“العنكبوت المقدس”.. غارق في الخطيئة يطهر المدينة من النساء الآثمات

ما بين عامي 2000-2001 اهتزت مدينة مشهد الإيرانية لسلسلة جرائم استهدفت عاملات الجنس في المدينة، وقد وصل عدد الجثث المُكتشفة 16 جثة، كانت كل الدلائل تُشير لكون المجرم شخصا واحدا بسبب النمط المتكرر في القتل وتشابه نوعية الضحايا، إذ تُخنق الضحايا بحجابهن.

انتشار الجرائم جعل المجتمع الشيعي لمدينة مشهد يتعاطف مع المجرم ويلقى دعمهم لكونه ينظف مدينة مشهد المركز الروحي للمسلمين الشيعة من الفساد، ولقبوه بالعنكبوت المقدس الذي ينشر شبكته لاصطياد الخطيئة وتنظيف المدينة من الدنس.

في سنة 2002 نشرت جريدة نيويورك تايمز تقريرا بخصوص الجرائم المتكررة، وفيه تصف تفاصيل اعتقال “العنكبوت المقدس” بعد أكثر من عامين من العثور على أول جثة لامرأة مخنوقة. وتكهن كاتب التقرير بأن الشرطة التي يسيطر عليها المتشددون الدينيون، كانت متساهلة عن عمد في اعتقال المجرم، لأن الضحايا كانوا من منبوذي المجتمع.

سعيد حنائي لحظة اعتقاله من طرف الأمن الإيراني

سعيد حنائي.. متشدد يُلهم صناعة السينما المحلية

عندما انتهى الجفاف وهطلت الأمطار، ظن سعيد حنائي أنها علامة من الله أن عمليات القتل التي يقوم بها قد نالت استحسانا إلهيا، هذا ما قاله سفاح مدينة مشهد لنفسه بعد مقتل 12 عاملة جنس على يده، فقرر مواصلة عمله وخنق ما لا يقل عن أربع نساء أخريات بعد إغرائهن واستدراجهن لمنزله، قبل توقيفه من طرف فرقة خاصة أُرسلت من طهران.

قال العنكبوت المقدس في محاكمته إن قتل النساء كان فريضة دينية، وأنه كان يقدم على القتل دون أن يعتريه أي شعور بالخوف، كأنه يقطف البطيخ الأصفر، وإذا أُطلق سراحه فسيعود للقتل لأنه ينوي قتل 150 امرأة.

مشهد من فيلم “عنكبوت مقدس” لإحدى ضحايا سعيد بعد خنقها

بعد انتشار خبر القاتل بين ممتهنات الدعارة، قبض على السفاح، حين اشتبهت ضحيته بأنه هو القاتل، فتمكنت من لكمه والهرب، وأبلغت عن الحادث بعد أيام قليلة، بعد تغلبها على الخوف من عواقب الاعتراف بمهنتها أمام الشرطة.

تناقضات مشهد.. مدينة دينية يغرقها الفساد والدعارة

بعد اعتقال سعيد حنائي، أطلق المتشددون حملة لدعمه بحجة أنه حاول تنظيف البلاد من الفساد وتطوع الناس لتوكيل محام للدفاع عنه، لكن حُكم على المتهم بالإعدام بتهمة السرقة والكذب وارتكاب الزنا والقتل.

تجمع مدينة مشهد كثيرا من التناقض، يتجلى في كونها مدينة دينية تتفشى فيها الدعارة والفساد، ولكون السفاح شخصا متدينا ومنحرفا قاتلا في نفس الوقت، وقد نجح هذا التناقض في إلهام صناع السينما لتوثيق هذه القصة في أفلام ووثائقيات تحكي عن العنكبوت المقدس.

