“تيل”.. انتقام الأم السوداء لابنها بتغيير التاريخ الأمريكي

يظل الأمريكيون الأفارقة بحاجة إلى تحريك الشارع لفرض الاعتراف بحقوقهم السياسية والمدنية، وللتذكير بأن “حياة السود مهمة”، حتى لا يلقى بعضهم مصير المقتول خنقا أمام الملأ “جورج فلويد”.

وبالقدر نفسه يظلون بحاجة إلى تنشيط الذاكرة لاستعادة قصص نضال أسلافهم ضد التمييز العنصري المسلط عليهم شأن “روزا باركس” (1913-2005)، فقد ثارت على الفصل بين الركاب في الحافلات على أساس اللون في مدينة مونتغمري الأمريكية، وفق قانون يقضي بضرورة تخلي السود عن مقاعدهم عندما لا يجد البيض مكانا، أو “مارتن لوثر كنغ” (1929-1968) المناضل في سبيل حصول السود الأمريكيين على حقوقهم السياسية والمدنية، والحاصل على جائزة نوبل للسلام لدعوته إلى عدم العنف عام 1964.

كذلك شأن فيلم “تيل” (Till) الذي أخرجته المخرجة النيجيرية الأمريكية “تشينوني تشوكو” (2022)، ويستلهم قصة كفاح “مامي تيل موبلي” بحثا عن عدالة مفقودة في المجتمع الأمريكي في الشطر الثاني من القرن الماضي.

“مامي تيل موبلي”.. قصة الناشطة السوداء المُلهمة

يستند فيلم “تيل” إلى القصة الحقيقية للمعلمة والناشطة “مامي تيل موبلي” التي صرفت كل جهدها منذ عام 1955 للنضال، لتحقيق المساواة بين السود والبيض، إثر مقتل ابنها “إيميت” على أيدي بيض اختطفوه، ثم عُثر على جثته لاحقا في نهر تلاتشي في 28 أغسطس/آب عام 1955.

وُلدت “مامي تيل موبلي” في المسيسيبي سنة 1921، ثم انتقلت إلى شيكاغو شمال الولايات المتحدة الأمريكية مع أسرتها، ضمن ما يعرف بالهجرة الكبرى للعمل بحثا عن ظروف حياة أفضل، وتزوجت هناك ثم ترملت سنة 1945، بعد مقتل زوجها في الحرب العالمية الثانية.

لقد وجدت المخرجة النيجيرية الأمريكية “تشينوني تشوكو” قصتها ملهمة لتقتبسها إلى السينما.

هجرات الشمال.. ترحل الأجساد ويبقى الحنين إلى الموطن

يحتاج المتفرّج إلى معرفة شيء من تاريخ الولايات المتحدة في القرن الماضي ليتفاعل مع الفيلم بطريقة أفضل، ومنها وقائع الهجرة الكبرى التي غيّرت مجرى التاريخ الأمريكي، وأسهم فيها أصحاب العرق الأسود خاصة، فقد شملت نحو ستة ملايين أمريكي من السود انتقلوا من المناطق الريفية الجنوبية إلى المناطق الحضرية في الوسط والشمال.

وكانت تلك الهجرات أساسا هروبا من عمليات الإعدام التي تستهدفهم خارج نطاق القانون، ومن الفصل العنصري السائد والتمييز في الولايات الجنوبية، فضلا عن الظروف الاقتصادية السيئة التي كانوا يعيشونها في الجنوب المتخلف اقتصاديا وصناعيا مقارنة بالشمال، فاستقطبتهم مدن نيويورك وشيكاغو وديترويت ولوس أنجلوس وفيلادلفيا وكليفلاند وواشنطن العاصمة.

كان على هؤلاء المهاجرين عن منازلهم وقاعدتهم الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب أن يبدؤوا حياة جديدة، وأن يؤسسوا مجتمعات خاصة بهم، لكن الحنين ظل يشد بعضهم إلى مواطن النشأة، أو إلى من بقي من الأهل هناك.

