“خبز وملح”.. جريمة المطعم السوري تفضح عنصرية البلدة البولندية

ينطلق الفيلم البولندي “خبز وملح” (Chleb i Sól) للمخرج “داميان كوكر” (2022) من مقاربة متشابكة تشغل الحاضر في معظم دول العالم، وهي مشكلة العنصرية وما يترتب عليها من تجاوزات وإرهاصات تُذكي نيران الصراعات، وتزرع الأحقاد والفوضى في المجتمع الواحد.

وفي حالة هذا الفيلم فإنها تتجلى في نظرة البولنديين للعرب الوافدين إليهم، خاصة أنها قصة يقول المخرج نفسه إنه اقتبسها من المنطقة التي عاش فيها، أي أن الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية وليست مُتخيلة.

ملاك الجواري القادمين من الصحراء.. صورة نمطية

لم تكن مشكلةُ العنصرية وليدةَ اليوم، بل هي موجودة منذ الأزل، ومرت على كثير من الحضارات والممالك والجمهوريات، وتتراوح نسبة ممارستها من منطقة لأخرى، لكن المحزن والمخيب أن تكون موجودة بمستويات عدة في أكثر البلدان ديمقراطية وتمجيدا لحقوق الإنسان.

وتتجلى تلك العنصرية من منطلق مرده الأساسي لون بشرة الإنسان، وانطلاقا من ذلك يكون تصنيف هذا الفرد وتقويمه ومعاملته، بعدها تأتي الانتماءات العرقية والدينية والمنطقة التي ينحدر منها، ومن خلالها تتحدد معالم تلك العنصرية ومدى درجاتها، لكنها على العموم تكون آلامها ومعاناتها وإفرازاتها على الضحايا واحدة، نار تتقد فتحرق القلب وتهدد المجتمعات بالتفكك والتلاشي.

وفي حالة فيلم “خبز ملح” فإن سهام العنصرية تتجلى في نظرات بعض الشباب البولنديين للعرب الوافدين إليهم، وبشكل أدق لسوريَّين مهاجرين فتحا مطعم كباب في أحد البلدات، حيث تعرضا لكل أنواع العنصرية والتنمر من روّاد المطعم ممن لا يملكون أي صورة واقعية عن الدول العربية وما يحدث فيها.

وحسب الأحاديث التي جرت على ألسنتهم فإنهم يرون أنها صحراء ممتدة يقطنها مجموعة من الهمج، ممن يرتدون عمامات على رؤوسهم، ويملكون الجواري، أو أنهم إرهابيون وقتلة في حالات أخرى، وهي الصورة نفسها التي كرّستها بعض الأفلام في العقود الماضية، حتى أصبحت راسخة لدى شريحة واسعة من الشباب الغربي الطائش الذي لا يملك تصورا واقعيا عن الانتماءات وثقافات الدول العربية.

لهذا بات العربيان صاحبا المطعم في فيلم “خبز وملح” مادة دسمة لهم ولسخرياتهم وكلامهم الجارح في حقهما، فباتوا ينعتونهما بأبشع النعوت، ويتنمرون على لون بشرتهما وانتمائهما، إلى أن جاء اليوم الذي خرج فيه الأمر عن السيطرة تماما، وحدث ما كان متوقعا.

صدام الثقافات.. قصة استثنائية في المهرجانات الدولية

شارك فيلم “خبز وملح” (99 دقيقة) ضمن المسابقة الدولية بالدورة الـ44 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (13-22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، وحصد جائزة “الهرم البرونزي” لأفضل عمل أول، بعد أن أثار اهتمام لجنة التحكيم ورأت بأنه يستحق تلك الجائزة، خاصة وأنه ذهب صوب موضوع مهم لا يزال يثير الكثير من الجدل في أوروبا والدول الغربية على العموم، انطلاقا من إفرازات الحروب ومآسي اللجوء وتبعات الهجرات الجماعية، وما يحدثه هذا من تصادم في الثقافات.

