“السباحتان”.. هجرة من جحيم الحرب السورية إلى مسابح البطولات العالمية

الرغبة في تحقيق النجاح تدفع إلى ركوب الصعب، خصوصا عندما يكون الواقع أكثر صعوبة مما يمكن احتماله. والرحلة من الصعب إلى المجهول، ومن قسوة الواقع إلى واقع ربما يكون أكثر قسوة؛ هو ما يميز فيلم “السباحتان” (The Swimmers)، ويجعل مشاهدته مثيرة للفكر والخيال، ويجعلنا نتساءل عن مصير فتاتين بريئتين قررتا السباحة نحو المجهول، دون أدنى معرفة بما ينتظرهما، أملا في بلوغ مستقبل مُزيّن بالبطولة، لكن الرحلة لم تكن سهلة ولا ممهدة، بل حافلة بالكثير من الأخطار والعقبات.

تأثير الحرب في سوريا انعكس على عدد كبير من الأفلام الوثائقية التي ظهرت خلال السنوات العشر الماضية، فمعظمها صُوِّر سرا في الداخل، أو أنتج خارج سوريا، بينما اهتم القليل منها بتحويل القصص الإنسانية الحقيقية الكثيرة خلال تلك الحرب القذرة إلى أفلام روائية درامية.

أحدث هذه الأفلام هو فيلم “السباحتان” (2022)، وقد عرض في افتتاح مهرجان تورنتو، ثم عرض في مهرجان لندن السينمائي، وهو الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرجة المصرية البريطانية سالي الحسيني، بعد فيلمها الأول “أخي الشيطان” (My Brother, the devil) الذي أخرجته عام 2012، ويدور في عالم الجريمة في لندن بين أخوين مصريين تورطا في الالتحاق بعالم الجريمة.

معارك الهجرة والكفاح الرياضي.. رحلة إلى الديار الألمانية

يصور فيلم “السباحتان” قصة حقيقية عن حياة أختين من بطلات السباحة، أرغمتهما ظروف الحرب في سوريا على الفرار وخوض رحلة شاقة من أجل الوصول إلى بر السلامة، وقد واصلت الأخت الصغرى تدريباتها على السباحة، واستطاعت بفضل عزيمتها وتصميمها الوصول إلى دورة الألعاب الأوليمبية في ريو دي جانيرو عام 2016، وحصلت على بطولة السباحات اللاجئات.

ينقسم الفيلم إلى ثلاثة أقسام، يدور القسم الأول في سوريا قبل الخروج، والقسم الثاني خلال رحلة الفرار واللجوء، والقسم الثالث في برلين، ويتركز على مساعي الفتاة الصغرى لبلوغ درجة من التفوق تسمح لها بالمنافسة في الدورة الرياضية.

القسم الثاني يصلح في حد ذاته ليكون فيلما مثيرا عن أفلام اللاجئين، أو بالأحرى فيلما من أفلام الطريق، لكن في سياق رحلة محفوفة بالخطر للوصول إلى أوروبا بكل ما تتضمنه من متاعب وظروف إنسانية شبه مستحيلة، بينما ينتمي القسم الثالث إلى النوع الذي يعرف بالأفلام الرياضية التي تركز على النشاط الرياضي، ويصور كيف تتحدى الأخت الصغرى يسرا الظروف الشاقة وتقهرها، بل وتقهر كل ما يعوقها عن هدفها، تحقيقا لما أوصاها به والدها، وهو بلوغ الأولمبياد، أي المنصة الرياضية العالمية، أي أنه يصور رحلة معاناة ثم رحلة صعود وتحقق.

الشقيقتان سارة ويسرا مارديني قبل إدراك الخطر في سوريا

رقص صاخب تحت ضوء القنابل.. حفلة في دمشق

يتضمن الفيلم عناصر كثيرة تضفي إثارة وتشويقا على الحبكة، مع كثير من لحظات المرح والسخرية والابتهاج تملأ الفيلم، وذلك حسب السيناريو الذي كتبته المخرجة سالي الحسيني والكاتب المسرحي الإنجليزي المعروف “جاك ثورن”، وقد قصد من هذه العناصر أن تجعل الأمل يطغى على المعاناة والتجربة القاسية التي يمكن أن تجلب اليأس، لكن طغيان هذه الأجواء (الرقص أحيانا والغناء والضحك وتبادل النكت) قد يسبب خللا في استقبال الفيلم في بعض الأحيان، دون أن يوقف تأثيره العاطفي الكبير على مشاعر المتفرجين، خصوصا أنه مصنوع بمهارة عالية.