المعلمة والناشطة “مامي تيل موبلي” التي صرفت كل جهدها لتحقيق المساواة بين السود والبيض

هذا الشعور هو ما سيدفع “مامي تيل موبلي” إلى إرسال ابنها “إيميت” (14 سنة) إلى منزل عمّه “موزيز رايت” بولاية الميسيسيبي، فقد كانت تريد له أن يحافظ على أواصره الأسرية بعد مقتل والده.

فخ المحفظة.. ممثلة بيضاء تقتل الطفل الأسود

يبدأ الفيلم بمشاهد مرحة تبرز ما يميز حياة “مامي تيل موبلي” من الدفء الأسري كالمرح مع ابنها والسمر معه، ومع خطيبها “جي”، في ظل مراقبة الجدة للمنزل العائلي في شيكاغو، والاستعداد لرحلة الطفل لزيارة الأقارب.

تركّز هذه المشاهد على ما يميّز شخصية الفتى من ذكاء ونشاط وإقبال بريء على الحياة، فقد أرادت المخرجة أن ترفع منسوب البهجة في المشاهد الأولى، وليس ذلك إلا مؤثرا دراميا يحفز المتفرّج، ليتعاطف بشكل أكبر مع كارثة قتله في المشاهد اللاحقة.

لم تخل هذه المعالجة الدرامية من استدعاء عناصر تراجيدية بعناية، كارتكاب الشخصية لخطأ غير مقصود يفضي إلى النهاية المأساوية، فيلحّ الطفل على شراء محفظة الأموال وهو يجهّز نفسه للرحلة رغم ممانعة أمه وعدم حاجته إليها، ثم يصرّ على لباس الخاتم الذي ورثه عن والده، لكن تلك المحفظة التي تُزيّن بصورة لممثلة بيضاء ستكون الفخ الذي نصبه له القدر، وستتسبب في مقتله، وبالخاتم ستعرف جثته لاحقا.

وكما في التراجيديات الكلاسيكية التي لا تأبه فيها الشخصيات إلى الإشارات التحذيرية بالهلاك، لا يصغي الفتى إلى نصائح الأم في شيكاغو ولا في المسيسيبي. وكما في هذه التراجيديات يمثل الموت في ظاهره هزيمة مادية، وفي عمقه انتصارا معنويا يتجلى في سيادة القيم التي يحلم بها، فمقتل “إيمت” والتمثيل بجثته سيسهم في اكتساب السود لكرامتهم، بعد معارك حقوقية ضارية ستخوضها الأم انتقاما لابنها وللكرامة الإنسانية.

مغازلة البائعة.. حماقة سوداء تحتاج تأديبا أبيض قاسيا

يصحب “إيمت” أترابه إلى المدينة ويدخل محلا لشراء حلوى، ويفاجأ بأن ملامح امرأة المتجر البيضاء “كارولين براينت” تشبه إلى حدّ بعيد ملامح النجمة التي تزيّن صورتها محفظته، فيشجعه ذلك إلى مبادرتها بالحديث، ثم يودعها مصفرا مغازلا.

الصبي “إيميت” يلبس الخاتم الذي ورثه عن والده

لقد كان يتصرّف برعونة الأطفال، ولم يكن طفل الشمال يستوعب واقع الكراهية والفصل العنصري في الجنوب جيدا، أو يدرك خطورة الموقف حينما أسرعت السيدة إلى سيارتها لتجلب سلاحها، ورغم نجاح رفاقه في حمايته والهرب سريعا، فقد دهم البيض منزل عمه ليلا، واقتادوه إلى سيارتهم تحت تهديد السلاح رغم التوسلات، فالحماقة “السوداء” تحتاج تأديبا “أبيض”.

