غزة.. صورة الألم وألم الصورة 1/2

 غزة وجع في الخاصرة.. ودم ينزف بلا ثمن سوى ثمن الكرامة وبؤس القيم الكونية الطاغية.. وصورة غزة لا مثيل لها في وجدان الذاكرين للتاريخ كلما أرادوا العبرة أو البكاء.. ولما عزّ مثيل غزة في الضمائر لا بد لصورة غزة أن تظل رمزا لبطش الانسان بالإنسان وشاهدا على إرادة البقاء رغم ما في الصورة من خواء..

بهذه الكلمات نفتح ملف غزة من زاوية وثائقية لنستمع إلى مواقف بعض المخرجين العرب ورأيهم في ألم الصورة وبؤس الواقع ورائحة الموت والبقاء يتمازجان في مشهد واحد..

  ما يحدث لا تحويه اللغة ربما الصورة توثق ما لا نستطيع قوله

المخرج التونسي شوقي الماجري

يملؤني شعور بالغضب والقهر أمام هذه الهجمة المتوحشة، ما يحدث غير قابل للحكي والتوصيف.
لقد خرجنا نحن الفنانين المستقلين في سوريا في وقفة احتجاجية، أشعلنا فيها الشموع احتجاجا على ما يحدث، في ساحة الجامع الأموي، ولكني أدرك ان ما يحدث يصعب على الكلام، وأتمنى أن أكون قادرا على التعبير عنه بالصورة.
شعور القهر يأتي من واقع أن انتهاك العرب صار أمرا عاديا لايثير القلق، أصبحنا نعيش أحداثا متقاربة في نفس الاتجاه، العراق ثم اليوم فلسطين، هناك استباحة للشعب العربي.
ما يحدث، شيء مهول. لكن نتمنى أن نستطيع إيقاف القادم الذي ربما يكون أقسى وأمر. الفنان يحتاج وقتا للتعبير عن مآسي مجتمعه، لقد اشتغلت مع فريقي على مسلسل الاجتياح الذي أوصل صوت ضحايا فلسطين إلى العالم ولقي نجاحا كبيرا، ولكن صدقني أنا أتمنى عدم حدوث المأساة أصلا.
ما يحدث في كلمة واحدة: شيء مهول لا تحتضنه العبارة ربما الصورة.

