأحداث تجري على ظهر السفينة في الحاويات والغرف المشتركة، أو في مكتب رئيس الميناء، فتحوّلها إلى فضاء اجتماعي يختزل الوجود الإنساني على اليابسة؛ فيه تُعقد التحالفات، ويُخلق التعاطف، وتجري الاحتفالات، ويُخاض الصراع، وفيه تستدعى العلاقات الأسرية والمشاعر الأبوية.

دوميترو سجين الحاوية المعدينة يتطلع يائسا إلى المستقبل

تكمن المفارقة هنا، فرغم الامتداد والاتساع تحصر الحركة في إطار ضيق وفي عدد قليل من الشخصيات والديكورات، فتفسح المجال للكاميرا لتقترب من الملامح، وتغوص عبرها في مشاعر الشخصية وتلتقط نبضها الإنساني، شأن عطش “دوميترو” ومعاناته في رحلته الشاقة، وتردد “جويل” وتمزقه بين ما يفرضه عليه عمله، وما تفرضه عليه إنسانيته وصرامة القبطان وشدته.

كثيرا ما ينجح الفيلم في أن يحوّل الحاويات المعدنية إلى موضوع فني يجسّد من خلال صلابته وبرودته قسوة العالم اليوم، وغياب مشاعر التآزر بين قطّانه.

“إن حياتي في خطر”.. مأزق أخلاقي وتضحيات في مهب الريح

في منتصف الفيلم يخلق السيناريو منعرجا حاسما، فوفق قرار القبطان لن تدخل السفينة موانئ الولايات المتحدة، بل ستعبر مباشرة إلى وجهتها في كندا، لكن “دوميترو” يرفض التفريط في حلمه، ولئن سلّم بالواقع بعد محاولات من “جويل”، فإن التحالف بين الشخصيتين قد أخذ في التصدّع، وبدأ يتحول شيئا فشيئا إلى الريبة والمواجهة.

يستمدّ الشاب الروماني قوته من تورّط “جويل” في التعاطف معه، فهو يدرك تماما أن ما قدّمه له الملاح الفلبيني من مساعدة يجعله متواطئا معه في نظر الطاقم التايواني إن علم بالأمر، وأن ذلك سيعرضه إلى المساءلة.

تتلاحق الأحداث سريعا، فتسير في اتجاه لا يريده “جويل”، فارتباكه يجعله محل ريبة ومراقبة من رؤسائه، فلا يجد حلا غير التخلص من هذا الشاب وقد بات عبئا عليه، فيقرر أن يلقي به في البحر قريبا من سواحل نيويورك، وأن يحاول إدراكها سباحة، وعندما يحتج الشاب يقول له “جويل”: إن حياتي في خطر. فيقول “دوميترو”: وحياتي أنا؟

القبطان الفلبيني الصارم الذي يلقي بكل متسلل في البحر

هكذا تفضي القصة بأبطالها إلى مأزق أخلاقي، فتضحية “جويل” ومساعدته لـ”دوميترو” ستكون بلا معنى حين يتخلص منه في نهاية الرحلة، ويلقي به إلى الموت بنفسه. وبالمقابل لهذا الكهل حياة يجب أن يحافظ عليها، وله أبناء ينتظرون عودته، فكيف يتحمل مسؤولية فعل طائش لم يصدر منه؟

“دوميترو” من ناحية ثانية مدين لـ”جويل” بحياته، لكن الرهان رهان حياة أو موت، فمن أنقذه هو نفسه من سيقدمه إلى الموت حاليا. فكيف يقبل بهذه النهاية؟ وماذا عن حلمه الذي ركب من أجله المغامرة؟

بينما يكون كلاهما قد يحسم أمره، إذا بالتحالف من أجل الحياة يتحوّل إلى صراع عنيف حول البقاء، يعكس الجانب الوحشي الكامن فينا ضمن بناء فيلمي مركب، وتحوّل بارع في الأدوار.

فضاء السفينة.. صورة تختزل فوضى عالمنا المعقّد

يحوّل الفيلم فضاء السفينة المحدود والمحايد إلى استعارة لعالمنا المعقد، ويبدو ذلك منسجما مع التجارة العابرة للقارات التي تتحكم في مختلف سياسات العالم، فهذا الأثر السينمائي روماني من جهة الانتماء القانوني، لكنه إنساني من جهة عناصر القصة ودلالتها، فالشخصيات رومانية وفلبينية وتايوانية، لكنها لا تحمل أي خصوصيات محلية أو إقليمية.

كما أنها تتواصل بلغات مختلفة، باللغة التاغالوغية والإنجليزية والماندرين والإسبانية والرومانية والبلغارية، فاجتماعها على متن قارب في وسط المحيط يماثل اجتماعها في أي مكان من المعمورة.