هكذا يستسلم الخاطفون إلى غواية الحقد، فيضرب الصبي بالعصي على الوجه، وتكسر جمجمته، وتقتلع أسنانه، ويخرّق جسده، ثم يلقى في نهر تلاتشي، ولا يتسنى التعرّف عليه إلا عبر خاتم والده الذي أصر على حمله، ولتفضح الأم ممارسات البيض الوحشية وتكشف فظاعتهم فقد أصرت على ترك نعشه مفتوحا، وعرضته على المصورين، فمن المهم بالنسبة إليها أن يرى العالم ما فعلوه بابنها.

محاكم البيض.. لعبة تجعل الضحية جانيا والأم قاتلة

ينزّل الفيلم جريمة قتل الصبي “إيميت” في سياقها التاريخي، فيبرز انخراط “الاتحاد الوطني للحريات” الذي أسسه بعض السود للدفاع عن حقهم في الحياة الحرة والكريمة، وضمن نضال هذا الاتحاد ضغط المحامي “ويليام هوف” على السلطات، لضمان محاكمة عادلة لقتلة الطفل معوّلا على الصحافة السوداء، مما ساعد الأم على تحدي غطرسة البيض.

يصطدم مناضلو الاتحاد بعناصر معرقلة، فهذا الحادث يصادف تسجيل السود للمشاركة في الانتخابات، والنافذون من البيض في ولاية المسيسيبي قرروا فرض التفوق العرقي للاحتفاظ بامتيازاتهم، وسبيلهم إلى ذلك منع السود من التصويت ومن التأثير في القرار السياسي بالنتيجة، باعتماد مختلف أشكال العنف. لهذا حفت بالمحاكمة ممارسات عدائية حاولت إرهاب الأم وثنيها عن المضي قدما في بحثها عن العدالة المفقودة.

وقد مثّل النظام القضائي أيضا عاملا يحول دون المحاكمة العادلة، فهو يستند إلى محلفين ينوبون عن المواطنين في تشكيل هيئات الاتهام، ولأنهم كانوا من البيض المتورطين في جرائم الفصل العنصري، فإنهم سيبذلون ما بوسعهم من جهد لتحويل وقائع المحاكمة إلى إدانة للأم، فتتهم بالاستهتار في حياتها الخاصة، وبإهمال تربية ابنها التربية السليمة، ويوحى ضمنا بأنها دبّرت مقتل ابنها للحصول على التأمين.

هكذا تُحوّل المحاكمة الصورية من إدانة القتلة إلى نفي وقوع الجريمة أصلا وتبرئة المتهمين، بحجة عدم القدرة على إثبات صاحب الجثة بعد ما لحقها من تشويه. وتبارك عملية اختطافه لتأديبه بعد أن بات متهما بالتحرش جنسيا ببائعة المتجر “كارولين براينت”، والشروع في محاولة اغتصابها، مستغلة ما رُسّخ من اعتقاد بأن السود وحوش غير قادرين على التحّكم في غرائزهم.

“أمريكا لن تفي بوعودها، ما لم تكن قادرة على حماية الجسد الأسود”

تفشل “مامي تيل موبلي” في الوصول إلى محاكمة تدين المذنب، لكنها تنجح في التقدم خطوة نحو فرض حقوق السود المدنية وتوحيدهم على كلمة واحدة، فقد كانوا غير قادرين على الوقوف في المحاكم للشهادة ضد البيض، خوفا من انتقامهم وتنكيلهم بهم، وهم يعملون في مزارعهم وحقولهم ويفتقدون إلى الحماية.

أما في حالة مقتل “إيمت”، فقد تجمع السود حول قضية “تيل موبلي” العادلة، وفي تحفيز الشهود لإدانة القتلة، فيؤكد “ويلي ريد” -مساعد “جي دابليو” المتورط في الجريمة- عمليةَ الاختطاف، ويختار العم الذي يميل عادة إلى السلامة المواجهةَ، ويعرض أمام هيئة المحلفين وقائع الاختطاف، موجها الاتهام إلى “براينت”.