هناك مشهد يعزز الفكرة التي أشرت إليها، أي الرغبة في تصوير تجاوز المحنة مع الأمل، وهو مشهد رقص الفتاتين مع أصدقائهما في الاحتفال بعيد ميلاد سارة على سطح أحد فنادق دمشق رقصا غربيا صاخبا، في حين أننا نلمح ضوء القنابل يلمع عن بُعد في سماء المدينة.

من جهة أخرى تبالغ المخرجة بعض الشيء في استخدام الحركات السريعة للكاميرا، ثم الحركة البطيئة للصورة، وتفرط في اللجوء إلى زوايا التصوير المرتفعة من عين الطائر، وكلها تقنيات تضفي جمالا على الصورة، لكنها تشغل العين بمحتويات الصورة أكثر من مضمونها، ومع ذلك يتميز الفيلم كثيرا بالسيطرة الواضحة من جانب المخرجة على الأداء والحركة والتصوير في المواقع الطبيعية، بحيث يمكن القول إن هذا الفيلم يعتبر أفضل ما صُنع من أفلام روائية عن قضية اللاجئين بشكل عام، لكنه يصبح مثقلا بالرتابة والتكرار في قسمه الثالث الذي يدور حول بلوغ يسرا هدفها.

يسرا.. نجاة من قذيفة تخترق قاع المسبح

يروي الفيلم قصة تستند إلى وقائع حقيقية، فهناك أختان هما يسرا وسارة، وهما من السباحات السوريات الناشئات. ومن العلامات المميزة في الفيلم الاستعانة بأختين حقيقيتين تقومان بالدورين، وهما السوريتان نتالي ومنال عيسى.

يسرا تتدرب وتسعى لتحقيق هدفها

يتولى والدهما عزت مارديني (الممثل الفلسطيني علي سليمان) تدريبهما على السباحة بغرض التفوق وتحقيق البطولات في سوريا، فالأب نفسه سبّاح مخضرم، لكنه اعتزل الآن مع تقدمه في العمر.

تشهد سوريا حربا أهلية ضارية وهجمات عشوائية على المدن، وتسود أجواء الخوف والقلق في دمشق، وفي مشهد أقرب إلى المشاهد السريالية، وأثناء تدرب يسرا على السباحة في مسبح بأحد النوادي، تهبط قذيفة ضخمة بعد أن تخترق سقف المكان وتستقر في قاع المسبح، وتفلت يسرا بأعجوبة من الموت، وتنتشل من تحت الماء بصعوبة.

قارب المطاط.. فخاخ المحتالين في محطة الهجرة الأولى

بعد هذه الحادثة تدور مناقشات داخل الأسرة، ثم يستقر الأمر على ضرورة إبعاد يسرا وسارة خارج سوريا إلى أوروبا، حيث يمكنهما شق الطريق نحو تحقيق حياة جديدة، وأهم ما فيها الفوز والتفوق في السباحة، كما يوصيهما الأب بضرورة المنافسة دائما باسم سوريا، وعدم نسيان بلدهما وأصلهما، على أن يلحق بهما الأب والأم بعد أن تتهيأ الظروف.

يوفر الأب المال اللازم للرحلة، فيقترض مبلغ 10 آلاف دولار، ويتطوع ابن عمهما نزار (الممثل المصري آدم مالك) ليصحبهما في تلك الرحلة التي ستصبح حقا رحلة الأهوال.

قارب المطاط الذي يقل المهاجرين من تركيا إلى أوروبا، والذي لا يفي فيه المهربون بتعهداتهم

في البداية يتعين عليهما الذهاب بالطائرة تحت غطاء السياحة إلى تركيا، ومن هناك يدبران أمر الخروج من تركيا إلى أوروبا، وخلال ذلك يتعرضون للنصب والاحتيال من جانب المهربين الذين لا يفون بتعهداتهم، ليجدوا أنفسهم مرغمين على ركوب قارب مطاطي مع 18 شخصا جاؤوا من العراق وأفغانستان وأفريقيا، ومن بينهم أمهات وأطفال.

