“سمعان بالضيعة” : الأسئلة اللبنانية المعلقة

يندرج الفيلم الوثائقي الأول للمخرج اللبناني الشاب سيمون الهبر، “سمعان بالضيعة” (جائزة لجنة التحكيم الخاصّة بالدورة الخامسة لـ”مهرجان دبي السينمائي الدولي”، بين 11 و18 ديسمبر 2008؛ ومشاركة في السوق السينمائية في الدورة الجديدة لمهرجان برلين السينمائي الدولي، في فبراير المقبل)، في إطار السينما الوثائقية/ الدرامية، التي باتت تفرض نفسها في المشهد السينمائي العربي الشبابي، تحديداً، أو ما يُسمّى بـ”الوثائقي الإبداعي”، الذي بات سمة النتاج الوثائقي الجديد، الباحث عن لغة سينمائية متطوّرة، في قراءته الواقع والحياة ويوميات الناس والمجتمع والمسائل الإنسانية المتفرّقة؛ والساعي إلى إلغاء الحدّ الفاصل بين الوثائقي والروائي، لصناعة صورة سينمائية أكثر تطوّراً وجمالية، ولتحطيم القيود الشكلية في ابتكار أنماط التعبير الفني.


سيمون الهبر
 

اقترب الوثائقي من الروائي في معاينته الحالات والمسائل، وصار الروائي أقدر على الاستفادة من المفردات الوثائقية، أكثر من أي وقت مضى. في “سمعان بالضيعة” (إنتاج لبناني/ ألماني، 2008، 86 دقيقة)، استلّ الهبر النصّ الدرامي من قصص واقعية، ساعياً إلى التقاط مكوّناتها التاريخية والاجتماعية، من خلال التوثيق والمعاينة الحسّية. والتنفيذ التقني/ الجمالي مال إلى لغة بصرية شفّافة في متابعتها تفاصيل تلك القصص المنثورة في الذاكرة واللحظة الآنيّة، راوياً التوثيق بنبرة ما إن تخرج من الوثائقي، حتى تبلغ مرتبة جميلة من السرد الروائي.

 بالإضافة إلى استخدام الهبر أسلوباً شعرياً في التقاط المناظر الطبيعية، والحالات النفسية، وأرجاء الأمكنة والزوايا والوجوه والفضاء؛ كأنه يعيد صوغ الماضي بالصُور المفتوحة على جمال الطبيعة وقسوة الأمس المليء بالعنف والقتل والتمزّق، دافعاً الجمال والقسوة معاً إلى النطق بجوهر الحكاية اللبنانية، بل بجزء منها: هنا، في منطقة جبلية لبنانية (عين الحلزون، وهي بلدة مسيحية في منطقة مختلطة يعيش مسيحيون ودروز فيها)، وقعت حربٌ مدمّرة في النصف الأول من الثمانينيات الفائتة، بُعيد انسحاب الجيش الإسرائيلي المحتلّ منها. وهنا أيضاً، باتت الأمور كلّها معلّقة بين ذاكرة عيش مشترك بين أبناء الجبل هؤلاء، وماض غارق في الدم والتهجير، وحاضر مجبول على الخوف من قول الحقائق، والرضوخ للأمر الواقع (البقاء في النسيان والتهجير)، والتغنّي بذكريات حزينة وسعيدة في آن واحد.

في تجربته الإخراجية الأولى هذه، قدّم سيمون الهبر شهادة بصرية عن إحدى أخطر الأزمات العالقة في الذاكرة اللبنانية الفردية/ الجماعية، وعن أحد الفصول الدموية في الحرب الأهلية اللبنانية، باستعادته النزاع العنيف الذي حصل بين مسيحيي الجبل ودروزه، من خلال شخصية سمعان الهبر (عمّ سيمون)، العائد الوحيد إلى قريته عين الحلزون، بعد أعوام طويلة على تهجير أبنائها جميعهم منها، وعلى تدميرها كلّها تقريباً. فالشخصية الأساسية، إذ يرتكز الفيلم الوثائقي الطويل عليها، تنبش الماضي من عتمة التناسي، كي يُرسَم الآنيّ بريشة الباحث عن معنى الذاكرة.
والفيلم، إذ يعيد طرح الأسئلة المعلّقة من دون وجل أو تردّد، يذهب بعيداً في سرد وقائع وذكريات، من دون اللجوء إلى الخطابية والبكائية، ويُقدّم نصّاً سينمائياً جميلاً عن معنى أن يكون الخاصّ انطلاقاً حيوياً لفهم الجماعة ومقاربتها، وعن مغزى تحويل الصورة إلى لغة تعبير أحدّ وأقسى من أي كلام آخر. فالهبر لم يلجأ إلى المباشر في سرده الحكاية، ولم يستعن بالشهادات (إلاّ قليلاً) التي تزخر بها أفلام وثائقية متفرّقة، تبدو أقرب إلى الريبورتاجات التلفزيونية. في “سمعان بالضيعة”، تبرز السينما بشكل آسر: اختيار الضوء، مثلاً، مرادفٌ حيوي لاستنباط المكنون الذاتيّ في شخصية سمعان أولاً، كما في داخل الشخصيات الأخرى ثانياً، التي ظهرت أمام الكاميرا، كي تقول تفاصيل مكمّلة للحكاية الأصلية.

