“الصقّار”.. صقر في الحديقة يشعل حرب الحضارات بين الشرق والغرب

كثيرا ما تكون العلاقة مع الآخر أشبه بالعلاقة بين نصفي القمر، نصف ظاهر مضيء، ونصف مطابق لكنه مظلم مخفي، في معنى يجمع أصلا واحدا رغم الاختلافات الظاهرية، وقد يقصد بالآخر النقيض الكلي، ذلك المناقض أو العدو، أو يكون الآخر كما في الفلسفة المعاصرة هو كل غريب غير مألوف أو غيري، وكل ما يهدد الوحدة والتجانس.

الفيلم الأمريكي العُماني “الصقّار” (The Falconer) هو من إنتاج 2021، وإخراج المخرجين “شين وينسلو” و”آدم سيوبيرج”، ويتعرض لمفهوم الآخر بشكل يقع ما بين التناقض والتكامل، بعرض يبدو ناعما هادئا، ومنطق يتراوح بين نظرية نصفي القمر التكاملية، وبين نظرة استشراقية تهدمها.

طارق و”كاي”.. صداقة عابرة للغات المنطوقة في عمان

عنوان الفيلم “الصقّار” يعني مدرب أو مربي الصقور، ويدور حول قصة مأخوذة عن أحداث حقيقية جرت في اليمن، لكنها تدور هنا في إحدى قرى سلطنة عمان، في بيئة طبيعية لكن لا تخلو من الفقر، حيث يقترب بنا من علاقة صداقة حميمية جمعت بين صديقين مراهقين؛ أحدهما عُماني هو طارق (الممثل رامي الزهار)، والآخر أجنبي قد يكون أمريكيا لكلامه عن مدن أمريكية دون تصريح واضح، وهو “كاي” (الممثل روبرت فينيسي) الذي يعمل والداه الأكاديميان في عُمان، إلا أن والديه لا يظهران نهائيا، فقط نرى بيت “كاي” الذي تعيش فيه حيوانات غريبة بشكل حر طليق، كالببغاء والسحلية الكبيرة وغيرهما.

نتعرف على بيئة طارق ابن المكان، فأمه متوفاة ويعيش مع أبيه الفقير الذي يعمل بتربية النحل لجني العسل، وله أخت وحيدة اسمها علياء قد اقترب زفافها.

يتبادل الصديقان اللغة فلا تبدو عائقا، فمرات يتحدث طارق مع “كاي” بالإنجليزية، ومرات يتحدث “كاي” بالعربية مع طارق، سواء الدارجة أو الفصحى، لكن بشكل أقل من استخدام طارق للإنجليزية، فاللغة لا تبدو عائقا، بل حُيّد تأثيرها لتلاقي أكثر من اختلاف.

“حبيبي تعال”.. فلكلور سوداني يوحي بعدم الانسجام

تبدأ اللقطات الأولى للفيلم بلقطات للطبيعة المميزة للمكان، حيث الصحراء والجبال والبحر وصوت الطيور والصقور، مع شعور بالبراح والاتساع، بينما الصديقان المقربان طارق و”كاي” يركبان دراجة نارية يقودها طارق وهما متجهان للبحر.

طارق عربي شرقي حنطي البشرة أسود الشعر، وأما “كاي” فهو غربي أبيض البشرة وأشقر الشعر، نستمع خلال ذلك لصوت أغنية من الفولكلور السوداني “حبيبي تعال”، وهي أول ما يعطي شعورا بعدم الانسجام، فالأغنية لا تقول شيئا معينا، إلا أنها فقط تتشابه مع الإيقاع الخليجي، وتقترب من اللهجة العمانية، لكنها ليست عُمانية ولا خليجية، وهو ما يتكرر عدة مرات على مدار الفيلم، مما يشير لاختيار ظاهري سطحي لا يميز تماما بين المتسق وبين المشابه فقط.

يصل الصديقان للبحر، ويتجهان للمراكبي بزيّه التقليدي طالبين الركوب معه، وذلك بعد إلقاء جملة “السلام عليكم” من “كاي”.

