مهرجان الشرق الأوسط : الوثائقي يزاحم الروائي

يمكن للمتتبع لمهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي في دورته الثالثة المقام حاليا في أبو ظبي والذي سيمتد إلى غاية 17 أكتوبر، أن يتشكل لديه انطباعان مهمان : أولهما إجماع النقاد والصحافيين على أن أفلام هذه الدورة مهمة ومتنوعة وهو ما يحسب للقائمين على هذا المهرجان الفتي في المنطقة أما الملاحظة الثانية وهي التي أريد أن أعرضها في هذا المقال هي الحضور المميز للفيلم الوثائقي.
يشارك في هذه الدورة من المهرجان 16 فيلما وثائقيا من أصل 129 فيلما مشاركا في جميع أقسام المهرجان. عندما نقارن مشاركة الوثائقي بالروائي عدديا لن نجد كبير فرق. فالأفلام الروائية المشاركة في مسابقة الروائي الطويل 9 مقابل 8 أفلام في مسابقة الوثائقي الطويل. كذلك فإن عدد الأفلام الروائية الطويلة المؤهلة لجائزة المخرج 11 فيلما تقابلها 8 أفلام في نفس الجائزة في القسم الوثائقي.
ما يدل أيضا على أن الوثائقي فرض نفسه أو أراد القائمون على المهرجان أن يفرضوه هو قيمة الجوائز ففي كل قسم من المسابقات لا يختلف الروائي عن الوثائقي. 100 ألف دولار هي قيمة الجائزة في كل قسم من الأقسام الأربعة التي ذكرناها دون تمييز بين الوثائقي والروائي.
ويبدو أن هذا الأمر يكشف عن رؤية فنية أو قفزة نوعية في معاملة الوثائقي في هذا المهرجان. والنظر إلى الفيلم التسجيلي على أنه عمل فني يقارع فنية الفيلم الروائي. بالتالي فإن المساواة بين الروائي والوثائقي تتعدى المسألة الكمية وعدد الأفلام المشاركة وقيمة الجوائز، إلى الرؤية السينمائية والإبداعية. وهذه الرؤية مثلما ترجمتها المعطيات الكمية ترجمها أيضا حضور الجمهور والصحافيين والنقاد في تعاملهم مع الوثائقي.
فلعل من النادر أن ترى وتسمع حضورا في المهرجانات يتراكضون نحو الوثائقي بالطريقة التي كان عليها الأمر في مهرجان أبو ظبي. حتى أن بعض الأفلام الوثائقية شهدت إقبالا أكثر من الروائية نفسها. ففيلم “جيران” للمخرجة تهاني راشد لم يكن فيلما عاديا في قاعة المهرجان. عرض هذا الفيلم مرتين على التوالي يومي 10 و11 أكتوبر وكان الحضور الجماهيري مكثفا في العرضين بل فاق العرض الثاني الأول عددا. وسنعود في مقال قادم لتقديم قراءة مفصلة لهذا الفيلم.

 من فيلم الجيران لتهاني راشد

فيلم 1958 لغسان سلهب من لبنان كان أيضا فيلما ملفتا وشاهده الجمهور بتمعن ودون ملل رغم الكم التجريبي في البناء الإخراجي للفيلم القائم على تداخل الأصوات والصور إلى حد السريالية التي هي من أصل الموضوع وهو ذاكرة الفرد والجماعة حينما تتقاطعان بحثا عن أمل في ماض حاضر. وهي رؤية فنية  ربما لم نعتد عليها كثيرا في أفلامنا الوثائقية.
  من الأفلام الوثائقية الأجنبية التي شدت جمهورها وعرضت في أكبر قاعة في المهرجان وهي قاعة قصر الإمارات التي شهدت حفل الافتتاح فيلم “مبدأ الصدمة”. احتضنت هذه القاعة هذا الفيلم المشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة وهو للبريطانيين مايكل وينتربتوم ومات وايتكروس. حضر من الجمهور في العرض الأول ما يقارب الخمس مائة شخص على أقل تقدير. كان الفيلم مدويا كاشفا لحقيقة النظرية النفسانية التي قام بها عالم النفس الأمريكي إيوين كامرون ويسميها بمبدأ محو ماضي المريض النفساني ليعيش الحاضر على نحو مختلف. ثم أخذت النظرية بعدا اقتصاديا مع هملتون فريدمان الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد مؤسس ما يسمى بمدرسة شيكاغو التي ترفع شعار خصخصة القطاع العام وضرب كل شكل من أشكال نفكيك النظام لبناء نظام اقتصادي جديد. يتتبع الفيلم بالوقائع التاريخية كيف تحولت تلك النظريات إلى عقيدة إيديولوجية دافع عنها الساسة الأمريكان وبدؤوا بتطبيقها على الشيلي أيام الدكتاتور بينوشي بعد التخلص من أليندي ثم انتقل الأمر إلى البرزيل والأرجنتين وصولا إلى الاتحاد السوفيتي فأفغانستان لتصبح العراق النموذج المثالي لنظرية الصدمة وتفكيك النظام التي رسخها الذين أطلق عليهم الفيلم اسم “فتيان شيكاغو”. صفق الجمهور الأجنبي في غالبيته حزنا على ما لم يفهموه في سياسة دولهم وإعجابا بقدرة الوثائقي على كشف المستور. 

جمهور الافتتاح في قاعة قصر الإمارات 

هذه النماذج الوثائقية الثلاثة وغيرها سيعرض تباعا في المهرجان جعل مسابقة الوثائقي مليئة بالتشويق والروح التنافسية القوية. كما بينت لجميع المراقبين صعود هذا النوع السينمائي سالكا طرقه الوعرة غير مبال بما يقال عنه. ويظل هدفه الوصول إلى منصة الإبداع وقلوب الناس. لذلك فباستثناء فيلم الافتتاح وبعض الأفلام المعدودة لم نر اختلافا في عدد الجمهور بين الوثائقي والروائي. لعلنا نستثني أيضا الأفلام الهندية بحكم عدد الجالية وتقاليد السينما الهندية التي جعلت من الفيلم سلوكا اجتماعيا للإنسان هندي.
يبدو أن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث أرادت أن تعطي الفرصة للفيلم الوثائقي وتخوض مغامرته. وبالتالي تؤسس لمفهوم علمي للسينما في منطقة يعز فيها الإنتاج السينمائي. ومن دواعي علمية هذا التوجه هو إنعاش الوثائقي وترسيخه كثقافة. وبحسب المعطيات التي ذكرناها فنرى أن الهيئة قد توفقت إلى حد كبير في ذلك.
ويأتي هذا الاهتمام في ظل اهتمام إعلامي بالفيلم الوثائقي في أبو ظبي حيث افتتحت منذ أشهر قناة فضائية وثائقية تعرب أفلام الناشيونال جيوغرافيك العالمية. وهي خطوة تنضاف إلى قناة الجزيرة الوثائقية في قطر في انتظار المزيد من التجارب.


إعلان