الزمن الباقي : سيرة الحاضر الغائب 2/2
III) بناء السرد:
هشاشة البناء الحواسي الحركي (sensori-motrice ) وانطماس الصورة السينمائية تحت وطأة شريط الصوت.
تتمثّل هذه الظاهرة الملفتة في انكسار خط الأحداث وتشظيها، من حصول للنكبة وقنص المناضلين، إلى تشرّد الفلسطينيين في الشتات إلى أحداث الحاضر كموت الأب (فؤاد سليمان) وعزلة للأم، حتى يكاد الفيلم يفتقد إلى مسار يصهر الأجزاء في كل موحد أو يجعل حدثا يرتبط عضويا بآخر ارتباط السبب بالنتيجة أو المثير بالاستجابة وحتى يكاد يتحوّل إلى مقطوعات تتجاور بدل أن تتفاعل. وهذا ما يمثل هشاشة للبناء الحواسيّ الحركيّ ووهنا يحد نمو حركة السرد والتصاعد الدرامي.
تؤثر هذه السمات المميّزة لانتظام الأحداث عميقا في بناء الشخصية وفي حركتها في الفضاء فتأتي حركة مفتقدة للوجهة أو الدافع أقرب إلى نزهة أو تيه. فما سر ذهاب إليا إلى رام الله وعودته إلى داخل الخط الأخضر ممتطيا زانة؟ وما سر التقائه في المشفى بالشبان الفلسطينيين؟ لا يجد المتقبل غير صورة للتيه التي ذكرنا. إن تشظي الأحداث هذا عنصر يسطح الشخصية ويذكي سلبيتها ويقصر دورها في متابعة الأحداث بدهشة بدل المساهمة فيها ويحول الفيلم إلى مشاهد وصفية منفصلة كشأن إليا الجالس في الشرفة أو المقهى أو في سيارة الأجرة أو المشفى في صمت يراقب الوقائع ويشارك المتفرج الفعلي في قاعة السينما فرجته عليها. تعمل الشخصية السلبية هشاشة البناء الحواسي الحركي في فيلمنا الزمن الباقي ، باعتبارهما وجها من وجوه الحداثة السينمائية حسب ديلوز، على تعميق الوعي المأساوي بعجز الإنسان الفلسطيني على الفعل في واقعٍ مشكّل ما قبليا يهدف إلى تأبيد تهميشه ويحاصر حاجته إلى التحرر.
° إليا سليمان:
أضحت الشخصية الرئيسية سلبيّة مسطحة تشارك المتفرّج فرجته على الواقع أكثر مما تشارك بقيّة الشخصيات التأثير في أحداث الفيلم
مقابل وهن البناء الحواسي الحركي بما هو اختيار جمالي ودلالي، يعمل المخرج على تفعيل شريط الصوت وتحويله إلى معين يصل بين شتات الأحداث وفواصلها. فيأتي الفيلم غزيرا بالأغاني العربية يوازي بين دلالة الأحداث ومضمون الأغاني ففيروز تلهج بالغناء عن “كسر الخواطر” في لحظات انكسار الشخصية ومحمد عبد الوهاب يصدح ب”جفنه علم الغزل” في لحظات الوجد التي يعيشها فؤاد سليمان ولما تشتد به العلّة ويجري عملية على القلب المفتوح تغني ليلى مراد “أنا قلبي دليلي قلي حتحبي”. وحينما يرغب إليا في استدعاء ذكراه إلى ذهن أمه بعد موته يشغل الجهاز فنستمع إلى نجاة الصغيرة تغني “أنا بأعشق البحر لأنو زيك يا حبيبي مسافر ومهاجر”.. وكما يفتقد الزمن الحاضر أصالته ويغدو هجينا يفتقد شريط الصوت أصالته فيرد مائعا ميوعة الشباب الفلسطيني المتخذ من الملاهي ملجأ عساها تحميه من سطوة الواقع الممض.
![]() |
إيليا سليمان
° فؤاد سليمان (الأب) بين علة الوطن وعلة الجسد
إن نزعة المخرج التجريبيّة على مستوى استغلال شريط الصوت بيّنة تعمل على حلق حوارية بين “الزمن الباقي” والأغاني باعتبارها نصوصا شعرية وموسيقيّة. ولئن كانت الموسيقى في الفيلم عامة تسعى إلى إثراء الفرجة والتأثير في عمليّة التقبل بتوجيهها ضمنيا إلى سبيل دون آخر وترشيح محور من دلالة الصورة على حساب ثان فإن الموسيقى في “الزمن الباقي” جاءت مشبعة حنينا إلى هوية عربيّة يتهدّدها خطر الاضمحلال سادّةً لفراغات يخلّفها انتظام خط سرد متعدّد الشروخ. ولكن بدلا من الحوارية بين النص الفيلمي والنصوص الغنائيّة ونظرا لهشاشة البناء الحواسي الحركي، سريعا ما استأثرت هذه الأغاني بدور خلق الأحداث في ذهن المتفرّج الضمنيّ فلا يستطيع أن يقاوم الإحساس بعذاب الزوجة وتذكرها لرحلات صيد زوجها فؤاد لما تستمع إلى نجاة الصغير وهي تعقد الصلة بين حركة الأمواج وهجر الحبيب في أغنيتها ولا أن يقاوم لحظات الرومانسية التي تستعيدها على أنغام موسيقى فيلم التيتانيك..
تحوّل هذه الاختيارات الجمالية، الموسيقى والنصوص الغنائيّة إلى بديل يصهر شتات الأحداث ويمنحها انتظامها العضويّ وتمنحها دورا فاهلا حتى تكاد الصورة تُهمّش وتنطمس وتتحول إلى تابع ينفعل بالأغاني وينجذب إليها بدل أن يفعل فيها وأن يفرغها من دلالاتها الأصلية وأن يشحنها بدلالات جديدة متولدة من رحم الصورة السينمائيّة وما تنطوي عليه من عبقريّة وهذا لعمري سقطة الفيلم المدوية بين علامات مضيئة كثيرة.
يبدأ الفيلم بالزمن الحاضر فيطلّ علينا إليا سليمان وهو يضلّ الطريق ويفتقد الرؤية بفعل الإعصار ويعجز عن متابعة المسار بسبب نفاد البنزين من سيارته. وينتهي بالحاضر أيضا لما يراقب إليا الشباب الذي يتنكر لقضيته ويُضيع ملامح الطريق فيسلك سلوك الإجرام بدل أن يتبع سبيل المقامة فإذا الدائرة تنغلق. وبعد نسيان العالم للمأساة الفلسطينيّة ينسى الفلسطينيون أنفسهم مأساتهم ليتساءل المتفرّج المنتبه إلى تناص فيلم إليا سليمان مع فيلم فرنسوا أوزون الحامل للعنوان نفسه (الزمن الباقي Le temps qu’il reste) والذي يعرض حكاية عليل ينتظر الموت، هل أن القضية الفلسطينية غدت رجلا مريضا ينتظر قدره؟ نخشى أن تكون الإجابة ما يرد على لسان بائع الجرائد “الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش “.