“ذهب الراين”.. مغني راب كُردي يرسم حياة حافلة بالاغتراب والعنف في ألمانيا

من الصعب تقبل أن الفيلم في قسمه الأول مُستوحى من قصة حقيقية كما كُتب في مستهلّه، فالتشويق الذي يثيره الإخراج الحيوي ذو الإيقاع السريع يترافق بابتسامات تتلاءم مع ما يدور على الشاشة من مبالغات مثيرة.

عنوان فيلم “ذهب الراين” (Rhinegold) فيه إيحاء إلى عنوان “أوبرا” للمؤلف الموسيقي الألماني “فاغنر”، وهو آخر أفلام المخرج الألماني التركي “فاتح أكين”، ويرسم سيرة ذاتية لمغني الراب الكردي الألماني “جيوار حجابي”، صاحب اسم الشهرة “خطر”.

ذكريات الشرق.. آلام الطفولة والمراهقة والشباب

الفيلم مبني على كتابة مستوحاة بحرية فنية كبيرة من سيرة “جيوار حجابي”، وكأنها سيرة خيالية لشخص شبه أسطوري، بسبب سلوكه الجامح واندفاعه الجريء ومخاطراته المجنونة، وينطبق هذا في جزء كبير منه على شخصيات أخرى في الفيلم، وكأن البطل قد ألقى بظلاله على كل من أحاط به، فأصابهم بالعدوى، أو كأنهم كانوا فعلا على هذا الشكل في الواقع.

يمكن لتصريح “أرمان كاشاني” -أحد الممثلين- أن يعبّر عن نوعية معظم الشخصيات التي جُسدت في الفيلم، وذلك حين قال: في لقائي مع الشخص الذي ألعب دوره، اكتشفت أنني لن أتخيّل أبدا أن مثله يمكن أن يكون موجودا، وبالتالي فإن عدم قدرتي على بلورته قادني إلى أداء أكثر عقلانية للدور.

خلال مراحل عمره الثلاث الطفولة والمراهقة والشباب (هنا أدى الدور الممثل الألماني إميليو ساكرايا)، يقدّم الفيلم والدي “جيوار” في لمحة موجزة، لا سيما في الجزء الأول من الفيلم، حين تعاود الذكريات “جيوار” وهو يتعرض للتعذيب في سجن سوري مكتظ في الثمانينيات، لقد وصلت سمعته إلى هناك مع عملية السطو التي كان نفذها في ألمانيا على شاحنة تنقل الذهب. ما كان يهم معذّبيه السوريين هو معرفة مخبأ الذهب.

“الموسيقى ممنوعة الآن”.. صور نمطية تدعو للسخرية

يتذكر “جيوار” وهو في السجن والده الملحن الموسيقي وأمه المقاتلة الكردية، وهربهما من إيران بعد الثورة الإسلامية، وكل ما واجها من خطر وسجون. كأنها كانت مناسبة للمخرج “أكين” كي يعرض جولة تاريخية في المنطقة ونظرته المنتقدة لها التي أغرقت الفيلم في مبالغات سخيفة ونمطية، فالأب الموسيقي قرر الفرار من إيران بعد هجوم على حفل موسيقى كلاسيكي لمسلحي الثورة تحت قيادة رجل دين يلبس الجبّة والعمامة وبيده رشاش.

صرخ هؤلاء “الموسيقى باتت ممنوعة الآن”، لقد بثّوا الرعب في قلوب الحضور، وقتل رجل الدين برشاشه امرأة بريئة سقطت مضرجة بدمائها.

بعد هرب الوالدين، وُلدت الأم في أحد الكهوف، حيث لجأت بمفردها إليه، بينما كان قصف يطال قريتهم الكردية، كانت واقفة بملابسها العسكرية وسلاحها معلق على كتفها، وكانت تتألم وهي تلد جيوار (ومعنى اسمه وُلِدَ مع المعاناة). بدا ذلك في أسلوب يليق تماما بأفلام الكندي الأمريكي “ليزلي نيلسين” الهزلية، لكنه إذا ورد في فيلم سيرة ذاتية كان مدعاة للسخرية.

جيوار حجابي في السجن

كما أن انتقاد الثورة في إيران وسجون التعذيب في سوريا وظلم الأكراد في العراق، لم ينجح بإثارة ما أريد له من المشاعر، بسبب أسلوب تنفيذه المضحك، فبدا مزايدة سخيفة.

انتقل الفيلم بعد مبالغات تاريخية إلى مشاهد أخرى اتسمت بالنمطية، ولم تفد الفيلم بشيء، فها هي الأسرة تفرّ منتصف الثمانينيات من سجن في العراق بمساعدة الصليب الأحمر، وتجد نفسها في باريس، ويجدها المخرج أيضا فرصة لتقديم صورة نمطية عن الباريسيين الذين لا يردون على سائل، بينما كلابهم تملأ الشوارع بأوساخها.