تيميك خلال مناقشة عابرة مع السوريين صاحبا مطعم الكباب

إضافة إلى أن المخرج الشاب “داميان كوكر” طرح في هذا الفيلم مشكلة في غاية الأهمية تتعلق برفض الآخر لكل أشكال إدماج المهاجرين في نسيجه الثقافي والاجتماعي، وهو المعطى الذي يولّد العنف والشرخ، ويُعطي صورة قائمة عن الراهن والمستقبل على السواء، كما شارك قبلها في مهرجان البندقية بدورته الـ79.

ورغم أنها تجربته الأولى في إخراج الفيلم الطويل، فإن المخرج “داميان كوكر” استطاع أن يخلق مقاربة سينمائية مهمة، وضع من خلالها المُتلقي أمام صورة “العنصرية” ومضارها، وذهب أبعد من ذلك من خلال معالجته الإخراجية التي اعتمد فيها على تحويل الهامش إلى متن، والعكس صحيح، والهامش في هذه المعادلة هما الشابّان العربيان الموجوعان من الحروب.

حرية المشاهد.. موضوعية ترسم خط النص السينمائي

لم يشرح المخرج كثيرا طريقة عيش الشابين وتفكيرها، ولم يظهر أحلامهما وكوابيسهما، وبالتالي لم يخلق عاطفة قوية بينهما وبين المشاهد، حتى أنه لم يسلّط في كثير من الأحيان عدسة مقرّبة على وجهيهما، وكأنه لا يريد للمشاهد أن يتورط معهما عاطفيا، وبالتالي تتعثر الأحكام عليهما انطلاقا من هذا التشابك البصري والعاطفي.

لقد أراد “كوكر” من المشاهد أن يصدر أحكامه بموضوعية بعيدا عن أي توجيه أو ضغط، ورغم أن هذا المعطى خلق هامشا ضيقا لهما، فإن هذا الهامش تحول إلى متن وبؤرة مهمة يمكن من خلالها فهم أبعاد العنصرية وطريقة نشأتها، انطلاقا من الأحكام الجاهزة، ومن الموروث الإعلامي والدعائي الذي توفره مختلف الوسائل الغربية.

“تيميك”.. إفلات من سلبية البلدة واكتفاء بالمشاهدة

في المقابل أعطى الفيلم المجال للجهة الأخرى التي تصدر منها العنصرية، ممثلة في الشباب البولنديين الذي يقطنون ضواحي المدن، ممن يحملون هموم أسرهم وأوضاعهم المعيشية، وعلى رأسهم الشاب “تيميك” (الممثل ثيموتيوش بيش) الذي عاد إلى مدينته ليقضي عطلته مع أسرته.

تيمك فنان حساس، إلا أنه لم يحرك ساكنا لمجابهة سلوك العنصرية الذي صدر من أخيه وأصدقائه

استطاع الشاب “تيميك” أن يفلت من مناخات تلك البلدة السلبية، فسافر ودرس الموسيقى، وأصبح عازفا ماهرا على آلة البيانو، وقد اعتمد عليه المخرج بوصفه شخصية محورية نقل من خلالها تداعيات تلك العنصرية مع تشخيص علّتها، وبعد عودته وجد أخاه الأصغر “ياتسيك” (الممثل ياتسيك بيش) بلا عمل، ويعتمد على والدته ذات الدخل الضعيف في عيشه.

يبدأ بعدها في التسكع معه ومع أصدقائه القدامى ممن لم يجدوا فرصة تغيير في بعض الفضاءات التي كبر فيها، وكانوا يتناولون وجبات سريعة من حين لآخر في مطعم الشابين العربيين (نديم شلبي ونديم سليمان) اللذين فتحا مطعمهما في منطقتهم، وهناك بدأت عيون “تيميك” تراقب الوضع عن كثب، يرى كيف تحدث الأشياء في غيابه، كيف تقع العنصرية، كيف ينظر أخوه وأصدقاؤه إلى العرب بشكل عام، من خلال النقاشات التي تحدث.

سلسة العاهات السياسية والاجتماعية.. بذرة العنصرية

هذه المعطيات السلبية التي تصدر من الشباب البولنديين حاول المخرج والمشارك في كتابة السيناريو “داميان كوكر” أن يبررها، وذلك انطلاقا من العنف الأسري وتربية الآباء، والفضاء الذي تنعدم فيه فرص العمل والدراسة الجيدة.