لم يستطع الإعلام العربي إلى اليوم أن يحول المأساة الفلسطينية إلى مأساة كونية

قيس الزبيدي : مخرج وناقد عراقي

كان 11 سبتمبر مأساة أمريكية، لكنه أصبح أيضا كارثة كونية، تركت أثرها على البشرية جمعاء. أما كارثة غزة الإنسانية، فلم تصبح، حتى الآن، سوى كارثة قطاع! ماذا شاهدنا في يوم 11 سبتمبر؟…
لم تقدم لنا التغطية التلفزيونية لأحداث سبتمبر أي صور بصرية تصادق على الرعب الحاصل، كل ما رأيناه طائرتان ترتطمان بمركز التجارة العالمي ورأينا البرجين ينهاران. ورأينا سحبا هائلة من الدخان وأكواما من الأنقاض وأبنية مكسوة بالغبار والرماد وبشرا يركضون خائفين، ورأينا بعدئذ أرامل يتفجعن على أزواجهن المفقودين. كان أمرا عجيبا لا يصدق، أما الرعب فلم تطله الصور! لكننا نشاهد في غزة كل يوم صور الدمار والقتل والدماء بشكل مفصل ومكرر ومفرط.. نستمرئ تكرار الصور المرعبة، للقصف والدمار والموت والجرحى. فتكرار الصورة جعل المأساة مستساغة حتى لدى من يعيشها فانقسم الجميع”.
في الضفة الأخرى كل شيء تغير منذ أن هاجم “الإرهاب!” نيويورك وواشنطن ولا شيء سيبقى على حاله بعد الآن. لقد وحد يوم 11 سبتمبر الأمة. وجمع البلد معا في رغبة  واحدة: معاقبة المعتدي! وسرعان ما ظهرت آلاف الأعلام الأمريكية في الشوارع وعلى النوافذ والمخازن والسيارات، وأخذت شبكات التلفزة تعلن في برامجها تحولا من “أميركا تتعرض للهجوم” إلى “أميركا تنهض إلى حرب جديدة على إرهاب مبهم”!
تعمل تكنولوجيا الصورة في الزمن الحاضر على تحلية السحر والغواية وكما وجدت سوزان سونتاغ تواطؤاً بين الصور والحقيقة البغيضة تلقي الصور فوقها الأقنعة، أعاد سرد حادث 11 سبتمبر بصيغه المكررة إنتاج نوع من إسقاط الإرهاب الدفاعي بشكل مطلق ترافق مع انقلابا سياسيا تمثل في تحول الرئاسة الأميركية إلى رئاسة إمبراطورية. وتحولت سلطة الرئيس إلى سلطة قائد شعبي وحربي يغزو الدول كلما يحس بضرورة لذلك، ويشن الحروب كلما شاء! بحيث أصبحت مقارعة الإرهاب عمل حياته! شمعون بيريز عقّب على ما سميّ ظاهرة الإرهاب بأنها ظاهرة جديدة، لم تعد إسرائيل وحدها هدفها! والآن، وغزة تحت القصف المتواصل، لا يرى “العالم” في غزة سوى إرهاب لإسرائيل، رغم أنها تشن حربا كارثية، على ما تسميه “إرهاب حماس”، الذي يهدد حياة مواطنيها!
لقد دخلت صور 11 سبتمبر معجم التاريخ الإيقوني ومن المؤكد أن ما من كارثة في التاريخ نالت من التوثيق ما نالته هذه الكارثة، التي سجلها عدد من كاميرات الأخبار ومن كاميرات “فيديو” هواة. والسؤال الحاسم: ما الذي تم فعله بهذه الصور وكيف تم التعامل مع هذه الصور؟  وسؤالنا نفسه: ما الذي سنفعله بهذه الصور وكيف نتعامل معها؟  صور كارثة البرجين وحدت أميركا وصور كارثة غزة لم تمزق وحدة الفلسطينيين فقط، إنما مزقت، حتى، وحدة العرب الشكلية ودفعت بخلافاتهم إلى ابعد حد! 
من المؤسف أن ما يشاهد على الفضائيات، قبل شن الحرب، على الشعب الفلسطيني في غزة وبعدها، ليس بإمكانه أن يكتشف حقيقة ما يجري. وأقول إننا لن نتمكن من مواجهة صور المأساة الفعلية في غزة إلا حين نفهم، ويجب أن نفهم، في”ضوء مسافة تكشف سياقها” وإلا سنقع في شرك حقائق مضللة، تُحكم بمعايير الحاضر الآنية، ومعايير ما نراه من صور الموت في الفضائيات مرة بعد مرة بعد مرة! لنذكر: بدلا من أن يدفعنا الحاضر لمعرفة الحقائق الملموسة والفعلية.علينا طرح كل الأسئلة ذات العلاقة بكيفَ ولماذا، وعلينا أيضا ألا ننسى أن من تعوّد على الأجوبة الجاهزة لا يعود بإمكانه الأسئلة المفيدة؟
في ندوة معهد العالم العربي التي عقدت في عام 2000 قرأت للدكتور محمد غانم الرميحي، أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت ما يلي: “الفرنسيون لديهم محطات بالفرنسية والانجليزية أما نحن فيحدث بعضنا بعضا ونتحدث بيننا وبصوت عال يكاد يصم الآذان… الكل يقول انه الأحسن والكل يقول انه المؤثر والكل ينسب لنفسه التأثيرات. نحن نحتاج حقا إلى معهد متخصص، دقيق ومحايد لكي يقول لنا، نحن العميان، الذين نصف الفيل ما هو شكل الفيل“! 
 
[1] راجع السينما والتلفزيون بعد 11/9 منشورات مهرجان أبو ظبي 2008

المشاهد قاسية إلى حد انتهاك اللغة والذاكرة

خالد الرويعي

 خالد الرويعي

مخرج مسرحي بحريني

تقف الدهشة بمحاذاة الأفق لنكتشف أن ثمة براعة خرافية مازال يخبئها لنا العالم الجديد فما يحدث لم يكن ليدهشنا البتة لولا أن أحلامنا باتت منذورة للانتهاك على الدوام.. ويظل مشهد الخيبة أقسى بكثير من ترجمة عبارات هكذا..
لقد استطاع العرب بامتياز أن يكونوا ركاما من الهزائم  والخيبات.. أن يكونوا أمة لا تستطيع النوم دون أخبار الموت، الغبار والنحيب.. أمة تستيقظ على طرق الرصاص لباب الجيران.. بعد أن كان ابن الجيران هو الطارق لأجل الحبيبة أو يظن..
سقوط غزة بين أيدينا والهزيمة بين ظهرانينا، لوحة لا تستيقظ في جلال اللون والصورة فالمشاهد قاسية حد انتهاك المخيلة واللغة. لكننا مجبرون كرها على أن نوثق كل شيء بالصورة مرة وباللغة مرات..
ولكن سنوثق ماذا هذه المرة؟ ومن أجل من؟ هل سيتعين علي أن أوقظ ابني ذات يوم لأريه ماذا فعل بنا هؤلاء وأقنعه بأن أحلامنا قد غدرت بنا..؟ هل ثمة ما يقال أو ما يتلى هنا.. لا أعرف..
لكنني أثق في نجمة الصبح الصاعدة على كتف بنت الجنوب (غزة) .. وأثق بأن هناك مستحيلات تتحقق.. بعيدا عن أشباه الجحيم.. وبعيدا عن السرياليين الجدد..

