قراءة في “أمهات عازبات”
يروي فيلم أمهات عازبات – إنتاج الجزيرة الوثائقية وسيناريو واخراج رشيد قاسمي- قصة ثلاث نساء تعرضن لمحنة الإنجاب خارج الزواج القانوني، ذلك يعني في مجتمع شرقي محافظ وغير متفهم للظروف التي تدفع إلى واقع كهذا بمثابة قرار اعدام ونهاية لحياتهن.
على طول الفيلم تتبادل النساء الثلاث مواقع الحكي عبر لقطات تجمع بين حضورهن الشخصي أمام العدسة وبين تتبع مسيرة حياتهن اليومية في المجتمع ويتداخل الحكي مع عرض مسرحي لعمل من إخراج فيولين سين يتناول في شكل درامي مصاعب وشجون أن تنجب امرأة خارج إطار الزواج القانوني والشرعي، طريقة العرض هذه توفر للمشاهد فرصة لمقارنات وقتية بين القصص الثلاث من جهة وبينها وبين العرض المسرحي من جهة أخرى باعتباره تاريخا فنيا لمأساتهن على شكل ما، ومع تقدم السرد وتنوع قصص النساء الثلاث نكتشف أيضا أنهن على قدر كبير من الشجاعة ومكافحة القدر الذي بدا أنه فرض عليهن اثر غلطة عابرة حكمتها ظروف معينة، إنهن نساء جديرات بأكثر من الشفقة فما يقمن به من أعمال ومداومة على تحدي الظروف وتحمل مسؤولية أطفالهن أمر يستحق التقدير ويدفع للاعتراف بهذه العزيمة الماضية وغير الهيابة في تحدي ظرفها البائس وتحويل نقاط ضعفها إلى ايجابيات تكفي للصمود والعبور إلى اليوم التالي بأمل جديد.
نساء الفيلم
يبدأ الفيلم بمشهد تظهر فيه مجموعة من الأطفال وهم يلفظون اسم الأب – بابا بابا- الغائب عن حياتهم، ثم تبدأ حنان موكريم في رواية قصتها التي بدأت وهي على مشارف مغادرة سن الطفولة كما نستنتج عندما كانت محملة برغبة السفر والحياة في الخارج وكيف التقت بربيع في احد المخيمات لترتبط معه بعلاقة تنتج طفلة فيما بعد، وكيف أن ربيع تخلى عنها ما إن ظهرت عليها بوادر الحمل ليتركها تواجه مصيرها بمفردها دون أي خبرة في الحياة، وتسرد حنان تجربتها المرة بوجه طفولي يثير التعاطف والحزن بداية من مشقة الحمل والولادة وما حصل لها في المستشفى وتعرضها للمهانة المستمرة باعتبارها خارجة عن العرف، وتصف بلغتها الخاصة معاناتها وتطور علاقتها بطفلتها منذ أن كانت جنينا وحتى صارت حقيقة واقعة مفتوحة على كل الاحتمالات، وفي نهاية سردها نكتشف أن تلك الطفلة تحولت عبر التجربة القاسية والأمومة المبكرة إلى امرأة مجربة تتحدث بحكمة في كثير من الأمور كما يحدث عندما تقول إن الشرف ليس نقطة دم ولكنه مسالة تتعلق بكل شيء وكل تصرف في هذه الحياة، وتلاحظ من عمق تجربتها أن التربية التي تتلقاها البنت الشرقية تفرض عليها فيما بعد الكثير من التصرفات وأنماط السلوك عكس تربية الولد الذي نادرا مايتحمل لوم المجتمع رغم انه في كثير من الأحيان يكون هو المبادر والعامل الفعال في الحدث.
أما حليمة دشراوي التي نشأت في الريف المغربي وعملت على تربية أخوتها الذين كبروا وكونوا عوائلهم الخاصة بهم وقابلوا جهدها بالجحود لتنطلق نحو المدينة للبحث عن مصير وحياة أخرى كبداية جديدة تقودها لأحد المعامل حيث تتعرف على أحدهم وتتعرض علاقتهما لصعوبات عديدة أبرزها رفض عائلتها لارتباطهما شرعيا لتتداعى في علاقتها حتى تنتج طفلها ويتخلى عنها رجلها لتواجه مصيرها بمفردها.
