“البشر”.. رعب في شقة منهاتن يحوّل عيد الشكر إلى توتر وظلام

شهد عام 2021 بداية جديدة لعدد من المخرجين، لكن اثنين منهم تحديدا تألقا بشكل ملفت. نشرنا من قبل مقالا عن الفيلم الأول لأحدهم وهو فيلم “خنزير” (Pig) للمخرج “مايكل سارونسكي”، أما اليوم فإننا نناقش فيلم “البشر” (The Humans)، وهو العمل السينمائي الأول للمخرج “ستيفان كارام”.

“ستيفان كارام” لديه فكرة مركبة عن الإنسان والعلاقات الاجتماعية، وهي فكرة جرى تقديمها بصورة متميزة في فيلم “البشر”، لكن قبل الحديث عن فكرة “كارام” عن الإنسان والعلاقات الاجتماعية، فإنه من المهم أن نوضح نوع الفيلم والأسلوب الذي اختاره في الحكاية، لأنهما عنصران مباشران في فكرته عن الإنسان.

قُدّم الفيلم وعرض في صالات السينما بوصفه فيلم “دراما”، لكن كثيرا ممن شاهدوه خرجوا منه قائلين إنه في الواقع فيلم “رعب”. كيف فعلها “كارام” إذن؟

من البيئة الطبيعة إلى إطارات السينما.. قصة من عالم المسرح

من المهم أن نسلط الضوء أولا على الفارق الفني بين المسرحية والفيلم، إذ أن واحدة من التفصيلات شديدة الأهمية في حالة هذا الفيلم هي أنه أصلا مسرحية من كتابة وإخراج “كارام” نفسه، وأهمية هذه المعلومة تكمن في أن الانتقال من المسرح إلى السينما ليس أمرا مباشرا، وذلك لأن الأدوات المستخدمة في كل منهما تختلف اختلافا يبدو بسيطا، لكنه في واقع الأمر كفيل بتغيير كل شيء.

المسرح هو نوع من المباني قبل أن يكون أي شيء آخر، وما يعنيه هذا هو أننا في المسرح نشاهد الممثلين في بيئة طبيعية ثلاثية الأبعاد كتلك التي نعيش فيها، لكن الفيلم السينمائي يقدم إطارا ثنائي الأبعاد. لتوضيح الفارق ببساطة يمكنك النظر إلى أي من الصور المرفقة في هذا المقال، فالصورة الجيدة تكون فيها علاقة واضحة بين محتوى الصورة وبين حدود الصورة نفسها، أي أن هذه الحدود أو هذا الإطار هو جزء من الصورة.

جينكيز ويون، الأب وصديق ابنته، يتشاركان لحظة اجتماعية محرجة لكل منهما

يترتب على ما سبق أن الفيلم الجيد يتطلب بالإضافة إلى التمثيل قدرة عالية على اختيار الإطارات المناسبة لكل مشهد وكل فكرة وكل شعور في الفيلم، لذلك فإن المهارة في التأطير هي واحدة من أهم المهارات التي ينبغي أن يمتلكها المخرج السينمائي.

يبقى السؤال هنا هو هل نجح “كارام” في نقل قصته من المسرح إلى السينما؟ والإجابة هي لا، لم ينقل “كارام” قصته إلى السينما فقط، بل طورها وأضفى عليها أبعادا جديدة.

دراما عائلية بثوب أفلام الرعب.. أبعاد الفيلم الذكية

ذكرنا أن كثيرين ممن شاهدوا الفيلم خرجوا منه قائلين إنه فيلم رعب، وعنصر الرعب هو البُعد الجديد الذي أضفاه “كارام” على قصته، إذ نلاحظ أن هناك فارقا كبيرا بين أجواء المسرحية التي تميل أحداثها في كثير من الأحيان إلى الكوميديا، وبين أجواء الفيلم التي ما زالت تحوي الكوميديا في كثير من أجزائها، لكن بدرجة أقل كثيرا لصالح البعد الجديد الذي أضفاه “كارام” وهو الرعب.