عدنان مدنات
ناقد سينمائي من الأردن

ما نشاهده فاق صور الألم في أقسى الأفلام الدرامية العالمية

اكتسب التوثيق المرئي عبر الصور المتحركة للأحداث التي تحصل في العالم أهمية استثنائية مع انتشار البث التلفزيوني الذي نقل التوثيق السينمائي من حالة التعامل مع فعل مضى إلى حالة التعامل مع فيلم يحدث في اللحظة الراهنة، الآن. وهنا.
من المعروف أن النقل التلفزيوني الحي للحرب في فيتنام ساهم إلى حد كبير في فضح التورط الأمريكي في هذه الحرب وتوعية الشعب الأمريكي إلى أخطارها وشرورها مما أدى إلى اندلاع موجات الاحتجاج على التورط الأمريكي في فيتنام من قبل أوساط عديدة من الشعب الأمريكي، كما أن عدوى رفض هذه الحرب وانعكاساتها المدمرة على مصائر الأمريكيين انتقلت من التلفزيون إلى صناعة السينما الأمريكية التي أنتجت عددا كبيرا من الأفلام السينمائية المضادة للتورط الأمريكي في فيتنام.
الآن، ومع اندلاع العدوان الإسرائيلي الهمجي ضد الشعب الفلسطيني في غزة  يجد العالم نفسه أمام وضع مشابه، فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي/الفلسطيني مع إسرائيل الذي تخللته الكثير من المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين المدنيين، يتسبب البث التلفزيوني الفضائي الحي والمباشر للمجازر البشعة التي تحدثها آلة الدمار العسكرية الإسرائيلية للعمران والسكان الأبرياء في غزة في استنهاض الغضب الجماهيري العارم، ليس فقط في فلسطين والدول العربية، بل في سائر أرجاء العالم وخاصة في دول أوروبية كانت شعوبها تتعامل بلا مبالاة، أو بحيادية، مع مثل هذه المجازر الإسرائيلية، ولكنها الآن تخرج للشارع للتعبير عن عواطفها الغاضبة وعن وعيها الجديد.
ومن البديهي أن تأثير البث التلفزيوني لما يحدث في غزة من دمار وقتل، يدافع عنه بكل صفاقة قادة الكيان الصهيوني، لم يقتصر على إثارة مشاعر الغضب بل أثر بوضوح على الوعي السياسي لأوساط متنوعة من شعوب العالم.
على المستوى الشخصي، إضافة إلى الانفعالات التي سيطرت علي نتيجة مراقبتي لمشاهد المجازر التي تحدث في غزة، عايشت صباح يوم الثلاثاء30/12/2008 حالة خاصة من الرعب والتوتر والقلق وأنا أراقب قناة “الجزيرة” وأستمع إلى الاتصال الهاتفي الحي المباشر ما بين المذيع في القناة ومراسل “الجزيرة” المتواجد على سطح الزورق الذي كان متوجها من قبرص إلى غزة حاملا معونات إنسانية ومتضامنين مع أهالي غزة والذي أحدثت فيه البحرية الإسرائيلية خرابا جعله معرضا لخطر الغرق. كنت أستمع إلى المحادثة وقلبي يخفق بشدة خوفا من أن تحصل الكارثة في أي لحظة، استمع إلى مراسل الجزيرة الذي كان، رغم الخطر، يتحدث برباطة جأش، يصف أحوال الزورق بحس مهني رفيع وعالي المسؤولية، ومع ذلك لم تهدأ نفسي ولم يخف توتر أعصابي واضطراب خفقان قلبي الخائف على مصير المراسل ومن معه من أناس شرفاء.
نتيجة ذلك، بقيت متسمرا أمام الشاشة، ولم أستطع الابتعاد عنها إلا بعد انقطاع الاتصال الهاتفي حيث تذكرت أنه يجب علي الاتجاه نحو عملي ولا مفر من ذلك. في الطريق فكرت في المشاعر التي انتابتني وأثرت في نفسي بقوة لدرجة القلق والخوف، حتى على مصيري الشخصي، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن هذا البث التلفزيوني الحي لحادثة من هذا النوع وفي هذا الزمن بالذات، فاق في تأثيره علي تأثير أكثر الأفلام الدرامية المأساوية التي أثارت عواطفي الحزينة في ما سبق من أيام.


إعلان