“أشقاؤنا”.. عودة إلى جرائم قتل الشرطة الفرنسية للشباب الجزائريين

في الخامس من ديسمبر/كانون الأول عام 1986 ألقى رجال الفرقة الخاصة في الشرطة الفرنسية المكونة من راكبي الدراجات النارية القبض على شاب فرنسي من أصول جزائرية كان يسير في الحي اللاتيني، وذلك بالقرب من مظاهرة لطلاب الجامعة لم يكن مشاركا فيها، وكان المتظاهرون يحتجون على مشروع قانون “دوفاكيه” (نسبة إلى الوزير الذي تبناه) “آلان دوفاكيه”، وقد تعرض الشاب ويدعى مالك أوسكيني بعد القبض عليه للضرب العنيف وهو في قبضة الشرطة، مما أدى إلى موته.

في اليوم التالي مباشرة وفي منطقة أخرى، أطلق رجال الشرطة الباريسية (الذين يرتدون ملابس مدنية) النار على الشاب الجزائري الأصل عبد القادر بن يحيى، فلقي مصرعه على الفور، وكان رجال الشرطة قد أخذوا يتعقبونه من المظاهرة التي كان مشتركا فيها احتجاجا على قانون “دوفاكيه”، إلى أن حاصروه داخل حانة وقتلوه على الفور من دون أي استفزاز من جانبه.

في ذلك الوقت من عام 1986، كانت حكومة الرئيس “جاك شيراك” قد أصدرت هذا القانون الجديد، وأرادت فرض تطبيقه على الجامعات الفرنسية، ويشمل فرض رسوم يجب أن يدفعها الطلاب مقابل الدراسة الجامعية، والتشدد في اختيار الطلاب الذين تقبلهم الجامعات، والتشدد في اختبارات القبول، بالإضافة إلى تشديد قوانين الهجرة. وقد استقر في ضمير الطلاب أن هذا قانون طبقي يتيح الفرصة أمام أبناء الطبقة الثرية لدخول الجامعات، ويحرم أبناء الطبقات الدنيا والمتوسطة.

وبعد موت الشابين من أصول جزائرية اتسعت موجة المظاهرات، وامتدت إلى عموم المدن الفرنسية احتجاجا على سياسة القمع البوليسي والقتل المباشر، والعنصرية الكامنة وراء الحادثين، وفتحت الصحافة ملفات تجاوزات الشرطة، ودور وزير الداخلية في إشعال النيران في المجتمع الفرنسي المتعدد الأعراق.

سرد التاريخ.. طابع روائي في سياق شبه تسجيلي

على خلفية هذه الأحداث، تدور قصة الفيلم الفرنسي الصادر حديثا ” أشقاؤنا” للمخرج الفرنسي الجزائري رشيد بوشارب، وهو صاحب الأفلام التي تتناول أحداث التاريخ الملتبس للعلاقة بين فرنسا والجزائر، ومن أشهرها فيلم “البلديون” أو “أيام المجد” الذي رُشّح لنيل جائزة أفضل فيلم في مسابقة الأوسكار عام 2006.

يغلب على فيلم “أشقاؤنا” طابع أفلام “الدوكيو دراما”، أي رواية الأحداث في سياق شبه تسجيلي، مع ابتكار الكثير من المشاهد التي تدعم رؤية المخرج وتؤكد موقفه، وذلك استنادا إلى شهادات الشهود الذين كانوا طرفا في القضية، مع عدم إغفال الموقف السياسي لمخرج الفيلم.

لكن رغم الموقف الواضح، تتداعى أحداث الفيلم بسلاسة ووضوح، ومن خلال سياق مقنع وموضوعي ومؤثر، مع الابتعاد عن الميلودراما والمبالغات العاطفية التي كان يمكن أن تفسد الفيلم. لذا فإن الفيلم يصل إلى جمهوره المفترض في فرنسا أساسا، والغرب بوجه عام. وقد عرض الفيلم في الدورة الماضية من مهرجان كان السينمائي في قسم العروض الخاصة، واستُقبل بإيجابية.

الممثلان رضا كاتب ولينا خضري في دوري شقيق وشقيقة الضحية مالك أوسكيني

مشاهد تسجيلية.. مقاربة أكثر واقعية لتصوير القصة

يستخدم “بوشارب” الكثير من المشاهد التسجيلية الحقيقية التي صورت لأحداث تلك الفترة، سواء ما كانت تبثه قنوات التلفزة أو محطات الراديو في فرنسا، فهو يمزجها مع المشاهد التي أخرجها واستخدم فيها الممثلين، وعلى رأسهم الجزائري الفرنسي رضا كاتب الذي يقوم بدور شقيق الضحية الأولى مالك الذي يبحث وراء موت شقيقه ولا يتراجع أمام شتى الضغوط مع شقيقته التي تقوم بدورها الممثلة الشابة لينا خضري.

وعلى الجهة الأخرى يقوم الممثل سمير قوصمي بدور إبراهيم والد الضحية الثانية عبد القادر، وهو ميكانيكي مسالم تماما، ورغم هدوئه الكبير فإنه يثور لخبر مقتل ابنه، ويقرر البحث عن الحقيقة مع ابنه الأصغر.

