“لا توجد دببة”.. مخرج إيراني تسبح عدساته في قرية تغرقها الخرافات

كثيرا ما يُولّد القهر والضغط والتعقب والتضييق على المبدع القدرة على ابتكار وسائل التعبير من خلال طرق وأشكال جديدة، ومهما كانت تلك الوسائل بسيطة، فهي تنجح في إحداث الأصداء المطلوبة، لكن كيف يمكن أن يواصل سينمائي ممنوع من العمل في إيران تصوير أفلامه، ثم يتمكن أيضا من تهريبها خارج إيران لكي تشارك في المهرجانات السينمائية الدولية؟

هذا تحديدا ما نجح فيه عبر أكثر من عشر سنوات المخرج الإيراني جعفر بناهي الذي اعتقل مرات عدة، وصدرت بحقه أحكام بالسجن أحيانا، وبالإقامة الجبرية أحيانا أخرى.

“صنع أفلام تسيء إلى النظام الإيراني”.. جريمة السينما

اعتقل جعفر بناهي عام 2010، وصدر حكم بسجنه مدة 6 سنوات، ومنعه من العمل مدة 20 عاما، لكنه قضى ثلاثة أشهر فقط في السجن، ثم أفرج عنه مع تجديد إقامته في منزله، وظل الحكم بالسجن قائما في حالة تكرار المخالفة. أما هذه المخالفة أو بالأحرى الجريمة التي تستوجب الحكم بالسجن، فهي “صنع أفلام تسيء إلى النظام الإيراني”.

في أغسطس/آب الماضي أعيد القبض على بناهي، لكي يقضي عقوبة السجن كاملة، وقبل ذلك وخلال عشر سنوات، تمكن من إخراج الأفلام إلى العالم الخارجي، وكان في البداية يصورها داخل بيته، مثل فيلم “هذا ليس فيلما” (2011) و”ستائر مغلقة” (2012)، ثم أصبح يصور في الشارع تحت عين وبصر السلطات التي تغاضت عن تلك المخالفة الصريحة للحكم الصادر.

وقيل في تبرير ذلك إن هناك جناحا داخل السلطة الإيرانية يشجع وصول الأفلام الإيرانية (غير الرسمية) إلى المهرجانات الدولية، لكي يبقى اسم إيران دائما مطروحا في المحافل الدولية، ومقرونا بالنجاح الفني، رغم ما تصوره مثل هذه الأفلام من نقد لبعض الجوانب الاجتماعية والسياسية، دون أن تقتحم المناطق المحظورة تماما. لذلك فقد أخرج بناهي بعد ذلك فيلمه “سيارة أجرة” (2013) الذي صوره في شوارع طهران، ثم فيلم “ثلاثة وجوه” (2018) وهو من أفلام الطريق.

وقد ظل يحرص على الظهور بنفسه في أفلامه بشخصيته الحقيقية، أي باعتباره المخرج السينمائي جعفر بناهي، فيتحاور مع غيره من الشخصيات التي تظهر في أفلامه، ويستخدم أسلوبا يغلب عليه الطابع الوثائقي، ويمزجه بدرجة ما بالخيال، مع نوع من التورية والرموز التي تتراوح من الغموض إلى المباشرة.

ما وراء الحدود.. بناهي يُخرج فيلما على الجانب الآخر

فاز فيلم جعفر بناهي الجديد “لا توجد دببة” (2022) بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية هذا العام، ثم جاء للعرض في مهرجان لندن السينمائي، وربما يمكن اعتباره أكثر أفلامه الأخيرة طموحا من الناحية الفنية، رغم بعض التشوش والاضطراب، أو عدم الوضوح أحيانا، أي القدرة على التفرقة ما بين الواقعي والمتخيل.