فقد أُنتجت عنه وثائقيات مثل وثائقي ” وحش مشهد” ووثائقي ” وجاء العنكبوت” وفيلم ” العنكبوت” وآخر فيلم وأكثرهم جرأة في طرح القضية، فيلم “عنكبوت مقدس” للمخرج الإيراني الدانماركي علي عباسي، الذي لاقى فيلمه اعتراضا شديدا من السلطات الإيرانية فور صدور العرض التشويقي للفيلم.

أميرة إبراهيمي.. تهديدات بالقتل لأفضل ممثلة في المهرجان

بحسب الفيلم، تنتقل صحفية إيرانية تُدعى رحيمي لتتبع فصول الجريمة وتتسبب في إلقاء القبض على المجرم، وتلعب دورها الممثلة الإيرانية أميرة إبراهيمي التي فازت بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان نسخة 2022 عن دورها في الفيلم.

اعتبرت السلطات الإيرانية الفيلم إهانة لمكان مقدس هو مرقد الإمام علي بن موسى الرضا ولملايين الشيعة. ووصفته بأنه يُقدم صورة مغلوطة ومظلمة للمجتمع الإيراني.

 

مخرج الفيلم علي عباسي رفقة الممثلة أميرة ابراهيم والممثل مهدي باجيستاني على هامش مهرجان كان

هذا الرفض الرسمي الإيراني للفيلم لم يصدر عند عرض الفيلم لأول مرة، بل بدأ منذ تقديم المخرج طلبا للجنة القبول والمراجعة الإيرانية عام 2019 طلب تصوير للفيلم في إيران، لكنه تلقى رفضا حال دون تصوير الفيلم، فقرر تصويره في الأردن.

تعرضت الممثلة أميرة إبراهيمي لموجة غضب حيث أعلنت عن تلقيها نحو 200 رسالة تهديد بالقتل، كما أنها قد تعرضت من قبل لضغوطات جعلتها تهرب من إيران قبل 14 سنة، بسبب تسريب مشهد فيديو فاضح لها تقول إنه مفبرك.

شبكة العنكبوت.. حواجز السلطوية الاجتماعية في إيران

اندلاع الاحتجاجات منذ سبتمبر الماضي في إيران بسبب قضية مقتل الشابة “مهسا أميني” على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، قدم سياقا جديدا لقراءة ومشاهدة فيلم “عنكبوت مقدس”، فرغم أنه قد يبدو في البداية فيلم إثارة وغموض مقتبسا عن قصة حقيقية، فإنه يتحول ليصبح عبارة عن قراءة للتاريخ الاجتماعي لإيران.

الصحفية رحيمي التي تحاول الوصول للسفاح وسط تقاعس من الشرطة المحلية

فاختيارات المخرج وتغيير تفاصيل القصة الواقعية، تبدو أكثر من مجرد إضافات سردية، بل توثيقا لأدوات صناعة كراهية النساء داخل المجتمع الإيراني، بداية بالتحرش الذي تتعرض له الصحفية من طرف مشغلها وضابط الأمن، والترخيص لكراهية عاملات الجنس، كل ذلك يمثل خطاب كراهية يُنتج بين رجال الدين والقضاء، ويتلقاه المجتمع بصدر رحب، ويخرج للاحتجاج بعد صدور الأحكام رفضا لإعدام العنكبوت المقدس.

حاول المخرج علي عباسي في فيلمه أن ينزاح قليلا عن القصة الأساسية لسفاح مدينة مشهد، وجعل فيلمه صرخة نسائية لواقع حقوق المرأة في إيران، انطلاقا من الصحفية رحيمي التي تلعب دور البطولة، فقد منحها فرصة الانتقام من معاناتها داخل الفيلم عبر جعلها السبب الرئيسي في اعتقال السفاح، هل حاول المخرج تزوير الحقائق؟

حين نعود للقصة الحقيقية نجد أنه بالفعل توجد صحفية لعبت دورا محوريا في قصة السفاح، وهي الصحفية الإيرانية رؤية كريمي التي قامت بتسجيل عدة حوارات مع سعيد حنائي المجرم الحقيقي، وقد كانت سببا في اكتشاف دوافعه الدينية للقتل.