أحياء الضواحي.. عالم التيه والجموح والعضلات المفتولة

صُوّر الفيلم في أماكن مختلفة، وعلى عدة مراحل زمنية سُردت فيها الأحداث، بسبب زحمتها وتكثيفها الذي لا يتيح التقاط الأنفاس إلا نادرا. ومع وصول الأسرة إلى ألمانيا للاستقرار النهائي، يتابع الفيلم إيقاعه الذي يلهث مع أبطاله في حركة لا تهدأ وخطر لا ينتهي ومقالب لا يمكن تخيلها.

وكأن الفيلم هو ثلاثة أفلام في وقت واحد وثلاثة عوالم، أولها عن الحياة المضطربة لـ”جيوار” منذ ولادته مع تاريخ الأسرة وهربها من بلد لآخر، ثم نشأة الصغير في ظروف عائلية معقدة ومجتمع جديد ليس من السهولة فيه إثبات الذات وإيجاد مكان، وتعلمه الموسيقى بفضل إلحاح والديه، حتى أن أمه عملت خادمة لأجل هذا، وهو الجزء الأقل واقعية وإبهارا من الفيلم.

ثم عالم الشباب والجموح في أحياء الضواحي، حيث السيطرة للأقوى، وحيث يقدم المخرج “أكين” هنا كعادته صورة مقلقة واقعية لأوضاع هذه المناطق وسكانها من الجيل الثاني للمهاجرين، الجيل التائه بين الثقافات، الذي لا ينتمي في الواقع إلى أي واحدة منها.

الممثل إميليو ساكرايا في دور جيوار حجابي

وفي هذا الجزء يعتمد “جيوار” مظهرا جديدا برأس أصلع وشاربين كثّين وقبضة فولاذية وعضلات مفتولة، ويفرض هيبته بالقوة على شباب الحي من المنحرفين والطيبين.

ويبرز المخرج هنا أساليب عصابات تهريب الكوكائين في ألمانيا وأمستردام، عبر محاولات البطل الدخول فيه للحصول على المال السريع. لقد أقنع نفسه بأنه يريد إعالة أسرته بعد تخلي الأب عنهم، كما أن إقباله على موسيقى الهوب هوب والراب دفعه للتفكير بتأمين علامته التجارية في عالم الموسيقى.

“مشروع تفتخر به والدتي”.. ما بعد حياة السجن

أما عالم الفيلم الثالث فكان السجن، وسعي “جيوار” لإخراج ألبومه الموسيقي الأول سرا. لقد لجأ إلى السرقة لتمويل مشاريعه الموسيقية، وكانت أشهر محاولاته خطة سرقة الذهب وتخبئته، وهي التي قادته في عملية غامضة المعالم إلى شرق سوريا، لكنه وقع بعدها في يد السلطات الألمانية، وحكم عليه بالسجن.

هناك يحاول حجابي بطريقة سرية تسجيل ألبومه الأول، وقد استطاع أن ينجح ويشتهر باسم “خطر” (Xatar)، لتبدأ الشركات بطلبه حتى لعمل فيلم عن حياته.

مشهد من الفيلم لجيوار حجابي مع صديقه

وحين سئل المخرج “فاتح أكين” في لقاء مع جمهور مهرجان سالونيك السينمائي الدولي الذي عرض الفيلم في دورته الـ63 الأخيرة (3-13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022) عن كيفية بدء المشروع، أخذ “جيوار حجابي” الكلمة ليقول: حينما كنت في السجن، تواصلت معي شركات إنتاج عدة لعمل فيلم عن سيرتي. وبعد سبع سنوات عند إطلاق سراحي تحدثت إلى محامٍ، وطلبت منه العثور على شخص يتولى مشروع سيرتي الذاتية. وحين اهتم “فاتح أكين” -وكنت معجبا به بشدة- بهذا المشروع، لم أصدق ذلك. ما خرج هو مشروع تفتخر به والدتي أيضا.

تضحيات الأم.. قدوة الفتى المغامر في عالم ذكوري للأشرار

تسير حياة “جيوار حجابي” كشخصية أسطورية في عالم ذكوري يسيطر فيه الأشرار، ويبقى الدور النسائي فيها غائبا ظاهريا، لكن هذا الفتى المغامر كان شديد التأثر بتضحيات أمه من أجله وأجل شقيقته، ولم ينس أن يبدي فضلها عليه في مذكراته التي كتبها، وقد تعامل الفيلم مع هذه التفاصيل بكل دقة، مُبديا تعلّق “جيوار” بأمه وأخته وحبيبته شيرين في مشاهد عدة، لا سيما في مرحلة الطفولة والشباب من الفيلم.