في هذا الفيلم نرى هنا مرة أخرى جعفر بناهي المخرج السينمائي الذي جاء من طهران إلى قرية تقع على الحدود التركية في شمال شرق إيران، لا لسبب سوى أنه يخرج فيلما عن بُعد، يصوره مساعده رضا في بلدة تقع على الجانب الآخر من الحدود، أي داخل الأراضي التركية، ويقوم بناهي بتوجيهه لما يجب أن يفعله من موقعه في القرية من خلال وسائل الاتصال التي توفرها شبكة الإنترنت عبر الحاسوب المحمول.

استأجر بناهي غرفة في منزل شاب يدعى “غانبار”، يعيش مع أمه العجوز التي تطهي طعاما شهيا لبناهي، وتنصحه بالامتناع عن التدخين، بل وتصف له بعض المشروبات الطبيعية التي تؤمن بأن لها مفعولا سحريا. كان يمكن أن يدير بناهي تصوير فيلمه من طهران، لكنه يقول إنه جاء إلى هذه القرية لكي يكون قريبا من مكان التصوير، أي قرب الحدود.

بختيار وزارا.. هروب من إيران واحتباس في قفص الذات

الفيلم الذي بداخل فيلم بناهي يدور حول زوج وزوجة هما بختيار وزارا، وهما يمثلان دوريهما في الواقع ويعكسان أزمتهما الحقيقية، أي أن الفيلم يستند على القصة الحقيقية لهذا الثنائي. لقد حاولا خلال سنوات مغادرة إيران، وهما في تركيا الآن، لكنهما يريدان الذهاب إلى الغرب، ويأتي بختيار لزوجته زارا عن طريق المهربين والمزورين بجواز سفر فرنسي مُزور، ويخبرها أن أمامها ثلاثة أيام فقط لكي تغادر إلى فرنسا، لكنها ترفض أن تغادر من دون أن يكون معها.

نفهم من سياق القصة التي تتردد عبر مشاهد منفصلة أن الاثنين مرّا بمحنة الاضطهاد والتعذيب والسجن في إيران، لكن السؤال المنطقي الذي يتناقض مع النهاية المأساوية لزارا أنهما قد أصبحا خارج إيران، أي نجحا في مغادرة البلد الذي تعرضا فيه للقهر، فما هي المشكلة إذن؟ وما الذي يدعو للانتحار طالما أنهما نجحا في عبور الحدود؟

تنكشف هشاشة الحبكة أكثر عندما يحصل بختيار على جواز بريطاني مُزوّر، ويصبح بوسعه أن يغادر مع زارا، لكنها ترفض فجأة ما تسميه التمادي في الكذب، بعد أن تشعر بأن الشخصية التي تؤديها قد أصبحت عبئا عليها، لكن هذا ليس سببا مبررا لانتحارها غرقا.

شبهة العدسة.. وطأة أشد من وطأة السلطة في قرية أذربيجانية

فكرة أن جعفر بناهي يواصل تصوير أفلامه في كل الظروف حتى وهو ممنوع من العمل، وحتى لو كانت الأحداث تدور في بلد آخر؛ تُشير إلى أن الابداع يجب أن يستمر رغم كل الظروف، حتى ولو عن بعد.

لكن لتعويض هذا الجانب الهش في السيناريو يركز بناهي أكثر على وجوده في قرية أقرب إلى أذربيجان، يتكلم أهلها اللغة الأذربيجانية إلى جانب الفارسية، وسنرى أن المشاكل الكثيرة المعقدة التي يتعرض لها من جانب سكان القرية تصبح أشد وطأة من وطأة السلطة التي تكاد تغيب غيابا تاما عن الفيلم، باستثناء شخصية عمدة القرية وهو رجل طيب القلب، يبدي احتراما وتقديرا كبيرين لجعفر بناهي، من دون أن يتساءل قط عن علاقته الملتبسة بالسلطة في طهران.

أهالي القرية يثرثرون كثيرا، بعضهم تراوده شكوك في أن يكون بناهي القادم من طهران إلى قريتهم جاسوسا، خصوصا بعد أن يُعطي الكاميرا الخاصة به إلى “غانبار” الساذج لكي يصور له احتفالا شعبيا بغسل أقدام شاب وفتاة على وشك الزواج في مياه الترعة، وهو تقليد قروي قديم في تلك المنطقة، ويلتقط بناهي نفسه بعض الصور لشخصيات ومناظر من القرية.