الغربي أبيض البشرة وأشقر الشعر “كاي” أثناء تدريبه للصقر

تستعرض الكاميرا الطبيعة برشاقة شاعرية، وتجمع إحدى اللقطات بتكوين جمالي بين الشخصيات الثلاث؛ المراكبي ثم طارق ثم “كاي”، في تدرجات ألوان بشرتهم ما بين الأسمر الغامق والأسمر الفاتح والأبيض الأشقر، في تكوين جانبي متماثل يُظهر فروقاتهم اللونية، لكن في وضع موحد متناغم يجمعهم، كلقطة تظهر ما يريد الفيلم قوله عن وحدة الإنسانية والعالم رغم الاختلافات، خاصة من خلال صديقين في سن واحد مختلفي الجذور يعيشان في مكان واحد، ويعملان عملا واحدا، إذ يعمل كلاهما في تنظيف حديقة الحيوان، وإن كان أمرا غير مقنع في الواقع.

مواجهة الدب والسلحفاة.. نزعة وحشية ومثالية ملائكية

بعد مقدمة حيّدت الفروق، يبدأ تكشّف الاختلافات تدريجيا، مع تدرجها من كونها فردية بسيطة لتصبح جذرية عامة وفارقة تمثل ثقافتين، ففي حوار على المركب يجمع بين الصديقين، يتكلم كل منهما عن حيوانه الأحب، ليكون الدب خيار طارق، فهو في نظره يرمز للوحش.

وأما “كاي” الذي نكتشف حبه الشديد للحيوانات فهو يفضل السلحفاة المائية، مبررا ذلك بكونه يحب أنها دوما تعود للشاطئ الذي فقست فيه، متطرقا لغريزة رغبة العودة للبيت، وهو ما يشير بدوره لنظرة متصلة بالطبيعة لدى “كاي”، مقابل نزعة وحشية، وإن كانت خافتة لدى طارق.

وفي مشهد آخر يدور حديث بين الصديقين عن ما يرغب كل واحد في فعله أو يتمناه، لتكون إجابة “كاي” بأنه يريد الذهاب إلى نيويورك لدراسة مبحث معين للحفاظ على الحيوانات، بينما يقول طارق إنه ينتظر إنهاءه للثانوية العامة ومن ثم سينتظر الوظيفة.

يوضح هذا النقاش فروقا تبدأ في الظهور بين شخصية طارق المتواكلة بلا رؤية، والمهمومة فقط بالوظيفة والنقود، وبين “كاي” الشغوف واضح الرؤية والأهداف وصاحب الهم العلمي والإنساني الحقيقي، بشكل لا يجعلها فروقا بينهما فحسب، بل فروقا ثقافية بين الشرق والغرب.

زواج علياء.. احتفاء الصورة الفلكلورية وإهمال الدراما

ينتقل الفيلم من استعراض الحياة الطبيعية والخارجية لنقترب من الحياة الاجتماعية لطارق، من خلال حفل زفاف أخته علياء، بتصوير اهتم بالشكل الفولكلوري من خلال أزياء الرجال الذاهبين للعرس، ثم أزياء النساء منفردات وهن يرقصن مزينات بالذهب التقليدي والحناء، بينما تجلس العروس الصغيرة واجمة في صمت.

بدا المشهد مصنوعا لصالح الصورة الفولكورية الاحتفائية لا الدرامية، برقص مصطنع يفتقر للعفوية في أداء كثير من النساء، وصوت موسيقى للعرس لا يبدو حيا، بل مدخلا بشريط صوت على خلفية الصورة، حتى أنه جاء ضعيفا فاترا، ورغم البراعة التقنية للتصوير في هذا المشهد، فقد اتخذ موقفا سطحيا من الحدث الدرامي بدت فيه الكاميرا منشغلة برصد جماليات الحالة التراثية.

بعد مشاهد قليلة تعود الأخت لبيت والدها راغبة بالطلاق بسبب زوج عنيف، وتكتفي الأخت بوصفه أنه سيئ، حتى نرى آثار عنف على جسدها في مشهد آخر.