صورة الشيطان.. لمسات إخراجية تثري الوقائع التاريخية

في هذا النوع من الأفلام التي تُبنى على قصة واقعية، يكون من الصعب على المخرج إبراز لمسته الفنية والتدخل في السيناريو، لأن المُشاهد العادي سيتعامل مع الفيلم بناءً على أنه وثيقة أصلية تحكي عن حدث مُعين.

لكن المخرج علي عباسي نجح في القفز على الشعرة الرقيقة التي تفصل الوثائقي عن المتخيل، ووضع بصمته الإخراجية التي ترينا أننا أمام مخرج إيراني صاعد سيكمل مسار السينما الإيرانية المتألقة. بداية من الاختيارات الموسيقية للموزع الدانماركي “مارتن ديركوف” التي تُدخل المشاهد في أجواء الرعب والترقب.

كما تظهر لمسة المخرج في المشاهد التي يلتقط فيها بطل الفيلم سعيد، لقطات مضيئة من الأسفل تجعله يظهر كشيطان، مشهد له وهو يستنشق رائحة جثة ضحيته، والمشهد الأبرز هو لسعيد متكوّما حول نفسه، في لقطة تذكرنا بفيلم “سائق سيارة الأجرة” (Taxi Driver) لـ”مارتن سكورسيزي” وبطله “ترافيس بيكل” متكوّما مرعوبا في فراشه.

سعيد.. مطهر المدينة الغارق في خطاياه

بينما يحاول سعيد أن يُنظف المدينة من الخطايا، يبدو أنه غارق أيضا في خطاياه، ففي القصة الحقيقية يُقر المجرم بأنه مارس الجنس مع كل ضحاياه قبل قتلهن، هذا الاعتراف شكّل صدمة لكل المتعاطفين المتشددين معه، غير أن المخرج علي عباسي انزاح في فيلمه عن هذه الحقيقة التاريخية، لِيُصور السفاح متدينا مفرطا في تدينه، لا يلامس العاهرات ويتجنب النظر لوجوههن.

يُذكرنا سعيد الحقيقي ببطل فيلم “سائق سيارة الأجرة” في تعامله مع خطايا المدينة، وحملهما معا على عاتقهما تنظيف المدينة من الخطايا، بينما هما غارقان معا في الفساد، كما أنهما معا محاربان قديمان، فسعيد محارب قديم في الجيش الإيراني، و”ترافيس بيكل” جندي أمريكي عائد من الفيتنام.

ذهنية التطهير.. إرث يُتناقل في المجتمع الإيراني

بعد اعتقال المجرم، سارع سكان المدينة لتبرير أفعاله والتكفل بأسرته الفقيرة، هذه المشاهد تؤكد كيف يصنع خطاب الكراهية ضد النساء، وهذا ما حاول المخرج رسمه ولو بمكياج أقسى من الواقع، فالمُشاهد للفيلم قد يعتقد أن عقلية التطهير جزء راسخ في المجتمع الإيراني، بينما المظاهرات المتصدرة للمشهد الإيراني والأخبار التي تصلنا من الشارع هناك تنفي هذه الفكرة حول الإيرانيين، فهل أخطأ المخرج في تصوير المجتمع الإيراني وسوّق لصورة أبشع من الواقع؟

الابن الصغير الذي يقتبس عمل أبيه الإجرامي ويعتز به

ينتهي الفيلم بمشهد قاسٍ ومرعب لابن سعيد الذي يُحاول إعادة تمثيل جرائم أبيه مستعملا في التجسيد أخته الصغرى، هذا المشهد بالرغم من بساطته يُرعب كل من يشاهده، ويزرع الخوف في النفس، ويشرح بأن إعدام المجرم لن يُوقف سلسلة الجرائم ضد النساء، فعلى مدى العشرين سنة بعد اعتقال المجرم اغتصبت وقتلت نساء عدة في إيران.