لكن الفيلم لا يقدم بوصفه فيلم رعب، لأن الرعب في الفيلم لا يقدم بصورته التقليدية، فالرعب في فيلم “البشر” يذكرنا بفيلم “جرائم وجنح” (Crimes and Misdemeanors) للمخرج “وودي آلان”، إذ يقدم في هذا الفيلم قصة مجرم يفلت بجريمته، والفيلم مُصنف بوصفه فيلما دراميا وكوميديا، لكن “آلان” يقول إن لديه نية أخرى، ويستطيع بمهاراته المعروفة أن يضع المشاهد في حالة رعب من عدم تحقق العدالة طوال أحداث الفيلم.

كذلك هو الأمر في حالة فيلم “البشر” الذي يقدم الرعب من خلال الكشف عن دواخل الأبطال، وما يوضح لنا تماما أن “كارام” كان متعمدا خلق مناخ من الرعب في فيلمه؛ هو أنه استخدم بعض أدوات أفلام الرعب.

على سبيل المثال يقدم “كارام” صورة مظلمة بعض الشيء، ومع اندماج الممثلين في الحوار يحدث صوت قوي مفاجئ ليثير الرعب في قلوب شخصيات الفيلم والمشاهدين على حد السواء، لكننا ندرك بعد ذلك أن هذا الصوت هو شيء ما سقط على الأرض في الشقة المجاورة، أو شيء عادي تقليدي يحدث بصورة يومية في حياتنا اليومية.

إن “كارام” يقدم لنا دراما عائلية تقليدية ترتدي عباءة أفلام الرعب.

شقة منهاتن.. بطل جديد يعكس شخصيات الفيلم

هناك عنصر آخر أضيف إلى الفيلم ربما يكون وصفه بالبطل الجديد فيه شيء من المبالغة، فهذا البطل كان موجودا بالفعل، لكن دوره لم يكن بنفس الحجم الذي ظهر عليه في الفيلم. لكي نوضح هذا البطل ودوره لا بد أن نشرح ما الذي يحدث في الفيلم.

تدور أحداث الفيلم في شقة من طابقين تقع في الحي الصيني من منهاتن في مدينة نيويورك الأمريكية، حيث انتقلت “بريدجيد” وصديقها “ريتشارد” إلى هذه الشقة مؤخرا، وتحاول “بريدجيد” تحقيق حلمها في أن تكون مطربة.

في مساء “عيد الشكر” تحضر أسرة “بريدجيد” لزيارتها والاحتفال بعيد الشكر وتهنئتها على الانتقال إلى الشقة الجديدة. تتكون الأسرة من أب وأم وأخت وجدة، وتعاني هذه الجدة من الخرف، لذلك يبدو وجودها رمزيا بصورة كبيرة، حيث تساهم في تحريك الأحداث دون أن تشتبك معها بشكل مباشر. ليست الجدة هي البطل الجديد الذي نتحدث عنه، لكن الشقة نفسها.

غياب مصادر الإضاءة عن الشقة الجديدة التي لم يكتمل فرشها بعد

لقد برع “كارام” في اختيار موقع التصوير وفي دمجه في القصة بحيث لا يكون خلفية للأحداث فحسب، بل أن يشارك فيها.

تقع الشقة في الحي الصيني في منهاتن، وهو ما يجعل موقعها قريبا من موقع برجي التجارة العالمية، وهما البرجان اللذان هدما تحت وطأة هجمات الحادي عشر من سبتمر/أيلول عام 2001.

لا تبدو هذه مشكلة كبيرة، فمن المتفهم أنه حدث تاريخي، أو شيء ما حدث في الماضي، ولا يعني حدوثه أنه سيحدث ثانية، وإن حدث فلا يعني هذا أنه سيحدث بنفس الكيفية، لكن قلق الأب على ابنته لا يبحث عن المنطق، بل يستخدم أي معطيات كي تكون مسوغا لشعوره.

