إدوارد سعيد:ا لرجل المتعدد و كبير المنفيين
![]() |
الراحل إدوارد سعيد
محمد نعيم فرحات*
… يقولون أن تتذكر شخصاً ما فكأنك تستحضره من القبر حيا، وعندما يتعلق الأمر بشخص مثل إدوارد سعيد فإن الاستحضار هنا يتيح لنا المشي في مواكبه حياً و ميتاً.
…إدوارد سعيد أو الرجل المتعدد كما تقول شواهد السيرة والأثر معاً، لطالما أرهقنا على نحو خلاق ونحن نحاول مجاراة تعدده واتساعه وامتداداته الخصبة، كما أفصح عنها في الفكر والسياسة والعواطف والشجن، لقد كان منفياً “يرى أكثر مما يجب”. ومعه كنا نجد أنفسنا دائماً إزاء شخص ممتليء في كل الدروب التي قطعها أو اختطها لنفسه:- بين الأمكنة والثقافات والتخوم والأسئلة والأدوار والإشكاليات، وكانت دروبا عاش فيها ادوارد سعيد المنفي: كواقعة وكشعور وكانفعال وكانتماء أصيل وخلاق ومرهف ومنفتح على كل أفق.
.. ولم يكن المنــفى في تـجربة إدوارد سعيد مجـالاً للتـلاشي والانسـحاق، رغم “أن المنفى كالموت وإن أعوزته رحمة الموت النهائية ” كما قال ذات يوم، لقد كان المنفى في تجربتهِ ورؤيتهِ مصدراً للفاعلية وإبداع الحضور والقدرة والمقاومة. ورغم تورط إدوارد سعيد في الجوانب الأكثر إثارة للشجن والمأساة في المنفى ” وكآباته التي لا تطاق ” إلا أنه استحضر المنفى “كشرط يجب أن يحتمل، بغية إعادة الحياة لمكانة أدل وأعمق” كما تطرق لمتع المنفى مثل “الاندهاش ورؤية الأمور التي لا يراها في العادة من لم يسافر خلف التقاليد المريحة” كما أن المنفى يمكن أن يكون “حقلاً كريماً في منح الفرص”
على أن رؤية إدوارد سعيد للمنفى في أبعاده المتعددة، سواء: المبدعة أو المدمرة، الكريمة أو البشعة، المأساوية أو البناءة، لهي رؤية تفيض برهافة عاطفية وفكرية متميزة،. فيما استبطانه للمنفى بالذات يقوم في صلب دفاعه الحاشد والصارم عن الشرق كما هو، أو كما يفترض أن يُرىَ، مقابل الشرق المتخيل والمبني على نحو منحرف ومشوه في وعي الغرب، وكذلك في دفاعه عن الإسلام وعن العرب وعن الفلسطينيين وعن فلسطين، لقد كان دفاعاً عن صورة جرى نفيها وإحلال صورة أخرى محلها. وفي هذه السياقات المتعددة مارس إدوارد سعيد انزلاقاته الرشيقة بين الذاتي والموضوعي، وما بين ما هو خصوصي وما هو عام، دون التباسات تشوه الرؤية أو تلحق الأذى بالموقف، وربما لا يصلح قول جورج بلانديه “عن وجودنا في أعمالنا في الوقت الذي نشعر بأننا أبعد ما نكون” مثلما يصلح في هذه الآونة لإدوارد سعيد.
* أستاذ جامعي وكاتب من فلسطين.
لقد كان موت إدوارد سعيد النحيل الصارم، وصاحب الرؤيات الأصلية لأكثر القضايا الفكرية والإنسانية عمقاً وتركيباً اختتاماً مفجعا لحركة تجسدت في شخص، حارب من أجل الحقيقة بلا هوادة أو تردد في أعقد ساحات الصراع، وكان مقاومة بأكملها، ضد النفي وضد الرداءة وضد التعدي على القيم وعلى حقوق الناس والجماعات والأمم، وضد ضلال الدول والثقافات والإيديولوجيات الغاشمة والسياسات المنحطة والممارسات البائسة والأباطرة الأغبياء (الذين لا رب لهم في قلوبهم) في الغرب أو في الشرق وفي كل مكان وزمان قائم أو محتمل. لقد حوّل إدوارد سعيد الوقوف في وجه الانحطاط والاعتداء والظلم والذل والعار والجبن والخطأ والخيبة، وكل أصناف الطغيان وأنواع الطغاة إلى ثقافة نادى بها جموع الناس.
…يقول جان جينيه ” لا يدين البطل لحجم الغزوات بمقدار ما يدين لحجم التكريم” وفي هذا النحو يبدو إدوارد سعيد كبطل ومحارب حقيقي يجر تاريخاً من التكريم حياً وحاضراً، تاريخ يتواصل ميتاً وغائباً مثلما يليق بالأبطال. وفي موت بعض الأشخاص تكمن عظمة ما. حيث لا يعود الناس من مراسم إيداعهم الثرى، في عهده الأبدية والسماء كي تحزن لأجل فقدهم، بل تعود لأريج ذاكرة قادمة فوق ذاكرتهم التي ملؤا بها الدنيا وشغلوا بها الناس، وهنا يصبح الغياب الأبدي أفقاً ممتداً لحضور قادم، بصورة تجعل الميت حياً في الذاكرة على الدوام، إن هذا المعنى الذي يعطيه إدوارد سعيد للموت لا يتوفر لنا ببساطة وسهولة في كل يوم ومع كل موت. وفقط موت بعض الأشخاص هو الذي يجعل معنى الموت منشودا.
وأما العرب والفلسطينيون منهم على نحو خاص، فعليهم أن يفخروا من وسط عذاباتهم وإحساسهم العميق بالفجيعة والفقد، وخوفهم من هزيع يطوي كبارهم أيضا، لأنهم قدموا للعالم قامة هائلة بحجم إدوارد سعيد، وأما المنفى الذي لازال” هنا وهناك فلم يذهب سدىً أبداً ” بدليل إدوارد سعيد ومعانية التي ستظل حاضرة أبدا.
* أستاذ جامعي وكاتب من فلسطين.