“قبل أن ننسى”.. رحلة بائسة بحثا عن كنز مدفون في الصحراء السعودية

بعد أن حاصرته الديون من كل جهة، وانفصلت عنه خطيبته، وهدده الدائنون بالسجن، لم يجد طريقة سوى أن يصدق قصة والده المصاب بالزهايمر، حين أخبره بأنه دفن كنزا في مزرعته بالصحراء في السنوات الغابرة، لهذا انطلق إلى بيتهم القديم وبدأ رحلة البحث اليائسة، فهل سيعثر على هذا الكنز المدفون وينتهي من كوابيس الديون؟

نواف الجناحي.. رهان سينمائي على جمهور غير نخبوي

اعتمد المخرج نواف الجناحي في الفيلم السعودي “قبل أن ننسى” (2021) على طريقة السرد الكلاسيكية، وقد وفّر له هذا المنطلق عددا من الخيارات الفنية الجاهزة والمضمونة ضمن من خلالها سلاسة في عملية الحكي، وتدرج في زرع الإثارة والتشويق عن طريق محاصرة البطل أو الشخصية الأساسية بعدد من الأزمات بشكل مبكر، وذلك لتقييد المتلقي بشروط المشاهدة وشدّه لتتبع تفاصيل القصة، وقد نجح في هذا المعطى وذهب به إلى أقصى حد، أي إلى غاية نهاية الفيلم.

من هنا يكون المخرج الجناحي -الذي كتب سيناريو العمل بالتعاون مع “رون تومسون”- قد راهن على القالب الشكلي الموجود، ولم يرهق نفسه أو الفريق الذي معه بالتجريب والذهاب صوب المغامرة الإخراجية المتلاعبة التي تكون عادة محفوفة بالأخطار، أي أنه راهن على جمهور عريض في عملية تلقي الفيلم، بدل الجمهور النخبوي الذي يبحث دائما عن المعالجات المختلفة والصيغ غير التقليدية حتى ترضي ذائقته، إضافة إلى تركيزه بشكل كبير على مضامين القصة وإفرازاتها المختلفة، ليصل بها إلى قيمة أخلاقية وفكرية ومجتمعية معينة.

محمد.. بحث عن بصيص أمل وسط حديقة مهجورة

تتمحور قصة فيلم “قبل أن ننسى” حول شخصية محمد (الممثل مشعل المطيري) الذي يعمل طبيب تأهيل حركي، لكن تشاء الظروف أن يمر بأزمة مالية في غاية الصعوبة، بداية من المقاول فهد الذي كلّفه بترميم وتهيئة عيادته، وقد قدم له “شيكا” تبين لاحقا بأنه بدون رصيد، إضافة إلى ابنه عمر (الممثل غازي حمد) الذي كان بحاجة ماسّة إلى غلاف مالي لشراء محل تجاري كان يحلم به، عدا عن أتعاب الخادمة الأجنبية التي تسهر عليهم في البيت، إضافة إلى مشاكل مالية أخرى.

وقد نتجت عن هذا الوضع مشاكل أخرى مرتبطة، إذ تخلّت عنه خطيبته، وقام المقاول بتهديده، لأنه قدم له “شيكا” بدون رصيد، لهذا طالب بمضاعفة المبلغ، إضافة إلى الرعاية الخاصة والصحية التي كان يوليها لوالده (الممثل إبراهيم الحساوي) الذي يعاني من مرض الزهايمر.

الأب والابن والحفيد في طريقهم لبيت المزرعة من أجل البحث عن الكنز

قدّم المخرج وكاتب السيناريو نواف الجناحي هذه المعطيات في الثلث الأول من الفيلم، مما جعل البطل الرئيسي شخصية متأزمة ومحاصرة من كل الجهات، تبحث عن قشة لتتشبث بها وسط بحار المشاكل المتلاطمة التي أرهقته كثيرا، ليجد الأمل في والده المريض الذي أخبره بأنه دفن مبلغا من المال وسط حديقة مزرعته المهجورة.

في البداية لم يصدق الأمر ولم يأخذه بجدية، لكنه اقتنع بضرورة المحاولة، لهذا أقنع ابنه عمر وسافر الثلاثة إلى المزرعة، وهناك تبدأ مغامرة أخرى تعكسها العودة إلى حكايات الماضي والأهل، والحنين إلى أجواء الجدة التي كانت تملأ البيت بحضورها، والجنوح إلى الفضاءات الهادئة التي تزرع السكينة في القلوب، ليكون هذا الفضاء من الأماكن المهمة التي تسافر بالشخصيات إلى الماضي، وتفتح أمام كل فرد منهم مقارنة حتى يفهم حياته كما ينبغي، لكي يصلح العطب الذي أصابها وفق سياق معين.

“أثر الفراشة”.. معادلة لإصلاح أعطاب الجد والأب والحفيد

استطاع المخرج نواف الجناحي في فيلمه “قبل أن ننسى” أن يفكك العلاقات التي تجمع الأب بابنه من جهة، والأب ووالده من جهة ثانية، والحفيد والجد من جهة ثالثة، وكأن المخرج يحاول أن يقول بطريقة أخرى إن المشاكل إذا لم تحل في وقتها بطريقة ما فإنه سيأتي اليوم الذي تتجدد فيه، وتنهض بطريقة أخرى، والعطب الذي أصاب الجد يمكن أن يصيب الأب ويصيب الحفيد أيضا، وذلك انطلاقا من معادلة “أثر الفراشة”، لهذا حاول أن يجمعهم في فضاء واحد -وهو المزرعة- حتى يذهب كل فرد إلى أعماقه، كي يرى الصورة المقربة لأخطائه، ليعرفها ويعرف أسبابها، وبالتالي يقوم بحلها.