سفينة الشحن تعبر المحيط الأطلسي نحو الشمال الأمريكي

هذا ما يمنح القصة بُعدها الكوني، ويجعلها تعبّر عن قضايا الراهن الشاملة؛ قادة يمسكون بزمام الأمور، ويوجهون القارب على هواهم، بينما يملي السلوك على الآخرين ويضعون أنفسهم في خدمة أغنياء يحاولون المحافظة على النظام الذي يؤيد هيمنتهم، وفقراء عاجزون عن التضامن، ليتجاوزوا محنهم، وكثيرا ما يتحول تعايشهم إلى صراع دامٍ من أجل البقاء.

نهاية دموية لقاتل السفينة البريء.. مأساة الحلم الأمريكي

عند الوصول إلى سواحل نيويورك يُكتشف أمر “دوميترو” لجلبة يحدثها، ويحمل السلاح لتصفيته، بعد أن رفض الامتثال لنداء الحُراس، لكن في خضم الفوضى العارمة يقع السلاح في يد الشاب الروماني، فيقتل من اعترض سبيله، ثم يقف في مواجهة “جويل” فلا يصيبه، وإنما يأخذ في سرد أحلامه أمامه؛ أن يصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأن يحصل على العمل ويبني ثروة ويمتلك المنزل والسيارة. لا ينتبه حينئذ إلى دمه النازف في لحظات هذيانه وقد اختلطت دماؤه بدماء ضحاياه.

يبدأ الفيلم بالغرق في مياه المحيط، وينتهي بالغرق في الدماء، ويجسد أثناء احتضار “دوميترو” الحلم الأمريكي المستحيل، فيمثل ردا سينمائيا عميقا على “جيمس تراسلو آدامز” الذي يقول في أثره “الملحمة الأميركية” (1931) إن “الحلم الأميركي هو الحلم الخاص بالأرض التي يجب أن تكون فيها الحياة أفضل وأكثر ثراء لكل الناس، حيث تتيح لكل فرد الفرصة المناسبة طبقا لقدراته وإنجازاته” فتهدر حياة الحالمين بتلك الأرض، وتُعدم كل فرصة لإبراز قدراتهم وتحقيق إنجازاتهم.

من جعل “ديمترو” قاتلا دمويا وهو الشاب اللطيف الحالم؟ هل هو التهميش في بلاده؟ هل هو تحالف الأغنياء في العالم ضد الفقراء؟ هل هو النظام العالمي الجديد وقانون التجارة الدولية؟

وثيقة الاستقلال.. قانون الغاب الممارس على كل من وراء الحدود

عند هذا المستوى تتضح لنا دلالة العنوان “نحو الشمال”، فالقصة بطبعها تقع في الشمال الآسيوي أو الأوروبي أو الأمريكي، والمسألة ليست إذن جغرافية محضة بقدر ما هي حضارية. إنها ترمز إلى الشطر المُفقّر من العالم بفعل تاريخ الغرب الاستعماري، واتفاقيات التجارة الظالمة التي تقتل الحلم في الجنوب، وتحوّله إلى كابوس حينما يهم ساكنوه بالارتحال إلى الشمال.

ترصد المفارقة الكبرى بين “الملحمة الأمريكية” على عبارة “جيمس تراسلو آدامز” و”ملحمة الشمال” عامة، و”تراجيديا الجنوب” التي ينتهي فيها البطل كما في التراجيديات الإغريقية سابحا في دمائه وهو يصارع قدره.

الفيلم إدانة لغياب التعاون بين الدول، والغطرسة التايوانية ضد المهاجرين وضد البحارة الفليبينيين غير المبررة دراميا بما يكفي؛ تعكس رغبة المخرج في رصد المفارقة، فرغم أن الحلم الأمريكي يمدح الفرد ويعِده بالرخاء، كما جاء في وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي التي تنص على أن “كل الناس قد خلقوا متساوين” يتمتعون بـ”حق الحياة والحرية والسعي وراء تحقيق السعادة”؛ فإنه يقصي الجماعات والدول خلف الحدود الأمريكية، وكثيرا ما يفرض عليها قانون الغاب، وهيمنة القوي على الضعيف وتغليب المصالح على القيم.

يعلن المخرج بجرأة فنية أنه ما لم يقع حل هذا الإشكال على المستوى الجماعي (الدول، الطبقات، الشرائح..)، فسيظل الحلم الأمريكي كابوسا ومصيدة للشباب المحروم تدفع به إلى حتفه، ولعل تفاقم الهجرة السرية اليوم من كل أنحاء المعمورة نحو الشمال (الغربي منه تحديدا) يؤكد صواب أطروحة الفيلم.