تخفيف الحمل البشري.. حلول النجاة على ظهر القارب المثقوب

قد تكون مشاهد رحلة القارب المطاطي أكثر مشاهد الفيلم قوة وإقناعا وتأثيرا، فقد استعانت المخرجة بقارب حقيقي كالذي يستخدمه المهربون، وينفخ الهواء داخله يدويا، ثم يحشر فيه اللاجئون بعد الاستيلاء على مبالغ مالية ضخمة منهم، ثم يتركون وحدهم يشقون طريقهم في البحر إلى الجهة الأخرى التي لا يعرفون على وجه اليقين ما هي.

هنا تستخدم المخرجة اللقطات القريبة والمتوسطة التي تُظهر الرعب على الوجوه، وتمايل القارب الذي ينوء بحمولته، ثم توقف المحرك في عرض البحر فجأة، مما يؤدي إلى حالة من الهلع والرعب، علما بأن المخرجة استخدمت في تصوير المشهد أيضا مجموعة من اللاجئين الحقيقيين الذين مروا بتلك التجربة في الواقع.

هناك طفل يبكي وآخر يصرخ وأم تتألم، لكن هناك رغم ذلك نوع من التوحد معا، والتقارب الذي يفرضه الظرف الصعب، كانت حمولة القارب أكثر من طاقته، لذلك فقد تعطل المحرك، ووجب الآن التخلص من الأحمال الزائدة، ورغم إلقاء كثير من الأمتعة في مياه البحر، فإن القارب قد تعطل، وهو الآن يرفض مواصلة الرحلة نحو جزيرة ليسبوس اليونانية التي هي الأقرب إليهم، وتعتبر الموطئ الأول للاجئين القادمين من سوريا تحديدا.

الشقيقتان يسرا وسارة بعد أن حطّت فيهما الرحال على شاطئ اليونان

خلال الرحلة سيفقد أحدهم حياته غرقا في الماء، وسيكتشف الجميع أن القارب مثقوب، ويبدؤون في إزاحة المياه التي تسربت، ثم يتعطل المحرك على مسافة ليست بعيدة من ليسبوس. وفي مبادرة شجاعة تسبب الرعب لسارة، تلقي يسرا بنفسها في البحر، وبعد تردد تلحق بها أختها، والهدف هو تخفيف الأثقال على القارب، وحينها يجن جنون ابن العم نزار، لكن المحرك يسترد قوة الدفع، ويقطع الفتاتان المسافة الباقية سباحة.

أطواق النجاة المبعثرة على الرمال.. مشهد رمزي

إن كل عنصر من عناصر السينما (الصورة، المونتاج، الموسيقى) موظف في الفيلم لتحقيق هدفين:

أولا إضفاء الإثارة على الفيلم، وضمان جذب جمهور أفلام المغامرات والكوارث، ودفعه للتعاطف مع قضية اللاجئين في زمن الحرب. ثانيا إبراز معاناة الأختين وهما تخوضان تجربة أكبر من عمرهما، مع تصوير نمو الوعي لكل منهما بالذات والعالم على نيران التجربة، وهنا يبرز التأثير العاطفي، حيث تصوير المشاعر الملتهبة والرغبة في النجاة.

ننتقل إلى القسم الأخير من الفيلم الذي يركز على نضال يسرا من أجل التفوق في السباحة، فبعد وصول المجموعة إلى الشاطئ، هناك مشهد شديد الذكاء، فالكاميرا تتراجع، بينما تتقدم المجموعة وتكشف عن آلاف من أطواق النجاة الملقاة على الرمال. هل هي لأناس نجوا أم غرقوا؟ الأمر ليس واضحا تماما، لكنه مشهد رمزي لا يخطئ الهدف.

تقيم سارة علاقة صداقة مع شاب أفغاني هارب من كابول يدعى عماد، وتقترب يسرا من الحالة الإنسانية التي دفعت امرأة من أريتريا مع طفلتها للفرار من وطنها.