بالنسبة إلى محمد فإن مشكلته الرئيسية بدأت عندما سحب مبلغا ماليا من رصيد والده، فقد استغل مرضه وأمضاه على ورقة التوكيل، وحين اشترى أسهما بتلك الأموال خسرها بعد فترة وجيزة. من هنا بدأت خساراته الشخصية تتوالى، فقد عرف بأن مركز العطب هو قيامه بفعل غير أخلاقي، لهذا صارح والده بهذا وقام بتصليح العطب، وفي الوقت نفسه تصالح مع ابنه عمر.

من هنا بدأت عقدة الفيلم في الحل، لكن في النهاية ظهرت مشاكل المقاول الذي لحقهم وهددهم بالسلاح وأخذ حقيبة المال، وبالتالي حُلَّت عقدة محمد، لكن حلم عمر أُجهض، ليتبين في آخر المطاف بأن الوالد المريض بالزهايمر أخفى مبلغا في حقيبة دوائه، وبالتالي حُلَّت مشاكل عمر. ليأتي الانفراج في القصة، ويكتمل الفيلم بنهاية سعيدة تزرع الأمل في كل من تراكمت عليه المشاكل وظن بأنها لن تُحل.

غياب القصص الثانوية.. إرهاق الشخصيات والإطناب والحشو

غياب القصص الثانوية أو الأحداث الجانبية ساهم بشكل كبير في إرهاق القصة الرئيسية للفيلم، وهو ما أرهق الشخصيات وجعلها تسقط في نفس الملامح أو الانفعالات في عدد من المشاهد، وتلك انفعالات كان من المفترض تغييرها مع كل حالة شعورية جديدة.

وقد خلق هذا الأمر بعض الإطناب والحشو والتكرار، مثل المشهد الذي شرح فيه محمد لابنه عمر مشاكله مع المقاول فهد، فهذا المشهد مثلا لم يكن هناك أي ضرورة لوجوده، وكان يكفي أن يقول محمد جملة واحدة أو كلمة فقط ويقطع من خلالها المشهد، لأن المتلقي عليم بكل التفاصيل.

إضافة إلى وجود المقاول فهد في عدة مشاهد من الفيلم، وهو أمر لا يضيف أي تفسير درامي يخدم الأحداث، وقد حاول المخرج أن يفسر هذا بحجة جهاز التتبع الذي وضعه في السيارة، لكنها حجة غير مقنعة وضعيفة.

مخرج الفيلم السعودي “قبل أن ننسى” نواف الجناحي وهو مخرج إماراتي من أصول مصرية

وهناك مشاهد أخرى لم يكن لوجودها أي داع، وكل هذا جاء على خلفية الصوت الواحد في السيناريو، وتقلص الفضاءات وانحصارها في أماكن محدودة، وعدم استغلال فضاء المزرعة والصحراء كما ينبغي، فلو تفطن المخرج وتوسع في السيناريو لخلق علاقة بين عمر وفتاة، حيث يظهر أحلامهما وكوابيسهما ومعنى أن يكون لهما مشروع مشترك مثلا، وفي الوقت نفسه كان للمرأة أن تترك أثرا جميلا في الفيلم، وأن توسع من رقعة المشاهدة.

جودة الأداء وإطارات الصورة وآهات الموسيقى.. جماليات الفيلم

انعكست في فيلم “قبل أن ننسى” عدد من الجماليات رغم وجود بعض الهنات في السيناريو، من بينها عملية التصوير وضبط الإطارات (طارق حنفي وفوكس بولر)، فقد جاءت معظم المشاهد نقية ومتوازنة ومتفاعلة مع الشخصيات، إضافة إلى الموسيقى التصويرية (طه العجمي) التي فهمت أبعاد وآهات الشخصيات وقصة الفيلم، لهذا جاءت منسجمة إلى أبعد حد معها، ومدّت جسر تواصل قويا بينها وبين المشاهد.

أما عن أهم العناصر التي شكّلت هوية الفيلم الفنية وجعلته صامدا ومقبولا عند المتلقي بشكل عام فهو التمثيل أو تجارب الأداء (الكاستينغ)، خاصة الجهد الكبير الذي أظهره الممثل السعودي إبراهيم الحساوي الذي ما زال يثبت في كل مرة أنه ممثل مقتدر يجب فقط استخراج ما فيه من قوة تمثيلية، وقد عكسها في الفيلم، لهذا جاء دوره مقنعا ومشبعا بالتفاصيل، إذ أظهر مدى تنقله من انفعال إلى آخر، ومن حالة إلى حالة، ونقل بدرجة كبيرة شعور مرضى الزهايمر عن طريق رسم براءة السؤال المكرر، وقد نال عن هذا الدور جائزة النخلة الذهبية لأحسن ممثل في الدورة الثامنة لمهرجان أفلام السعودية (من 2 إلى 9 يونيو/حزيران 2022).

فيلم “قبل أن ننسى” يبشر بمستقبل مشرق للسينما السعودية، والدليل أن معظم كوادر الفيلم من الخليجيين، مع الاستعانة ببعض الأجانب لنقل الخبرة المناسبة، وهي آلية ستساهم مع الوقت في تطوير هذه الصناعة في الخليج والعالم العربي بشكل عام.