يوم الميلاد: السينما والمقدس

مع بداية كل عام تغزو أفلام ولادة المسيح والاحتفال بالأعياد المسيحية دور العرض، لكن فيلم يوم الميلاد كان النسخة التاريخية لقصة السيد المسيح، نبوءة تقض مضجع الملوك، ولمدة خمسة وثلاثين عاماً هيرودس يحكم اليهود باسم قيصر أغسطس، لكن كلام المنجمين والحكماء ظل يلاحق الملك، الذي كان يعتقد أن المسيح المنتظر رجل يافع سيدعي أنه يسوع، وسيعلن ثورته على إمبراطوريته القائمة على الضرائب.

 فيلم خلف الكثير من الجدل وراءه، يتحدث عن مولد المسيح، افتتح أول عروضه في الفاتيكان، ويعد بذلك أول فيلم يفتتح في الفاتيكان، غير أن مجموعات مسيحية كثيرة شككت في صحة القصة، معتبرة أن ما دار في الفيلم تحوير لقصة المسيح، وأن بطلة الفيلم، التي قامت بدور السيدة العذراء، وهي كيشا كاسل هيوز البالغة من العمر ستة عشر عاماً لم تكن مؤهلة للعب دور القديسة مريم.
والكثير من الذين أشاروا إلى عدم أهلية هيوز للعب دور السيدة العذراء، يرجعون سبب ذلك إلى كونها ستضع مولودها وهي في سن السادسة عشرة من صديقها البالغ تسعة عشر عاماً خارج دائرة الزوجية، مما أثار حفيظة شريحة كبيرة من المسيحيين، حتى وصل الجدل إلى داخل الفاتيكان، إلا أن أحد أعضاء البابوية رد على ذلك بقوله: يجب على الممثلة أن تتقن دورها في الفيلم، ولا يطلب منها أن تكون قديسة، يبدو أن لفيلم ميل غبسون وقعاً على مجريات الفيلم، فقد صورت أجزاء من الفيلم في إيطاليا، وهي الدولة التي صور فيها غبسون فيلمه الشهير “آلام المسيح”، وأخذ نفس سمات الفيلم، سواء من حيث اللباس أو الإخراج.

بداية يدخل الجنود:
يبدأ الفيلم مع قيام جنود هيرودس بقتل أطفال بيت لحم، بعد زيارة مجوس نجران له، وإخبارهم إياه بنبوءة مولد المسيح، مخلص الفقراء والملوك، ثم يرجع الفيلم سنتين للوراء، إلى مدينة الناصرة، حيث تعمل مريم على مساعدة أبيها وأمها، واللعب مع الأطفال في الحقل، ليقع النجار “القديس يوسف” في حبها، فيطلب الزواج منها، وقد قدم خدمة لها بشرائه بغل أبيها الذي صادره “العشارون”، وهم الذين يبعثهم الملك لأخذ الضرائب من الفقراء، بعد ذلك يتم تزويجها على طريقة الزواج اليهودية القديمة، حيث يكونان زوجين على أن تحتفظ بعذريتها لسنة كاملة، وتقيم في بيت والدها. في هذه الأثناء ينزل الوحي على مريم ببشارة الحمل وهي جالسة تستريح بالقرب من الحقل، ويخبرها بأن مولودها سيحقق البشارة.
يتابع الفيلم مجريات القصة الإنجيلية، فتقيم عند خالتها، والتي بدورها تكتشف الأمر الإلهي الذي حل في السيدة العذراء، وتكون هي أيضاً قد حبلت من زكريا على كبر سنها، فتضع مولودها الذي أطلقت عليه اسم يحيى، والذي سيدافع عن ابنها ويشد من عضده إذا كبر، اللقطة المميزة والإنسانية التي تناولها المخرج في هذه الفصول، هي طلب مريم العذراء من إليصابات (اسم زوجة زكريا في النصوص التوراتية) وضع يدها على بطنها لتحسس حركة الطفل، فتطلب إليصابات من مريم فعل نفس الشيء، لأن ابنها الآخر يتحرك.
بالنسبة للملابس لا يخرج المخرج عن المعتاد في تقديم أزياء هذه الفترة التاريخية، وهي أزياء الثياب المغربية القديمة، مع شيء من اللباس العربي، أما بالنسبة للبيوت فظلت وفية للصفة التاريخية، وهي الحجرية بدون أبواب، غير أن المخرج ابتعد عن إبراز النقاط الساخنة من الأذى الذي لحق بالسيدة العذراء جراء حملها، واكتفى بإظهار صورة المجتمع المحافظ الذي يبتعد عن أصحاب الرذيلة.