يذكر الأب أيضا أن هذه المنطقة غرقت تحت تأثير فيضان من قبل، ولا يتوقف عن ذكر ذلك مرة واحدة، بل يعيد تكرار قلقه من الموقع. وبمرور الوقت والملاحظات المختلفة من أفراد العائلة، نفهم أن الشقة ليست مجرد مسرح للأحداث، بل هي في واقع الأمر انعكاس لشخصيات الفيلم المختلفة.

اهتراء الأمعاء والمواسير.. أبعاد شخصية ليست في المسرحية

سنعلم بعد فترة غير طويلة من بداية الفيلم أن “إيمي” أخت “بريدجيد” (الممثلة إيمي شومر) مصابة بمرض التهابي مزمن في أمعائها، وهو مرض له عدد كبير من المضاعفات الخطيرة التي قد تودي بحياتها، والتدخل الوحيد الممكن يتطلب عملية جراحية لإزالة الأمعاء. تستخدم “إيمي” المرحاض، وهو أمر يسبب لها الكثير من الألم والمشكلات بسبب مرضها.

ومع نهاية هذا المشهد ينتقل “كارام” إلى مشهد آخر، لكن ما يوضح بصورة كبيرة دور الشقة في التأكيد على مشاعر الأبطال ليس المشهد نفسه، بل المشاهد الانتقالية بين كل مشهدين.

المشهد الانتقالي الذي يعرض لما تمر به إيمي في أمعائها من خلال إلى الإشارة إلى الشقة نفسها

تنتقل الكاميرا من الدور الأعلى حيث المرحاض، إلى الدور السفلي حيث يقف الوالد مع صديق ابنته، ويحدث هذه الانتقال من خلال تتبع مواسير الصرف والتغذية الخاصة بالمبنى، والتي يظهر عليها القدم والاهتراء، ومن ثم يحدث تسرب للسوائل خارجها في إشارة مباشرة إلى أمعاء “إيمي”.

لقد استخدم “كارام” أدواته الجديدة في عالم السينما كي يقدم بطلا جديدا إلى الشاشة لم يتمكن من أن يحظى بدور البطولة في العمل المسرحي.

“إيمي شومر” و”جاين هوديشيل”.. مفاجأة الأداء المميز

يبقى لنا أن نتساءل: هل تغني الصورة عن الأداء التمثيلي؟

بصورة شخصية أرى أن إجابة هذا السؤال هي نعم. فهناك كثير من الأعمال الجيدة لمخرجين مميزين تجاوزوا الأداء التمثيلي السيئ للممثلين من خلال استخدام وسائط أخرى للتعبير عن فكرتهم، تماما كما هو الحال في حالة التعبير عن مرض “إيمي” باستخدام نظام الصرف والتغذية الخاص بالمبنى.

هذه المقدمة ليست تمهيدا لنقول إن ما ينقص الفيلم في الأداء التمثيلي تعوّضه الصورة، بل العكس تماما. فهذا الفيلم الذي تميز بصورة قوية يتميز أيضا بأداء تمثيلي ممتاز، إذ يحوي فريق الممثلين المحدود على عدد من الممثلين المميزين مثل الممثل الشهير “ريتشارد جينكينز” الذي ترشح لجائزتي أوسكار، وله سجل حافل بالأفلام المميزة مثل فيلم “الزائر” (The Visitor).

إضافة إلى “جينكينز” هناك أيضا الممثل الكوري الكندي اللامع “ستيفن يون” الذي ترشح من قبل أيضا لجائزة الأوسكار عن فيلمه “ميناري” (Minari). لكن الشخصيتين اللتين أفضل لفت النظر لهما هما “إيمي شومر” و”جاين هوديشيل”.

لست من متابعي “إيمي شومر” ولا أحب أعمالها التي عادة ما تميزت بطابع منفر بالنسبة لي على الأقل، ولم أعلم قبل مشاهدة الفيلم أنها ستشارك فيه، لأنها لا تشارك عادة في هذا النوع من الأفلام. لهذا السبب فإن رؤيتها كانت لحظة دهشة كبيرة لي في واقع الأمر، بل إنني أوقفت الفيلم لأتأكد من أنها هي بالفعل، لكن لحظة الدهشة هذه لم تنته، بل استمرت لتشمل كامل مدة عرض الفيلم تقريبا، فقد قدمت “إيمي” واحدا من أفضل أدوارها على الإطلاق، بل يمكنني القول بكثير من الثقة إنه الأفضل بالتأكيد.