من خلال تداعيات الأحداث نعرف أن الشرطة عثرت مع عبد القادر على نسخة من الإنجيل، لذلك ساد الاعتقاد في البداية بأنه “لبناني” ينتمي إلى حزب الكتائب، وأُعلن هذا في الراديو، لكن يتضح بعد ذلك رغم محاولات الشرطة التغطية على الأمر وإخفاء الجثة أنه جزائري الأصل، وأنه كان يرغب في التحول واعتناق المسيحية دون علم أسرته، والسبب أنه كان يرغب في تحقيق الاندماج بالمجتمع الفرنسي، أي أن يتخلى عن هويته الإسلامية التي تجلب له المشاكل حسب اعتقاده، وأن يصبح فرنسيا كاثوليكيا مثل الغالبية، وهي قضية أخرى تكشفها القضية الأساسية، وتدلل على حجم الضغوط النفسية الشديدة التي يتعرض لها الشباب من أصول مسلمة داخل المجتمع الفرنسي.

“دانييل”.. تداعيات امتعاض الشرطي النبيل

ينتقل الفيلم بين الحادثين من خلال الانتقال بين عائلتي الضحيتين، وكيف حاولتا معرفة الملابسات التي أدت إلى تلك النتيجة المأساوية، لكن اهتمام الفيلم الأساسي يتركز على الضحية الأولى مالك أوسكيني الذي أشعل موته موجة المظاهرات الكبرى التي اجتاحت فرنسا.

أما الجانب الدرامي المبتكر في الفيلم فيتركز على شخصية ضابط الشرطة الفرنسي “دانييل” الذي يقف في المشهد الأول داخل المشرحة العمومية حيث تُحفظ الجثث، وذلك خلال التعرف على جثتي الشابين. ورغم أنه ضابط مخلص يطيع رؤساءه وينفذ التعليمات، فإنه يشعر أيضا بنوع من الغصة في داخله، فهو غير راض عن تلك الممارسات التي تتناقض مع ما تعلمه من الخضوع أساسا لحكم القانون. لذلك يضرب عرض الحائط بما أراده رؤساؤه من التستر على موت مالك، ويقوم بإبلاغ أسرة مالك بموته، ويصور الفيلم كيف يتصاعد تدريجيا حجم امتعاضه وشعوره بالرفض للدور الذي يقوم به مرغما.

الممثل آدم عمارة الذي قام بدور “مالك” ويظهر في مشاهد فلاش باك في الفيلم

تعثر الشرطة على ما يفيد بأن مالك كان يعاني من مرض يجعله مضطرا للحصول على الغسيل الكلوي، وتحاول بالتالي استخدام تلك المعلومة في الإيحاء لأجهزة الإعلام بأن موته جاء بناء على الفشل الكلوي، لكن هذه الحيلة تنكشف، فالصحافة لا تبتلع القصة، وتواصل التحري والبحث للوصول إلى الحقيقة.

فرنسا والنازية.. تطابق العنف والاضطهاد والجرائم

يأمر وزير الداخلية -كما نرى في البداية- بتشكيل فرقة من راكبي الدراجات النارية لمطاردة المتظاهرين في الحي اللاتيني واعتقالهم، ويطلق أيدي رجال الشرطة في إطلاق الرصاص الحي عليهم، وهو ما يصوره بوشارب في مقاربة واضحة مع قوات الشرطة النازية وممارساتها القمعية العنصرية، فليس من قبيل المصادفة أن تكون الضحيتان من الشباب المسلم من أصل جزائري يُقتلان في ليلة واحدة تقريبا.

هناك شريط صوت مميز يضيف التوتر ويضفي لمسة من الحزن والألم على مشاهد الفيلم، وهناك تصوير سينمائي يراعي تجسيد الواقعية التسجيلية من خلال توزيع الضوء واستخدام الظلال، بل والصور الداكنة التي تقترب لونيا من الأبيض والأسود.

يتميز الفيلم أيضا بالانتقال السلس بين المشاهد واللقطات من خلال الإيقاع السريع، وفي توازن دقيق بين الأطراف المختلفة للقصة، وانتقال مستمر بين التسجيلي والتمثيلي، والاستخدام الجيد للمشاهد المصورة للاشتباكات العنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، والتي تجعل للفيلم جاذبية خاصة كونه أيضا أقرب إلى شكل التحقيق الصحفي التلفزيوني (ريبورتاج) مع بعض الإضافات الخاصة والملامح المميزة للشخصيات المختلفة التي نراها.

ولا شك في أن الفيلم مصنوع أساسا بدافع الحماس الشخصي لمخرجه (وهو أيضا منتجه)، ورغبته في تسليط الضوء على بقعة أخرى سوداء في التاريخ الفرنسي الحديث، في تلك العلاقة الملتبسة بين فرنسا والجزائر، وفي الوقت نفسه لفت الأنظار إلى التجاوزات الخطيرة التي ترتكبها الشرطة، والتي برزت خلال السنوات الأخيرة في بلدان كثيرة في العالم الغربي، وأدت إلى الكثير من التداعيات في علاقة الناس مع الشرطة في تلك المجتمعات. ولعل هذا يتضح أكثر ما يتضح في الولايات المتحدة الأمريكية.