لقد أظهر المخرج “جيوار” شخصية مليئة بالطاقة والحيوية والعناد، تغيّر أسلوب حياتها باستمرار ودون تردد بما يتلاءم مع متطلبات الساعة، لكن ما بقي ثابتا فيه هو حُب الموسيقى الموروث عن والده.

وعندما سُئل في لقاء مهرجان سالونيك عن ما إذا كان نادما على أي شيء في حياته، قال: إذا عدتُ بالزمن إلى الوراء، وكنت في نفس الوضع مرة أخرى، ربما كنت سأفعل الشيء نفسه. نحن نأخذ الحياة كما هي، ونتخذ الخيارات ونواصلها، لكن دعونا لا نأخذ كل هذا كأمثلة نتبعها، أهم شيء هو أننا يجب أن نعتني جميعا بأنفسنا.

“إنها تعكس الفجوة بين الأغنياء والفقراء”

حين سُئل المخرج “فاتح أكين” عن كيفية عملهم على الشخصية الرئيسية للفيلم، أشار إلى أنها كانت مهمة صعبة للغاية، لأن الرجل الذي يستند إليه الفيلم ما زال حيّا ومشاركا في العملية برمتها. وقال: لو كان فيلما عن نابليون، فلن يكون قادرا بالطبع على النهوض من مكانه والتدخل.

جيوار حجابي وفاتح أكين في مهرجان تسالونيك ولقاء مع الجمهور بعد عرض الفيلم

أما عن علاقته مع موسيقى الراب التي يغنيها “جيوار” فقد قال في اللقاء: كنت أستمع لموسيقى الهيب هوب في الثمانينيات، وتعلمت أيضا اللغة الإنجليزية من خلالها، وبعد بضع سنوات بدأ نوع من موسيقى الراب بالتطور في ألمانيا. لم أستطع فهمه، وفكرت في الفجوة بين الأجيال كما هو الحال -على سبيل المثال- في حالة آباء الأطفال الذين يستمعون إلى فرقة البيتلز، فهؤلاء الآباء لن يفهموا نوع الموسيقى التي كان أطفالهم يستمعون إليها، لذلك استفدت من رغبتي في التعرف على هذا النوع من الموسيقى لاستكشاف هذه التغييرات.

ثم قال: تتطور موسيقى الراب في الأماكن التي تحدث فيها الاضطرابات الاجتماعية في الأحياء الفقيرة وفي جميع أنحاء العالم، حيث توجد تفاوتات اجتماعية. إنها تعكس الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

فاتح أكين.. المنتج والمخرج الشغوف بقضايا المهاجرين الألمان

“فاتح أكين” هو ممثل ومنتج وكاتب سيناريو ومخرج ألماني ذو أصل تركي، وقد وُلد في هامبورغ بألمانيا عام 1973، واستطاع خلال سنوات قليلة أن يكتسب سمعة جيدة وشهرة في عالم السينما، وكشف عن موهبة مبكرة في فيلمه الطويل الأول “صدمة حادة قصيرة” (Short Sharp Shock) عام 1998، وقد استوحى فيه أسلوب “مارتن سكورسيزي” لوصف عالم المافيا عبر قصة ثلاثة من أصدقاء الطفولة في هامبورغ، ونال عنه جائزة في مهرجان لوكارنو.

كما حظي باعتراف دولي حين فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 2004 عن فيلمه “وجها لوجه” (Head on)، وتتابعت شهرته مع نيله جائزة السيناريو في مهرجان كان عام 2007 عن فيلمه “من الجانب الآخر”، أو “حافة الجنة” حسب العنوان الإنجليزي (The Edge of Heaven)، ويرسم فيه حياة شخصيات متنازعة بين بلدها الأم تركيا وبين ألمانيا، كما وثق تنوع المشهد الموسيقي في إسطنبول عبر فيلمه “عبور الجسر، صوت إسطنبول” (Crossing the Bridge: The Sound of Istanbul).

عُرف عن “أكين” شغفه بقضايا الهوية والاقتلاع من الجذور، واهتمامه بعالم المهاجرين في ألمانيا. وقد قدّم في فيلمه الأخير هذا “ذهب الراين”، خلال ساعتين وعشرين دقيقة كل العناصر التي تؤهله ليكون فيلما ترفيهيا مشوّقا، بما يحتويه من أحداث وجرائم وثورات وتعذيب وحب.

كما أنه لا يخلو من بعض المواقف الطريفة التي تثير الضحك لخفة ظل أبطالها، وأدائهم الذي يستحقون عليه الإعجاب. يعكس الفيلم أيضا ألمانيا المعاصرة بما فيها من الثقافات والهويات.