جعفر بناهي مع الشيخ الذي يحذره من وجود “الدببة”

ورغم أنه يقضي معظم وقته أمام الحاسوب في غرفته البدائية شبه العارية من الأثاث، فإن المشاكل تتصاعد من حوله. في البداية عندما يريد أن يصعد فوق سطح المنزل للحصول على إشارة أفضل للإنترنت، ينهاه “غانبار” عن ذلك قائلا إن السكان سيتهمونه بالتلصص على بناتهم، ثم يعود إليه يحذره من غضب السكان بسبب تصوير الاحتفال الذي يعتبرونه أمرا خاصا مغلقا عليهم، فيقوم بناهي بإزالة فيلم الاحتفال الرديء من الكاميرا.

“أنت تقر إن شهادة الطفل غير قانونية”.. عبثية المجتمع المحافظ

يزور بعض كبار رجال القرية بناهي يسألونه عن صورة التقطها لشاب وفتاة هما “سولودوز” و”غوزبال”، فهما يعيشان قصة حب، والفتاة ترغب في الزواج به، لكنها طبقا لتقليد قديم في القرية مرتبطة رغما عنها منذ مولدها بشاب آخر يريدها لنفسه، ويجاهد من أجل الحصول عليها، لكنها ترفضه، كما ترفض كل عائلات القرية تزويجه من بناتهن، لأنهم يعرفون أنه مرتبط من طفولته بـ”غوزبال”.

تتلخص القصة في أنه عندما تولد فتاة يقطعون حبلها السري، ويقسمون عليه أن تتزوج من شخص معين بالاسم، كما لو كانوا يهبونها له.

ينفي جعفر بناهي تماما أن يكون قد التقط مثل هذه الصورة، ثم يطلع عمدة القرية أمام الجميع على ما تحتويه الكاميرا من صور، لكنهم لا يقتنعون، حينها يمنح بناهي مخزن ذاكرة الكاميرا للعمدة، لكي يفعل بها ما يشاء، لكنهم يواجهونه بشاهد، طفل صغير يقول إنه شاهده وهو يلتقط تلك الصورة.

جعفر بناهي يلتقط صورا لأطفال القرية

يطلب العمدة تصريحا مباشرا من بناهي نفسه بخصوص الصورة التي يمكن أن تؤدي إلى وقوع مذبحة بين العائلتين، عائلة الفتاة وعائلة الشاب الذي يعتبرها ملكا له بينما هي ترفض، والعمدة يقول له إن شهادة الطفل غير قانونية، لذلك يجب أن يؤكد هو في مجلس عرفي أنه لم يلتقط الصورة، يجن جنون بناهي ويقول: أنت تقر إن شهادة الطفل غير قانونية، لكنك في الوقت نفسه تريد أن تجعلها قرينة ضدي.

يستقر الأمر بعد جدال طويل على ضرورة أن يحضر بناهي أمام أهالي القرية حفلا للقسم، لكي يقسم على المصحف أنه لم يلتقط تلك الصورة، ويهمس العمدة في أذنه أنه حتى لو أقسم كذبا فلا ضرر، طالما أن هذا سيساهم في تحقيق السلام.

“لا توجد دببة، إنها إحدى الخرافات للتخويف فقط”

يستغرق جعفر بناهي كثيرا في الكشف عن العادات المتخلفة لسكان القرية، فقد جعلهم غرقهم في الإيمان بالخرافات عاجزين عن النظر إلى ما تفعله السلطة بحياتهم.

من ضمن هذه الخرافات المنتشرة وجود دببة في طريق مهجور خارج القرية يستخدمه المهربون عبر الحدود. ينصح أحد شيوخ القرية جعفر في البداية بتجنب هذا الطريق بسبب وجود الدببة من حوله، لكنه بعد حوار بينهما يتركه عند بداية الطريق، وعندما يسأل بناهي الشيخ لكن ماذا عن الدببة؟ يقول الرجل “لا توجد دببة، إنها إحدى الخرافات للتخويف فقط”. ومن هنا يأتي اسم الفيلم.