يبدو الحوار دوما مصطنعا مبتورا فاترا حتى في أشد المواقف درامية، لتكون الأزمة في إتمام طلاقها هو رد مهرها لزوجها، كعبء أمام أسرة طارق الفقيرة، يضطر طارق أن يتحملها كدور تقتضيه الذكورية الشرقية، ليتطرق الفيلم بذلك للزواج القسري والعنف الزوجي في المجتمعات الشرقية، ومن ثم مشكلة صعوبة الطلاق وحتى رفضها اجتماعيا.

صراع قابيل وهابيل.. نزاع يعكس الخلفيات الحضارية بين الشرق والغرب

نشاهد طارق و”كاي” في حديقة الحيوان التي يشتغلان فيها عاملي نظافة، بينما يطيل “كاي” التأمل في صقر حبيس، وذلك إثر إخباره لطارق في مشهد سابق أن الصقر الحبيس يفقد بحبسه كتلة عضلات صدره التي تمكنه من الطيران، وأنه وإن أطلق سراحه فلن يستطيع الطيران، وإن طار فلن يستطيع الصيد، وسيموت جوعا بعد ثلاثة أيام.

الصديقان كاي وطارق يلعان في القرية

يقف “كاي” في هذا المشهد أمام الصقر متمنيا أن يسرقه ليدربه ويحرره، أما طارق فيحاول أن يسرق حماما، ومن بعده ثعبانا كبيرا مميزا، ويسرقهم بالفعل للحصول على أموال لحل مشكلة أخته، ثم ينتهي به الأمر سارقا صقر صديقه “كاي” الذي يحاول تدريبه، ليجمعهما مشهد نزاع يصل للضرب، يفصح فيه طارق عن حقد تجاه “كاي”، متهما إياه بالأنانية والرفاهية والتعاطف فقط مع الحيوانات، وهو مشهد يظهر فرقا في النفسيات والثقافة بينهما، وكيف يقف الفقر حائلا ثقافيا بذاته.

إنه مشهد يشبه صراع قابيل وهابيل الأزلي، حيث يفرق بينهما النزاع على الصقر، ويمثل لأحدهما حاجة مادية وللآخر قيمة إنسانية نبيلة، في انقلابة درامية لطارق المسالم الوديع، ليبدو في هيئة وحشية غادرة، فهو من يسرق صديقه، وهو من يبادر بالاعتداء عليه، ثم يكون “كاي” بعد ذلك هو من يبادر بالتسامح والتعاون رغم إيذائه، في تطور يظهر فروقا حضارية أعمق بين الصديقين.

تحرير أميرة وعلياء.. عودة التحليق في آفاق السماء والسعادة

تبدو محاولات تحرير علياء من زوجها متزامنة مع محاولات تحرير وتدريب الصقر، فالصقر الحبيس معادل لأسر علياء، ويتأكد ذلك باهتمام علياء بالصقر ورغبتها المصرة للاشتراك في محاولات تدريبه، ليكون طيرانه وطلاقها -الذي نعلم بأمره كتابةً- معادلين للحرية، وهي استعارة أجيد توظيفها.

وتعد مشاهد تدريب الصقر -الذي اتضح أنه أنثى منحها “كاي” اسم “أميرة”- من أفضل المشاهد، وقد كان على مراحل، أجملها المشهد الأخير الذي تمكن فيه الصقر من الطيران ثم العودة، وذلك بفضل تدريب “كاي” استعدادا لبيعه لصالح طارق.

يعتبر الفيلم المائل لأفلام المغامرات أقرب إلى “الدوكيودراما” أي الفيلم التسجيلي الروائي، خاصة أن القصة حقيقية، فقد وقعت كما ذكرنا في اليمن، والممثلون يؤدون أدوار شخصيات حقيقية ظهرت وقدّمت في التتر الأخير للفيلم، مع كتابة ما حدث للشخصيات الحقيقية بعد ذلك على الشاشة، ومنها زواج علياء زواجا ثانيا سعيدا.

