“احترام”.. أسطورة أعظم الأصوات المدافعة عن السود في أمريكا

فيلم “احترام” (Respect) الذي أنتج عام 2021، هو فيلم روائي يقتبس سيرة الأمريكية ذات الأصل الأفريقي “أريثا لويز فرانكلين” (1942-2018)، وهي مطربة تعد من بين الأكثر تأثيرا في الحياة العامة والفنية الأمريكية في القرن العشرين، وقد لُقبت بملكة الغناء الإنجيلي، ثم بملكة الصول.

رسمت مخرجة الفيلم “ليسل تومي” من خلال فيلمها نموذجا للمرأة التي تدافع بنشاط عن الحقوق المدنية لسود أمريكا، وتنذر فنها للقيم التي تؤمن بها.

عصر الطفولة.. حقبة بائسة حزينة في عائلة ثرية

رغم أن الفيلم يتجاوز ساعتين فإنه لم يكن غير شذرات من حياة “أريثا فرانكلين” الثرية، بداية من طفولتها البائسة رغم نشأتها في عائلة فنية ثرية، فللأب صيت وجاه ومال، فقد كان قسّا معمدانيا بارزا، ثم وسّع من دائرة علاقاته ونفوذه حين انتقل إلى مدينة ديترويت بميشيغان، وتولى منصب راعي كنيسة بيثيل المعمدانية الجديدة، وأشرف على كورالها الإنجيلي، وعقد صلات بأكبر المطربين الذين يرتادون ذلك الفضاء الروحي.

أما الأم فهي عازفة بيانو ومغنية إنجيلية بارعة، ومع ذلك فقد عاشت الطفلة يتما مضاعفا، فسوء العلاقة بين الأبوين جعل الأم تنفصل عن شريكها وتترك له حضانة “ري” وهي في عامها الخامس، فتولت جدتها لوالدها “بيغ ماما راشيل” العناية بها، ثم اختطفتها نوبة قلبية مفاجئة قبل عيد ميلاد “أريثا فرانكلين” العاشر.

تأخذ حياة “ري” منعرجا جديدا حين انضمت إلى جوقة والدها الإنجيلية في كنيسة بيثل المعمدانية الجديدة، بدءا من ترنيمة يسوع “كن سياجا حولي” عندما كانت في عامها الثاني عشر، فقد مثّل التقاؤها بالمطربين اللامعين “شان كلارا وارد” و”جيمس كليفلاند” فرصةً لتطوير موهبتها في الغناء والعناية بصوتها القوي الناعم في الآن نفسه.

يأخذنا الفيلم بعدها إلى مرحلة شبابها، فقد دفعتها الرغبة في النجاح على المستوى الوطني والتحرر من سلطة الأب المحافظ الذي يقف عقبة أمام أحلامها؛ إلى ترك الغناء الروحي والتحوّل إلى الغناء المدني، وترك مدينة ديترويت إلى نيويورك. هناك حصلت على عقود احترافية مهمة مع شركات الإنتاج الكبرى، فكانت تلك الخطوة بداية لمسيرة فنية باهرة رغم العقبات الكثيرة التي واجهتها.

صورة الأسود الناجح.. تسخير الصوت للقضايا العادلة

لخلق مؤثر درامي يجعل الفيلم حياة “أريثا فرانكلين” أكثر إثارة، جعلت المخرجة انفصالها عن والدها وانتقالها إلى نيويورك مع حبيبها ضربا من التمرّد عن سلطته والتحرر من استغلاله المادي، بعد أن فرض نفسه وكيلا لأعمالها رغم كرهه له.

لا يلتزم السيناريو هنا بما يرد في سيرتها، ففيها أن البنت لم تغادر مدينة ديترويت إلا بتشجيع من والدها، فقد أسرّت له حين بلغت 18 عاما برغبتها في ترك الموسيقى الروحية إلى التجارب الغنائية السائدة في الأوساط الفنية، ويُشار إليها بالموسيقى العلمانية أو المدنية لتمييزها عن ترانيم الأناجيل، ورغم أنه لا يُنظر إلى مثل هذا التحوّل بعين الرضا في الأوساط المحافظة، فقد تفهم القس “كلارونس فرانكلين” رغبة ابنته، بل شجعها على ذلك.

وجعلت “أريثا” الانتصار إلى قضايا أبناء جلدتها قضيتها الأولى، بتأثير من تربية والدها الذي كان يأخذها معه إلى عروض “قافلة الإنجيل” في كنائس مختلفة، ثم أتاح لها الانضمام إلى الكورال الكنسي الذي كان ناشطا مدافعا عن حقوق السود المدنية. فقد كانت تدافع عن صورة الأسود الناجح والفنان الروحاني المدافع عن القضايا العادلة وهي تحقّق مجدها الفني، وكانت تعمل على انتزاع إعجاب البيض مُعوّلة على طاقاتها الصوتية المبهرة، فتقطع مع يُلصق به دائما من نزعة إلى العنف والجريمة.

أريثا فرانكلين سخرت صوتها في خدمة قضيتها الأولى في الدفاع عن حقوق السود المدنية

وكانت صلتها بـ”مارتن لوثر كينغ” رمز النضال الأسود عندما كان يقيم في منزل والدها في ديترويت تخول لها الانخراط في النشاط الإنساني على نطاق واسع، وسخرت صوتها للغناء التطوعي في حفلات الجمعيات الحقوقية لتدعيم مواردها.

تطوير الموهبة.. مسيرة المغنية الأعلى تصنيفا في التاريخ

يجسّد الفيلم صورة “أريثا فرانكلين” الفنانة المتكاملة القادرة على أداء ألوان موسيقية مختلفة، بدءا بالغناء الإنجيلي إلى البلوز والجاز والصول، إلى كتابة كلماتها بنفسها وعزف ألحانها على البيانو أثناء الغناء.

ويبرز فضل مرحلة الأناشيد والترانيم الروحية الكبير في صقل موهبتها، فالكورال الإنجيلي الذي يتطلب قدرات صوتية خارقة يطور من قدرات المغني بما ينظّم من حفلات موسيقية على مدار العام، وبما يقدّم للمنشدين من دروس تشرح الفروق الدقيقة بين النغمات، وتساعد على التصرف الجيد في عملية التنفس أثناء أداء الألحان القوية التي تتطلّب طول النفس.

وفي هذه المرحلة أمكن لـ”أريثا” أن تثير إعجاب أعظم مطربي الإنجيل، لا سيما “ماهاليا جاكسون” و”جيمس كليفلاند”، وهما من أشهر من أدى هذه الأغاني في الولايات المتحدة الأمريكية.

وعندما انتقلت إلى نيويورك وجدت في نضجها ودربتها سندا، وسريعا ما أصبحت “النجمة الأنثوية الجديدة”، ثم أخذ صيتها ينتشر عالميا، فأقامت الحفلات الكبرى في فرنسا وأستراليا وكندا. ووفق المعايير الأمريكية التي تستند إلى النجاعة المالية وشباك التذاكر وعدد نسخ الألبومات التي تباع؛ فإنها تعد حتى اليوم المغنية الأعلى تصنيفا في تاريخ صناعة التسجيلات الأمريكية.

مشاهد الغناء وعروض الأزياء.. عرض فني عذب

حرصت المخرجة “ليسل تومي” على عرض مسيرة فنانة استثنائية، وتعريف المتفرّج اليوم المنغمس في المنتج الموسيقي السائد بتراثها الضخم، وإبراز الجسور التي امتدت بين الموسيقى الروحية والموسيقى العلمانية.

وقد حاولت أن تجعل أول عمل سينمائي لها يجمع بين لذة القصّ وعذوبة الموسيقى، فضخمت المنحى الدرامي في سيرة الفنانة، وجعلتها تواجه الهزات العنيفة، بدءا من الانتكاسات الأسرية وصدامها مع والدها المحافظ العنيف الذي يشكّل عقبة تحول دون نجاحها، إلى وقوعها في شرك رجال يُظهرون لها الحب ويُبطنون عنفهم وجشعهم وعملهم على استغلالها، وصولا إلى الإهانات العنصرية، ثم الصدام مع شركات الإنتاج التي تعمل على احتكار صوتها والتحكم في مصيرها.

كما أنها أطالت مشاهد الغناء، واهتمت بعروض الأزياء، وضمنت الفيلم أصداء من “الحارس الشخصي” (Bodyguard) للمخرج “ميك جاكسون” الذي قدّم المطربة “ويتني هوستن” للجمهور العالمي على أفضل وجه.

لقد جعلت هذه الاختيارات المشاهد السينمائية تتحوّل في الأحيان الكثيرة إلى عروض موسيقية محضة، وبدت المخرجة المسرحية والتلفزيونية غير قادرة على مقاومة غواية موسيقى نجمة الصّول التي أدت دورها المطربة “جينيفر هدسون”، وقد اختارت “فرانكلين” بنفسها التي شاركت في الإنتاج حتى وفاتها في عام 2018.

“ألهمتني موسيقاها منذ أن كنت طفلة صغيرة”

لئن نجحت النجمة السمراء في تقمص الشخصية وأداء الأغاني بشكل مباشر، ومحاكاة صوت “أريثا فرانكلين” بتميز، فإن العمل برمّته يكشف انبهار المخرجة الأمريكية الجنوب أفريقية بشخصية “أريثا” وتلذذها الذاتي بعالمها، وحب الشيء يعمي ويصمّ في مثل هذه الحالات، ويجعلنا نضحي بمقومات الإبداع السينمائي، ونحوله إلى عروض موسيقية خالصة.

ويبدو هذا الانبهار جليا في تصريحها وهي تعد للفيلم، إذ تقول: أنا في غاية السعادة بالممثلين الموهوبين الذين جمعناهم لإنجاز فيلمنا، وفخورة جدا بأن تعهد إلينا السيدة “فرانكلين” برواية قصتها وتقاسمها مع العالم، فقصتها هي النوع الذي نحلم جميعا بأن نرويه.