الممثل الكوري الكندي اللامع “ستيفن يون” مع “بريدجيد” التي تحلم بأن تكون مطربة

على الجانب الآخر نشاهد “جاين هوديشيل” أيضا في دور الأم “دييردري”، لكن بخلاف جميع الآخرين فقد شاركت “جين” في المسرحية، وعلى الرغم من اختلاف الجو العام للعملين، فإن “جاين” استطاعت أن تطوّع مهاراتها بصورة ممتازة كي تناسب مناخ الفيلم الأكثر إظلاما واكتئابا من المسرحية، ويمكن أن نقول إن “جاين” هي الجندي المجهول في الفيلم، فهي محاطة بعدد غير هيّن من الممثلين الأكثر شهرة، بينما تؤدي هي واحدا من أهم أدوار الفيلم.

“الجحيم هو الآخر”.. أجواء النقد العائلي الممزوج بالحب

أظن أن الوقت قد حان لمناقشة السؤال الأساسي لهذا المقال، ما هي رؤية “كارام” للإنسان؟

هناك عبارة شهيرة للفيلسوف “سارتر” وهي “الجحيم هو الآخر”، إلا أنها ليست له في الواقع، بل استلهمها عن مسرحية، وفي رأيي أنها تعبر عن جانب كبير من فكرة الفيلم.

المقولة جاءت في مسرحية “الأبواب المغلقة” التي تحكي عن ثلاثة أشخاص في الجحيم ينتظرون معا في غرفة مغلقة حضور الجلّاد كي يبدأ بتعذيبهم. طال وقت الانتظار دون أن يأتي أحد، وهو ما دفع الثلاثة إلى التحدث والتعارف فيما بينهم، لكن هذا التعارف الذي يعتبر بداية لعلاقة حميمية تجمع ثلاثة أشخاص ومصيرهم المشترك يحمل في طياته أيضا بُعدا آخر، فكل شخص يتعرف على الآخر من خلال نفسه وتحليله الشخصي، ومن ثم تظهر الخلافات الناتجة عن حكم كل منهما على الآخر، لكن غياب الجلاد لفترات أطول دفع كلا منهم إلى الشك في أن الجلاد متخفٍّ، وهو في واقع الأمر واحد من الآخرين، حتى يقول أحدهم ساخرا “إذن هذا هو الجحيم، إنه ليس النار والحطب والحرق.. إنه الآخرون”.

لا يحتاج الأمر إلى الكثير من الخيال، فعادة ما تكون التجمعات العائلية مليئة بالعتاب والنقد والكثير من عدم الراحة في التواصل، وهي ليست فكرة جديدة على الإطلاق، لكن “كارام” لا يكتفي بالإشارة بهذا البعد من العلاقات الإنسانية العائلية.

يقوم “كارام” في نص الفيلم بمزج الحديث الناقد ونظرات العتاب وربما الغضب، مع مواقف الدعم غير المشروط والحب المتبادل ونظرات التعلق بين كل أفراد العائلة.

يقول الفيلم بوضوح إن لكل إنسان مشكلاته، وإن الضغط النفسي لصعوبات الحياة لا يأتي فقط من مشاكل مادية، لكن أيضا من الخوف من حكم من نحب على شخصنا، لكن كل هذا هو جزء من علاقة أكبر، وهي علاقة أساسها الحب والتقبل والاحتواء والقلق لأمر الآخرين، فنحن نتألم بسبب الآخرين وبسبب غيابهم أيضا، وهو ما يشارك في التعبير عنه بكفاءة غير عادية نص الفيلم وأداء الممثلين.

لقد أعلن “ستيفن كارام” بهذا الفيلم عن ميلاد مخرج جديد لا يمكن تجاهله، ومن المؤكد أننا سنكون في انتظار أعماله القادمة على أحر من الجمر.