اختيار الكادرات، أيضاً، ساهم في تحويل الشهادات إلى نصّ مفتوح على التداخل الحاد بين ثلاثة أزمنة: ذاكرة قديمة وجميلة، وماض أليم، وحاضر معلّق. هناك أيضاً لعبة التوليف: جاء الهبر إلى الإخراج بعد تجربة العمل في توليف أفلام متنوّعة، كـ”نزاع” (روائي قصير، 2000) للفرنسي فيليب ماش و”الكرسي” (روائي قصير، 2002) للّبنانية سينتيا شقير و”كرم أبو خليل” (وثائقي طويل، 2005) للفلسطيني نزار حسن و”رسائل من وراء الموت” (فيديو، 2007) للّبناني غسان سلهب وغيرها (عمل مساعد مخرج أيضاً). فالتوليف عند الهبر (تخصّصاً أكاديمياً وممارسة مهنية وثقافة إبداعية) أداة تعبير تصنع الفيلم، وتجعله مرآة حيّة للسينمائي وعالمه، أو للموضوع المختار وتفاصيله. في “سمعان بالضيعة”، بدا التوليف اشتغالاً مستقلاً بحدّ ذاته، لأنه أعاد ترتيب المشاهد في سياق البحث عن الهوامش أساساً، متعاطياً معها (الهوامش) كأنها اللغة الأولى والأهمّ في كتابة الحكاية وسردها.
إذاً، تميّز “سمعان بالضيعة” بأمور عدّة، ساهمت في تحقيق فيلم جميل ومؤثّر: لغة سينمائية متقنة في التقاط مشاهدها وتوليفها؛ اختيار موضوع لا يزال جرحاً نازفاً في الذاكرة اللبنانية، التي يرغب كثيرون في طمسها وتغييبها (عمليات التهجير التي وقعت أثناء حرب الجبل في العام 1983)؛ التقاطه “نبض حياة معدومة” في قرية دمّرتها تلك الحرب، بقَدَر أقلّ وحشية وعنفاً من تدمير أعوام السلم الأهليّ الهشّ لها، ولتاريخها ولأناسها المشتّتين في مدن بعيدة عنها؛ توغّله الهادئ والنقديّ المبطّن والعميق في تشعّبات الحالة اللبنانية الممتدة من السياسة والأمن ولعبة المصالح الطائفية، إلى الثقافة الإنسانية والسؤال الأخلاقي المعلّق في ثنايا الجرح والقهر والتمزّق.

وإذا بدا إيقاع “سمعان بالضيعة” هادئاً، بالمعنى السينمائي، فإن النبض الكامن فيه لا يخلو من توتّر وغضب يُعادلان بؤس السياسة والنزاع (هل أقول الحرب؟) الطائفي، الذي أثقل على أبناء البلدة، فدفعهم إلى مغادرتها، توقاً إلى لحظة أمان ملتبس، لا شكّ في أنهم لم يبلغوها حتى هذه اللحظة، بعد خمسة وعشرين عاماً على تهجيرهم منها. أو هكذا شاء الفيلم أن يُظهِر عالم البلدة وفضاءها الإنساني، من خلال سيرة سمعان، العائد الوحيد إلى قريته منذ ستة أعوام. فالرجل قرّر العودة، لأسباب متفرّقة: مقته المدينة وصخبها، تعلّقه الشديد بالبلدة والذاكرة والحكايات، شعوره بالحياة الحقّة فيها، رغبته في الاختلاء بذاته بعيداً عن هموم المدينة وطقوسها و”زحمتها”، إلخ…
عاد سمعان الهبر إلى بلدته/ قريته، على الرغم من أن المصالحة الجدّية بين اللبنانيين لم تتحقّق، ومع أن “صندوق المهجّرين” (مؤسّسة مستقلّة مموّلة من الدولة اللبنانية، لإعادة المهجرين اللبنانيين إلى قراهم ومدنهم) اكتفى بتعليق لوحة “دعائية” له على مدخل البلدة؛ ومع أن الجرح النازف لا يزال معتملاً فيها. والمخرج قرّر أن يخترق “الممنوعات اللبنانية”، فأمضى ثلاثة أعوام وهو يعمل على “كتابة” شهادته البصرية هذه، التي مزجت بشاعة الحدث بجمال الطبيعة، وقسوة الذاكرة ببراعة الكاميرا في نبش معالم الألم من داخل السطوة البديعة للحيّز الجغرافي: “إحدى مشكلات هذا البلد: المحرّمات الكثيرة، والمواضيع الحسّاسة التي، وإن لم تكن ممنوعة قانونياً، يبتعد الناس عنها خوفاً من إثارة النعرات الطائفية”، كما قال الهبر، مضيفاً أنه “جرّاء هذا القمع المباشر وغير المباشر من السلطة والناس، صارت عندنا رقابة ذاتية، وهذا يقمع الفرد وأحاسيسه أيضاً، ويحول دون اعترافه بمشاعره، خشية أن يُشكّل اعترافه هذا خطراً على المجتمع”.
لعلّ “سمعان بالضيعة” يُشكّل خطراً من نوع آخر (يُتوقّع أن تبدأ عروضه التجارية اللبنانية في الأسابيع القليلة المقبلة، لكن شيئاً رسمياً لم يصدر لغاية الآن بهذا الصدد): إحداث ثقب في جدار الممانعة اللبنانية لنقاش الذاكرة والآنيّ والمستقبل؛ وتفعيل اللعبة السينمائية الجميلة، في جعل الوثائقي فعلاً سينمائياً مرتكزاً على جماليات الفن السابع، وعلى أبعاده الثقافية والفكرية والفنية المختلفة.


إعلان