لقد ألهمتني موسيقاها منذ أن كنت طفلة صغيرة، وعلمتنا تفاصيل حياتها وسيرتها المهنية كيف نكافح ونتطور. إن الحصول على هذه المجموعة القوية من الممثلين، والموهبة الهائلة لـ”جنيفر هدسون” في هذا الدور الأيقوني؛ يعني أن لدينا فرصة لجعل هذا الفيلم راقيا مثل حياتها المجيدة وإرثها.

“لدي يا حبيبي كل ما تحتاجه”.. أغنية خالدة تختزل مسيرة عظيمة

اختارت “ليسل تومي” أن يكون “احترام” عنوانا لفيلمها، والعبارة عنوان لأغنية خالدة طبعت مسيرة “أريثا فرانكلين”، نعرض تعريبا لكلمات المقطع الأول منها التي تقول:

يا أنت، ماذا تريد؟
لدي يا حبيبي كل ما تحتاجه
ألا تعلم أني حصلت على كل ما أطلب؟
حتى أنال القليل من الاحترام عندما تعود إلى المنزل، القليل فحسب
مرحبا يا حبيبي، القليل فحسب
حينما تعود إلى المنزل، القليل فحسب
سيدي، القليل فحسب
لن أؤذيك عندما ترحل لا أريد لك ذلك
كل ما أطلبه أن أنال القليل من الاحترام عندما تعود إلى المنزل، القليل فحسب.

والأغنية في الأصل من تأليف الأمريكي “هوتيس ريدينغ”، فقد لحّنها على أنغام موسيقى الصول، وظهرت ضمن ألبومه “أوتيس بلو” في 15 أغسطس/آب عام 1965، ومدار كلماتها على رجل يسأل زوجته قدرا أكبر من الاحترام.

لكن “أريثا فرانكلين” أعادت غناءها عام 1967 بمناسبة عيد الحب، فمنحتها روحا موسيقية جديدة ومعنى جديدا، لكي تتماشى مع النضال النسوي للمساواة مع الرجال التي سادت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فقد تحوّلت إلى نشيد نسوي من ناحية، ورمز لكفاح المجتمع الأفريقي الأمريكي من أجل حريته من ناحية ثانية.

ففيها جعلت المرأة هي التي تطلب الاحترام، وتضحي بالمال من أجل ذلك.

لاقت الأغنية نجاحا لافتا، فاحتلت المرتبة الأولى في قائمة مجلة “رولينغ ستون” لأعظم 500 أغنية في كل العصور عام 2021، بعد أن كانت قد صنّفتها في المرتبة الخامسة في العام 2004، ثم منحتها المخرجة حياة جديدة لما اتخذها عنوانا للفيلم ولسيرة “أريثا فرانكلين”، ففيها الكثير من حياتها، إذ كانت تبحث باستمرار عن الاحترام في عالم رجالي يحاول الهيمنة عليها واستغلال موهبتها، أو في عالم أبيض يهيمن على السود ويرفض الاعتراف بحقوقهم المدنية.

حبكة النص.. فيلم لم يمنح المطربة الاحترام الفني المنشود

كان العنوان اختزالا مميزا لمسيرة “أريثا”، فقد نجحت في جلب الاحترام لفنها، وأسهمت في تغيير الصورة النمطيّة السلبية التي تُلصق ببني جلدتها، وفي الآن نفسه فرضت احترامها على الطبقة السياسية في الولايات المتحدة وتقديرها على رؤسائها.

حصلت “أريثا” على الميدالية الوطنية للفنون في عهد الرئيس “بيل كلينتون”، والميدالية الرئاسية للحرية، وهي أعلى وسام شرف لمواطن أمريكي في عهد الرئيس “جورج دبليو بوشفي” عام 2009، ولعل غناءها في حفل تنصيب “باراك أوباما” أول رئيس أمريكي ذي أصل أفريقي للولايات المتحدة في عام 2010 يمثل أكبر تتويج لمسيرتها، وهي اللقطات التي انتهى عليها الفيلم.

ومقابل نجاح المطربة كان نجاح الفيلم أقل تأكيدا، فقد وقع السيناريو في المعضلة التي تواجهها أغلب أفلام السير الذاتية لكبار الفنانين، فالمتفرج يظل ينتظر بُعدا توثيقيا من تقديم صورة صادقة لموهبة الفنان وحياته ضمن الفيلم الروائي.

أما المخرج فيواجه إكراهات التخييل الذي يجعل تلك السيرة جديرة بأن تحكى، فيضيف شيئا من الخيال للربط بين الأحداث المتناثرة في حبكة سينمائية متكاملة، وهذا ما يطرح معضلة مصداقية آثار السيرة عامة.

وسواء نظرنا إلى هذه المصداقية من الناحية الأخلاقية أو من الناحية الفنية نجد أن فيلم “احترام” لم يحترم مسيرة الفنانة بشكل دقيق، فرغم جنوحه إلى التخييل والإثارة، فإنه لم يوفّق في عرض تطور موهبة “أريثا فرانكلين” أو إبراز تألقها، ولم يمنح المطربة الاحترام الفني الذي كانت تنشده.