علياء تشارك في تدريب الصقر

كما نعلم أن حرب اليمن قد فرقت بين الصديقين الحقيقيين سبع سنوات، حتى التقيا من جديد مع تصوير هذا الفيلم، وأن الصقر “أميرة” أطلق سراحها للطبيعة من جديد، فاختيار ممثلين هواة غير مدربين كما يبدو بوضوح، هو أقرب لحالة الفيلم التسجيلي مع بساطة الحوار وعدم احترافيته.

وقد كان يمكن من خلال هذه الخيارات خلق فيلم جيد أكثر صدقا وتماسكا، لكن ضعف الخبرة الفنية واضحة في كل العناصر، فالسرد قسري سطحي، من خلال تعامل الكاميرا -كما أشرنا- مع جماليات الصورة أكثر من دراميتها، فالحالة الشاعرية طاغية على الدراما، وكأن الدراما من تخدمها لا العكس.

اختلاف الثقافات.. نظرة استشراقية تعزز الصور النمطية

يقول إدوارد سعيد: علاقات الانتماء تنتمي إلى عالمي الطبيعة والحياة، بينما تنتمي علاقات الانتساب إلى الثقافة والمجتمع فقط.

وأرى أن الفيلم تعامل مع الثقافة التي يقدمها بلا انتماء أو انتساب معاملة الزائر الأجنبي الغريب، لا صاحب المكان المتفاعل معه، وهو نفسه ما جعل الفيلم رغم رسالته الداعمة لوحدة الإنسانية بين الشرق والغرب؛ يحمل رسائل عكسية تنحاز ربما لا إراديا للجانب الغربي بشكل فوقي غير مباشر، ولا مانع من النقد الواقعي للطبائع الإنسانية أو الواقعية، لكن طبيعة الشكل والبنية اللذين اختارهما الفيلم برؤية شاعرية للآخر متمازجة معه؛ لا يتناسبان مع هذا التناول.

الممثل رامي الزهار بدور طارق بعد سرقته ثعبانا لبيعه

تبدو الحالة الاستشراقية حاضرة تماما في الفيلم، في تصوير البيئة بنظرة جمالية فوتوغرافية، أو في تقديم شخصية “كاي” الغربي شخصا أقرب للمثالية ذا هم إنساني، مع ظهور نزوع همجي في شخصية طارق كشفت عنه الأحداث، وهمه الفردي الآني.

تاجر الحيوانات الأبتر.. ترويج للخرافة في المجتمع العُماني

من جهة أخرى هناك شخصية لرجل مقطوع الذراع قابله الصديقان على الشاطىء، وقيل عنه إنه فقد ذراعه بسبب فهد جلبه من سريلانكا للتجارة فأكل ذراعه، وأنه يتعامل مع الجن، مع إشارة عامة لوجود الجن في مناطق عمانية، لنكتشف أنه رجل بسيط قطعت يده وهو صغير في مزرعة أهله، وكأن هذا الرجل يجسد تعبير “جروتسكي” (أسلوب التشويه البصري الدرامي) عن خلل المجتمع وترويجه للخرافة والإشاعات.

كما أنه يأتي نموذجا مناقضا لـ”كاي”، فالرجل يصطاد الحيوانات ويتاجر بها، يشتريها أو يبيعها، بينما يسعى “كاي” للحفاظ عليها وإطلاق سراحها في الطبيعة، فكانت حتى سرقته مبررة إنسانيا، مع اهتمام الإخراج بتوثيق فاتر للبيئة، والمجتمع كجزء فقط من البيئة.

حتى أداء الممثلين كان كذلك، وأسوأهم رامي الزهار (طارق)، بسبب اللكنة السيئة التي لا تناسب إلا شخصا أجنبيا، باستثناء الممثلة نور الهدى (علياء) ووالد طارق وأشخاص عابرين كالمراكبي والرجل مقطوع الذراع، وإن كان هؤلاء أيضا مشمولين رغم إرادتهم بهذه الحالة الفاترة المتباعدة، في النهاية أرى أن إخراج فيلم كهذا من قبل مخرجين عمانيين أو عرب كان سيحقق فرقا كبيرا للأفضل، يجعل الحالة أكثر عفوية وصدقا وأفضل وصولا للمشاهد.