مخيمات برلين.. وحدة المهجر وتباين المصائر

يرسم الفيلم منذ البداية معالم الاختلاف بين شخصيتي البطلتين، أما سارة فهي الكبرى، وهي أكثر تماسكا واهتماما بالناس من حولها، وذلك ما سيعرضها لمحاولة اغتصاب تنجو منها بمعجزة، وأما يسرا فتميل إلى الاكتئاب، وتبدو مصابة بالقلق الشديد على المستقبل.

أما ابن عمهما نزار فهو يقوم بالدور الرئيسي في العثور على المهربين واكتشاف طرق المرور والعبور، وبعد رحلة الأهوال هذه ستأتي حافلات تنقل مجموعة اللاجئين إلى ألمانيا، وتصبح يسرا وسارة ومعهما نزار في برلين، لكن داخل معسكر مخصص لاحتجاز اللاجئين إلى حين البت في ظروف كل منهم، وما إذا كان ينطبق عليه شروط قبوله لاجئا.

أوضاع المخيمات وأماكن الاحتجاز والتحقيق وغيرها كلها مصورة على نحو شديد الصدق والدقة والواقعية، وواضح تماما مدى الجهد المبذول في توثيق جميع الخطوات التي يمر بها اللاجئ مع السلطات الألمانية.

تعثر يسرا المهمومة بضرورة استئناف تدريباتها على مدرب ألماني يدعى “ستيف”، ويقتنع بحماسها وقدراتها العملية بعد اختبارها، ويقرر أن يتبنى تدريبها تمهيدا للمشاركة في فريق اللاجئين بالدورة الأوليمبية في ريو دي جانيرو في البرازيل.

بطلتا الفيلم الشقيقتان نتالي ومنال عيسى

أما سارة فتفقد حماسها للسباحة، وتبدو أكثر اهتماما بمشكلة اللاجئين، فتقرر العودة إلى ليسبوس لكي تعمل ضمن منظمات الإغاثة التي تساعد اللاجئين الفارين من الكوارث الإنسانية في بلادهم.

شقاق الأختين.. صدع عابر ترأبه الحاجة العائلية

تنشأ في الجزء الثاني من الفيلم لحظات توتر بين الأختين، ويحصل احتداد وتبادل فظ للاتهامات، فكل منهما تتهم الأخرى بالأنانية، ويحدث الفراق، ولكن هذا الصدع سيعالج وتحدث المصالحة بينهما بعد أن تدرك كل منها أن لا غنى لها عن أختها. أما حضور نزار في الجزء الأخير من الفيلم فيبدو هامشيا.

في دورة الألعاب بريو دي جانيرو 2016 تخوض يسرا منافسات تمهيدية، وتأتي أختها سارة لكي تشجها وتشد من أزرها، إلى أن تتمكن من الفوز وتحقق البطولة.

يبدو هذا الجزء من الفيلم -كما أشرت- تقليديا خاليا من الإثارة التي حفل بها الجزء الثاني، لكننا نقف أمام قصة نجاح في ظروف شبه مستحيلة بالنسبة لفتاة في عامها السابع عشرة.

صدق الأداء.. معجزة فنية تمنح الفيلم واقعيته

سنعرف من خلال الأسطر التي تظهر على الشاشة أن أسرة الفتاتين (الأب والأم والابنة الثالثة شدا) نجحت فيما بعد في الالتحاق بيسرا في برلين، حيث يقيمون جميعا حتى اليوم. وهذه النهاية السعيدة التي يختتم بها الفيلم متوقعة، والفيلم يقدم لها مبكرا.

ورغم المساحة الزمنية للفيلم التي تتجاوز الساعتين، ورغم وجود بعض الاستطرادات والمبالغات العاطفية، فإن تمثيل الفتاتين -اللتين لم يسبق لهما الوقوف أمام الكاميرا- يرتفع بالفيلم كثيرا، ويصبح عنصر الجذب الأساسي، خصوصا في النصف الثاني من الفيلم، فهناك انسجام تام بينهما حتى وهما تتشاجران، فنحن نشعر بصدق الأداء، وهو أمر يحسب دون أدنى شك للمخرجة سالي الحسيني التي لا بد أنها بذلت جهدا كبيرا في تدريبهما على الأداء ووضعهما في ظروف تقترب كثيرا من الظروف الحقيقية على أرض الواقع، بحيث خلقت أمامهما تحديات ونجحت في استدعاء ورصد التعبيرات التلقائية المباشرة على وجهيهما.