“ليست هناك دببة” تعبير مجازي عن رفض الخوف وضرورة مواجهة الواقع، لكن ما يحدث أن جعفر بناهي سيصبح محل تساؤلات وشكوك أخرى كثيرة بخصوص ما جعله يذهب إلى تلك المنطقة التي ينشط فيها المهربون، ولا يسمحون لأحد بالتجول فيها بحرية، أو العبور دون الحصول على المقابل المالي، وكيف أنه عاد من دون أن تقع له مشكلة. وهل كان يعتزم الفرار؟

لقد ذهب إلى هناك لكي يقابل مساعده رضا الذي جاء من الطرف الآخر من الحدود ليناقشه في مسار تصوير الفيلم، بعد أن تعطل الاتصال بسبب رداءة شبكة الإنترنت. يقف بناهي مع مساعده يتطلع إلى الجانب الآخر، حيث تلمع الأضواء في القرى والبلدات القريبة. إنه يفكر في هذه اللحظة في العبور مع رضا الذي يشجعه على الإقدام، وعندما يسأله بناهي: أين يقع خط الحدود تحديدا؟ يشير رضا إلى ما تحت قدميه، وهنا يجفل بناهي ويتراجع، إنه لا يستطيع أن يغادر بلده مهما كان الوضع.

“الحرس الثوري”.. إشارة سياسية لا تحمد عقباها

لعل الإشارة السياسية الوحيدة في الفيلم إلى السلطة تأتي عندما يخبر “غانبار” المخرجَ بناهي أنه استُدعي إلى قسم الشرطة، حيث تعرض لتحقيق طويل من جانب أحد الضباط بشأن الساكن الذي يستأجر غرفة عنده، وهل هناك عقد موقع بينهما، وهل هناك معرفة سابقة له به، ومن هو هذا الوافد وماذا يفعل؟ وغير ذلك من الأسئلة.

يطلب غانبار من بناهي توقيع عقد أعده لكي يذهب به الى الشرطة، لكنه يعود بعد ذلك لكي يخبره بأن الضابط الأول متغيب، وأن أحد أفراد “الحرس الثوري” حذره من وجود بناهي عنده، ونصحه بالتخلص منه لكي يتجنب المتاعب، لكن النقد هنا حذر للغاية، فعضو الحرس الثوري يكتفي بالتحذير، لكنه لا يأتي مثلا لاعتقال المخرج الممنوع من العمل، والممنوع من مغادرة بيته في طهران.

ميزة الفيلم أنه يتخلص للمرة الأولى منذ سنوات من فكرة رثاء الذات، ورغم استمرار وجود بناهي في قلب فيلمه، فإنه لا يستنكف تقديم بعض النقد لنفسه أيضا، فهو يستغل أزمة بطليه الحقيقية دون أي مراعاة لمشاعرهما، وثانيا لا نعرف ما إذا كان قد التقط تلك الصورة المدمرة ثم أزالها من الكاميرا، أم أنه صادق في قوله إنه لا يعرف عنها شيئا. فهو يريد على نحو ما أن يقول إن المخرج السينمائي يجب أن يتحمل مسؤولية ما يفعله، وأن يحترم التقاليد رغم اعتراضه عليها، وأن يراعي الأزمة الشخصية لأبطال فيلمه، وأن لا يتمادى في مزج الواقع بالخيال.

بعد هذا الفيلم لم يبق بناهي طويلا في الخارج يتحرك ويصور أفلامه سرا، ويتمكن من تهريبها لكي يعرضها في المهرجانات الدولية، كما ظل يفعل طوال عشر سنوات، فقد قبض عليه ليقضي عقوبة السجن المؤجلة، لكن الحملة لإطلاق سراحه امتدت لتشكل التجمعات السينمائية في العالم.