يشجع هذا التضامن الأم على البلاء الحسن أثناء استجوابها، فتؤكد أن ابنها لم يقتل بسبب إهمالها أو سوء تربيتها له، وإنما يسبب الحقد والكراهية اللذين يسكنان العقل الأبيض. وتوفق في تحويل الجريمة إلى قضية رأي عام تدين “أمريكا التي لن تفي بوعد من وعودها، ما لم تكن قادرة على حماية الجسد الأسود”، ويتسابق إليها الإعلاميون.

وبعد أن كشفت لها وقائع المحاكمة وما تضمنته من معاملة مهينة للسود؛ عمقَ الكراهية، تقتنع بضرورة انخراطها في النضال من أجل حرية السود ومساواتهم مع البيض، فذلك العزاء الوحيد الذي يهوّن مصابها، وكان دورها حاسما في سن القانون الفيدرالي للحقوق المدنية عام 1957، وهو يمثل خطوة حاسمة نحو إلغاء الفصل العنصري.

حقوق السود.. توثيق ماضٍ يلقي بظلاله على الحاضر

يعد فيلم “تيل” ثاني عمل فني يقتبس سيرة “مامي” في عام 2022، وذلك بعد المسلسل الدرامي التاريخي “نساء الحركة” (Women of the Movement) الذي عرض لأول مرة على قناة “أي بي سي”، واستند إلى كتاب “إيميت تيل: الجريمة التي صدمت العالم وأشاعت حركة الحقوق المدنية” للكاتب “ديفري س. إندرسون”، وإلى كتاب “موت البراءة: قصة جريمة الكراهية التي غيرت أمريكا” للكاتبين “مامي تيل موبلي” و”كريستوفر بنسون”.

يضاف هذان العملان إلى الفيلم التلفزيوني “شهداء الحقوق المدنية المحررون في النهاية” (Civil Rights Martyrs: Free at Last) الذي أنتج عام 2000، والفيلم الوثائقي “القصة غير المروية لإيميت لويس تيل” (The Untold Story of EMMETT LOUIS TILL) الذي أنتج عام 2005.

وليست هذه العودة المستمرة إلى مأساة الأم أولا وإلى ملحمتها في الدفاع عن حقوق السود ثانيا إلا لصلة الذاكرة الوثيقة بالتاريخ والسياسة والمسارات الخاصة والعامة، فهي تحتفظ بصور ثابتة عن التجارب السابقة، وتظل تستعيدها باستمرار، لتقوم في ضوء نتائجها انحرافات الواقع.

لم تبرز هذه الآثار في السينما والأدب والتلفزيون والرسم والنحت في بداية القرن الحادي والعشرين وعبر مبدعين سود غالبا، إلا لكون الأمريكي ذي الأصول الأفريقية يلقى اليوم شيئا من معاملة “إيميت لويس” ويكافَأ الأبيض المعتدي بما كُوفئ به “روي براينت” قاتل “إيميت”.

وما محاولة تصنيف جريمة الشرطي الأمريكي السابق “ديريك تشوفين” ضد “جورج فلويد” بالقتل على سبيل الخطأ في بداية المحاكمة، إلا حلقة أخرى من استباحة الجسد الأسود في بلد ينصّب نفسه شرطي الحريات والحقوق المدينة في العالم.

لكن رغم نبل الرسالة التي يوجهها الفيلم للعالم، ورغم أهمية التذكير بمعاناة السود التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وأهمية السياق الثقافي والسياسي الذي يتنزل فيه، فإنه لم يخل من تمطيط للأحداث ونزعة إلى الميلودراما يحدّان من قيمته الفنية، ويحولان دون ارتقائه إلى مرتبة الفيلم المميز في مسابقات الأوسكار، أو في سباق الإيرادات.