كل هذه المعطيات ساهمت في خلق الشخصيات غير السوية التي تميل إلى العنف ومنطلقاته، لأنه السبب الوحيد الذي تخرج من خلاله تلك المكبوتات التي فيهم، وكأن المخرج يحاول أن يقول إن العنصرية هي حلقة من سلسلة طويلة من العاهات السياسية والاجتماعية والإنسانية والتعليمية المتصلة ببعضها، ويجب القضاء عليها ومعالجتها، لتكون النتيجة هي القضاء بالضرورة على العنصرية.

الأخوان تيميك وجاك، جمعتهما الموسيقى وفرقتهما نيران العنصرية

وبمعنى أكثر وضوحا فقد برر النص لهؤلاء العنصريين عنصريتهم انطلاقا من تكوينهم وتربيتهم، خاصة أن نهاية الضغط المتواصل على الشابين لم تكن سعيدة، إذ حدثت جريمة قتل بشعة، وإن لم يصرح بها الفيلم مشهديا، لكن الأحداث أحالت بأن أحد العربيين من المطعم قتل “ياتسيك” أخا “تيميك”، بعد أن جاء مع مجموعة من أصدقائه واعتدوا عليهما في المطعم ليلا، وقد وظف المخرج في هذا السياق كاميرا المطعم، حتى يبين واقعية الفيلم ومدى التحامه بشخصيات حقيقية من بيئته.

فضاء محدود.. إقحام الجمهور في عوالم المهاجرين

اختار المخرج فضاء بسيطا انعكس في بلدة قليلة الحركة مع شخصيات شبابية تتجول في شوارعها وفضاءاتها المحدودة، إضافة إلى مناظر داخلية مثّلها منزل الأخوين “ياتسيك” و”تيميك” ومطعم الشابين العربيين.

وقد استطاع المخرج أن يُسيطر بشكل شبه كلي على هذه الفضاءات، وفي الوقت نفسه جعل الجمهور يشعر بتفاصيلها ومحدوديتها، وكأنه أراد أن يقول عن طريقها إن هذه المساحات الضيقة هي التي أثّرت بشكل كبير على نفسيات هؤلاء الشباب.

وقد بلغ أكثر من هذا حين أشرك الجمهور فيها، فبات يحس بتفاصيلها وبقلة الفرص فيها، وفي السياق نفسه زرع شعور عدم الطمأنينة والخوف وانعدام الأمن الذي عاشه الشابان، ليظهر بشكل عام أن المشكلة لا يمكن حصرها في زاوية واحدة، ومن أراد معالجتها عليه بمعالجة الزوايا المتعددة.

المخرج دميان كوكر أثناء تواجده ومشاركته في مهرجان فينيسيا

 

كما كانت كاميرا مدير التصوير “توماش فوزنيتشكا” سلسلة وطيّعة ونقية، وتعاملت مع المشاهد النهارية مثل الليلية، فقد عكست نفس النقاء البصري، وتفاعلت مع الأحداث بجدية وعكستها بصريا، كما قبض على اللحظات العاطفية المهمة عن طريق زوايا التصوير التي ترصد الملامح، خاصة ما ينعكس على وجوه الشخصيات.

“خبز وملح”.. معنى ثقافي يفضح عبثية الحياة الغربية

“خبز وملح” تعني في الثقافة البولندية الترحيب بالغريب وإكرامه، وهو معنى يقترب من الثقافة العربية، ويعكس مفهوم الجيرة والعشرة بين الأشخاص، لكن هذا المفهوم لم ينعكس في تفاصيل الفيلم وأحداثه، وكأن المخرج أراد من هذا العنوان أن يعكس عبثية المجتمع الغربي وما يحدث فيه.

تحدث المخرج في الندوة التي عقدها بعد عرض الفيلم أثناء فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وقال إن فكرة الفيلم اقتُبست من الواقع، أي من أحداث وقعت فعلا في بولندا، وقد انعكست في مجموعة من الشباب البولنديين هاجموا مهاجرين بطريقة عنيفة جدا، وأضاف المخرج بأن كثيرا من صور الفيلم هي عبارة عن مشاهد وثائقية، كما أنه اعتمد في الفيلم على ممثلين غير محترفين.