وبالمثل تخوض السعدية الطيب تجربتها منذ اليتم المبكر وسوء معاملة أمها التي تزوجت من رجل آخر ودفعت بها لخدمة المنازل حيث تتعرض لمختلف أنواع الاستغلال الجنسي والسلوكي وتدفع مرات عديدة للتسول لصالح مخدومها الجشع، قبل أن تلتحق بالعمل في أحد المقاهي وتتعرف على ابن المالك وتنشأ بينهما علاقة يتفقان خلالها على الزواج قبل أن تنتكس هذه العلاقة ولم تجد غير بيت للراهبات ساعة انجابها لابنها، غير أنها أيضا امرأة قوية تصر على مواجهة ظروفها وتتحصل بمساعدة جمعية خيرية على فرصة لكسب عيشها لتبدأ من جديد رحلة كفاح مختلفة من أجل ابنها.
في هذا الفيلم نجد أنفسنا أمام نماذج نسائية ساهم المجتمع وخاصة الأهل في صنع واقعها البائس، لكننا أيضا نرى نماذج مكافحة ترفض الاستسلام للواقع المعاش ويحولن مايفترض أنه مشكلة كبيرة – الإنجاب دون اعتراف الأب – على دافع يغذي مسيرتهن بالأمل، حيث استبدلن الحب الخاص بحب الحياة من أجل أطفالهن في رحلة كفاح مشرفة وكأنهن ولدن من جديد من خلال انجابهن، وفيما تعبر حنان عن ندمها بكل شعرة من رأسها على تجربتها المخيبة للأمل وتصر على عدم مسامحة ربيع تأخذ حليمة دشراوي والسعدية الطيب موقفا مختلفا بدتا فيه أكثر تقبلا للتجرية واكثر تسامحا تاركتين للزمن معالجة جروح الروح.
يصور لنا الفيلم أيضا المرأة ذات القلب الكبير عائشة السنا التي اتجهت للعمل الخيري وانشأت جمعية خيرية باسمها لمساعدة امثال هؤلاء النسوة والعبور بهن إلى حياة جديدة، وتروي السيدة عائشة الدوافع التي اوصلتها لاتخاذ هذا الطريق، ونرى في المشاهد الأخيرة بطلات الفيلم في جلسة حميمة معها وهن يتحلقن حولها كأم رحيمة شتت عنهن الخواء الكبير الذي صادف حياتهن، قبل أن يختم الفيلم بالعودة لمشهد الاطفال الذين ينادون الاب الغائب والذي يبدو أنه لن يعود.
انتاج الافلام الوثائقية عمل جديد على التلفزيون العربي نسبيا، لذا ينبغي لنا تفهم النقاط السلبية التي يمكن أن نلاحظها في هذا الفيلم، فالاستعانة بالعمل المسرحي بدت وكأنها خارج السياق، بحيث يمكن حذف المشاهد الخاصة به دون أن يتأثر العمل بل ربما اكتسب مصداقية أكبر، كما أن العمل قصر في تتبع الظروف المحيطة بالحالات التي قدمها حيث كان يمكن الاستعانة بأسر شخصيات الفيلم النسائية لإلقاء مزيد من الضوء على خلفيات ما حدث وإن كنا نقدر صعوبة ذلك، كما أن المساحة التي أعطيت للسيدة عائشة صاحبة الجمعية الخيرية يمكن أن تكون أكبر وربما يكون موضوع هذه السيدة لوحده فيلما تسجيليا قائما بذاته، ولكن بالرغم من هذه الهنات يستحق فيلم الجزيرة الوثائقية المشاهدة لأنه بمثابة دراسة اجتماعية مسجلة بعدسة لا تخلو من المتعة والاستفادة والحث على البحث في خفايا النفس، إنه فيلم جريء يعالج ظاهرة اجتماعية في تزايد داخل المجتمع العربي ويسلط الضوء عليها ويدفع بها للواجهة مصرا على أن لا تضاف إلى قائمة المسكوت عنه في مجتمعاتنا.