الفاتيكان يختلف على الفيلم:
وقد علقت أطراف في الفاتيكان على الفيلم بأنه مخرج بطريقة جيدة، غير أن الفيلم لم يقدم جديداً على مستوى القصة والسيناريو، فقد تم اقتباس الكثير من المعجم الإنجيلي، والقصة لم تخرج كثيرا عن القصة التاريخية لمولد المسيح في الإنجيل، ويعد هذا الفيلم موسميا، لأيام أعياد رأس السنة، وهو لم يخرج عن اللغة التبشيرية، كما حدث في الفيلم الذي قدمه ميل غبسون، وسيقوم الفريق القائم على الفيلم بتقديم أرباح الفيلم لبناء مدرسة بالقرب من الناصرة.
الفيلم بصورة عامة جيد، تمتع بزوايا تصويرية متقنة، إلا أنه أخفق في تصوير المشاهد الخاصة بالمعجزة، فتصويره للنور الذي يأتي من السماء إلى الأرض، ويهبط على السيدة العذراء وابنها، كان يتناسب مع الأفلام الكارتونية، وهو ما لم يتناسب مع قوة السرد القصصي في النص، ولا تقنية التصوير العالية، يبقى الفيلم خطوة جيدة في تجسيد الحوادث التاريخية، ويمكن للمشاهد أن يحظى بمتعة مشاهدته، ورسم صورة تقريبية للنص الإنجيلي الذي يتناول قصة السيدة العذراء ويوم ميلاد المسيح.

شخوص لا تصلح لزمنها:
الفيلم بصورة عامة تمكن من تحقيق شروط نجاحه إذا صح التعبير، لكنه أخفق كعادة أكثر الأفلام التي تتناول المقدس، حيث يتم التعامل مع الشخصية التي تدور حولها هالة القداسة بكثير من النظافة المفتعلة، إذ يمكنك رؤية الأسنان الناصعة البياض، والأيدي التي لا تنتمي لعصر يستوجب العمل اليدوي، والأعمال الشاقة المضنية، غير ذلك هيئة بشرة الممثلين تبدو منتمية إلى شرائح متنعمة، ومفعمة بالحيوية، وهي تتصادم بذلك مع الظروف المحيطة بعصر القصة، خصوصا في مناخ مشمس، غير أن تناسق لون البشرة ظل محافظاً على صبغته الأصلية، دون أن يتأثر بالمناخ من حوله، وهذا الأمر ينسحب على كثير من الأفلام، سواء الإنجيلية أو حتى الإسلامية، التي تظهر الشخص المقدس في أبهى صورة، وأجمل ملامح وجه، دون أن تحمل هذه الأجساد آثارا وأختاما من الطبيعة.
ما يقدح في هذه الأفلام أنها أفلام تبشيرية أو تبليغية، وبذلك فهي أفلام نصوصية، بمعنى أنها تكون مخلصة للنص التاريخي “المقدس”، أكثر من إخلاصها للخيار الإبداعي، الذي قد يكسر المقدس في تعامله، وبذلك أيضا فهي لا تقدم مشروعا أو فيلما تجاوزا، سواء في السرد الحكائي أو حتى على مستوى الإخراج، فالتراكم الكمي لهذه الأفلام التي تتناول نفس الحدث، جعل خيار الإبداع والابتكار خيارا صعب المنال، ومن جانب آخر يجعل الحدث مستهلكاً، فيبهت عند المتلقي، بحيث يفقد جاذبيته كفيلم مختلف ومتجاوز.


إعلان