أحداث سبتمبر مأساة.. وأما غزة فلا بواكي لها

كان يوم 11 سبتمبر/أيلول مأساة أمريكية، لكنه أصبح أيضا كارثة كونية، تركت أثرها على البشرية جمعاء. أما كارثة غزة الإنسانية، فهي لم تصبح، حتى الآن، سوى كارثة قطاع! ماذا شاهدنا في يوم 11 سبتمبر؟

لم تقدم لنا التغطية التلفزيونية لأحداث سبتمبر/أيلول أي صور بصرية تصادق على الرعب الحاصل، كل ما رأيناه طائرتين ترتطمان بمركز التجارة العالمي ورأينا البرجين ينهاران. ورأينا سحبا هائلة من الدخان وكوما من الأنقاض وأبنية مكسوة بالغبار والرماد وبشرا يركضون خائفين، ورأينا بعدئذ أرامل يتفجعن على أزواجهن المفقودين. كان أمرا عجيبا لا يصدق، أما الرعب فلم تطاله الصور!

لكننا نشاهد في غزة كل يوم صور الدمار والقتل والدماء بشكل مفصل ومكرر ومفرط، للدرجة التي نشاهد فيها أي مراسل، أثناء يلقي تقريره الطويل، في هذه القناة أو تلك، نشاهد في نفس الوقت صورا مرعبة للقصف والدمار والموت والجرحى.
كل شيء تغير منذ أن هاجم (الإرهاب!) نيويورك وواشنطن، ولا شيء سيبقى على حاله بعد الآن. لقد وحد يوم 11 سبتمبر/أيلول الأمة. وجمع البلد معا في رغبة واحدة: معاقبة المعتدي!

حرب أمريكية شعواء بدعوى محاربة الإرهاب بعد أحداث سبتمبر

وسرعان ما ظهرت آلاف الإعلام الأمريكية في الشوارع وعلى النوافذ والمخازن والسيارات وأخذت شبكات التلفزة تعلن في برامجها تحول من “أميركا تتعرض للهجوم”، إلى أميركا تنهض إلى حرب أمريكا الجديدة على إرهاب مبهم!
تعمل تكنولوجيا الصورة في الزمن الحاضر على تحلية السحر والغواية وكما وجدت “سوزان سونتاغ” تواطئا بين صور وحقيقة بغيضة، تلقي الصور فوقها الأقنعة، أعاد سرد حادث 11 سبتمبر بصيغه المكررة، إنتاج نوع من إسقاط الإرهاب الدفاعي بشكل مطلق ترافق مع انقلاب سياسي تمثل في تحول الرئاسة الأميركية إلى رئاسة إمبراطورية، وتحولت سلطة الرئيس إلى سلطة قائد شعبي وحربي يغزو الدول كلما يحسب ضرورة لذلك، ويشن الحروب كلما شاء! بحيث أصبحت مقارعة الإرهاب عمل حياته!

“شمعون بيريز” عقّب على ما سميّ ظاهرة الإرهاب بأنها ظاهرة جديدة، لم تعد إسرائيل وحدها هدفه! والآن، وغزة تحت القصف المتواصل، لا يرى “العالم” في غزة سوى إرهابا لإسرائيل، رغم أنها تشن حربا كارثية، على ما تسميه “إرهاب حماس”، الذي يهدد حياة مواطنيها!
لقد دخلت صور 11 سبتمبر معجم التاريخ الآيقوني ومن المؤكد أن ما من كارثة في التاريخ نالت من التوثيق مثل هذه الكارثة، التي سجلتها عدد من كاميرات الإخبار ومن كاميرات “فيديو” هواة.

أطفال غزة يقتلون على مرأى من العالم ومسمع، ولا أحد يجيب

والسؤال الحاسم: ما الذي تم فعله بهذه الصور وكيف تم التعامل مع هذه الصور؟ وسؤالنا نفسه: ما الذي سنفعله بهذه الصور وكيف نتعامل مع هذه الصور؟ صور كارثة البرجين وحدت أمريكا وصور كارثة غزة لم تمزق وحدة الفلسطينيين فقط، إنما مزقت، حتى، وحدة العرب الشكلية ودفعت بخلافاتهم إلى أبعد حد.

من المؤسف أنه ليس كل من يشاهد الفضائيات، قبل شن الحرب، على الشعب الفلسطيني في غزة وبعدها، بإمكانه أن يكتشف حقيقة ما يجري. وأقول إننا لن نتمكن من مواجهة صور المأساة الفعلية في غزة إلا حين نفهم، ويجب أن نفهم، في” ضوء مسافة تكشف سياقها”، وإلا سنقع في شرك حقائق مضللة، تُحكم بمعايير الحاضر الآنية، ومعايير ما نراه من صور الموت في الفضائيات مرة بعد مرة بعد مرة!

لنذكر: بدلا من أن يدفعنا الحاضر لمعرفة الحقائق الملموسة والفعلية، علينا طرح كل الأسئلة ذات العلاقة بالكيف والماذا، وعلينا أيضا ألا ننسى، إن من تعوّد على الأجوبة الجاهزة لا يعود بإمكانه الأسئلة المفيدة؟
في ندوة معهد العالم العربي التي عقدت في العام 2000، قرأت للدكتور محمد غانم الرميحي، أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت ما يلي: “المصريون لديهم محطات بالفرنسية والانجليزية أما نحن فنحدث بعضنا ونتحدث بيننا وبصوت عال يكاد يسد الآذان.. الكل يقول إنه الأحسن والكل يقول إنه المؤثر والكل ينسب لنفسه التأثيرات. نحن نحتاج حقا إلى معهد متخصص، دقيق ومحايد لكي يقول لنا، نحن العميان، الذين نصف الفيل ما هو شكل الفيل”!


إعلان