تجربةهالة العبد الله: السينما الوثائقية أمر مصيري
في تلك الفترة التي كانت تشهد حراكاً ملفتاً في سورية السبعينات تعرفت هالة إلى السينما بالصدفة من خلال النادي السينمائي القريب من بيتها، وهو النادي السينمائي الوحيد في دمشق وقد بدأ منذ بداية الستينات؛ يعرض فيه فيلم كل أسبوع يتبع بنقاش بين الحضور، وكان من أعضائه مخرجون مثل عمر أميرلاي ومحمد ملص، وغيرهم من غير العاملين بالسينما من الشباب المتحمس والمهتم، وبعد ذلك ولأسباب لها علاقة بأوهام الالتزام السياسي كما تقول هالة درست الهندسة الزراعية لأنها كانت مؤمنة أن البلد في حاجة إلى ثورة زراعية ثم تفرغت للعمل السياسي.
وفي عام 81 غادرت إلى فرنسا وكان من الصعب عليها أن تدرس السينما في المعاهد الاختصاصية دون منحة دراسية أو كان عليها تحصيل الشهادة الثانوية من جديد. ثم درست الوراثة إخلاصاً للزراعة والأنثربولوجيا لمقاربة السياسة والاجتماع وعملت في باريس في مهن متعددة من السكرتارية إلى الصحافة وغيرها لتكسب عيشها حتى قررت في النهاية الانضمام إلى جامعة باريس الثامنة لدراسة السينما.
![]() |
هالة العبد الله |
* ماهو دور التجربة العملية في تجربتك بالإضافة إلى الدراسة؟
“سنحت لي الفرصة الذهبية التي رسمت خط علاقتي الحقيقية بالسينما وهي عملي في فيلم نجوم النهار لأسامة محمد في العام 1987، كانت هذه التجربة هي مدرستي الأولى، هنا بدأتُ أتعلم السينما حقاً من خلال التجربة العملية.. وشيئاً فشيئاً بدأت السينما تحتل المركز في حياتي. وتتالت بعد ذلك المشاركات مع مخرجين آخرين حتى فيلم الليل مع محمد ملص الذي كان بالنسبة إلي معركة حقيقية: كان المشروع معقداً وصعباً، ورغم ضخامة التمويل السوري المخصص لإنتاج الفيلم فإنه لم يكن كافيا، فكانت أولى المهام التي أخذتها على عاتقي تأمين تمويل إضافي أوروبي والإشراف عليه، وبعد ذلك إقناع مؤسسة السينما في سورية للمضي في تجربة “الإنتاج المشترك” وكانت مهمة حساسة ودقيقة بسبب غياب الثقة وغياب الخبرة لدى المؤسسة بكل ما يمت بصلة للإنتاج المشترك مع الأوروبيين، بعد ذلك رافقنا أسامة محمد وأنا، محمد ملص في كل مراحل العمل. تابعت المراحل المعقدة للكتابة ثم الديكوباج ورافقته في مواقع الاستطلاع وكل فترة التحضير وفترات التصوير ومن ثم كنت أيضاً في مرحلة المونتاج والمكساج في فرنسا.
كانت هذه التجربة الطويلة والكثيفة والغنية معموديتي الحقيقية التي عبرت فيها إلى جسر التفرغ للعمل السينمائي دون عودة”
* ماذا بعد هذه التجربة المعقدة لفيلم ضرب أرقاماً قياسية في زمن تنفيذه كما نعلم؟
أصبحت آخذ على عاتقي في الأفلام اللاحقة المهمة التي أستطيعها حسب حاجة المشروع متنقلة من الكتابة الأولية إلى تأمين الإنتاج أو إدارته أو المشاركة بالإخراج أو متابعة المراحل النهائية لمونتاج الصوت والصورة. وعلى مدى عشرين عاماً عملت فيها مع مخرجين سوريين ولبنانيين وأكثر من خمسة عشر مخرجاً فرنسياً، هذه التجارب الغنية لي مع أفلام الآخرين ترسبت في أرضية خلاياي ورسمت لي نقطة للانطلاق بعيدا عنها وللركض الحر. تراكمها سمح لي في النهاية، عندما أقدمت على انجاز أفلامي أن أدير ظهري لها ولكل ما تعلمته منها وأنظر فقط إلى داخل شراييني ونبضي الخاص. إن أهم شيء بعد كل ما يتعلمه المرء مع الآخرين هو أن ينصت إلى نفسه ليقول كلمته بطريقته التي تشبهه والتي تحمل صرخته وألمه وألوان روحه. ما تعلمته أيضاً من تجربتي الطويلة مع أفلام الآخرين أنه بقدر ما يستطيع الإنسان أن يدفع ويكسر من حوله الهوامش التي تحد وتضيق الإطار الذي يرى الدنيا من خلاله، بقدر ما يكون ذلك لصالح الفن ولصالح الذات في نفس الوقت. إن السعي باتجاه الحركة، يحرر النفس ويدعو الآخرين لتنفس الهواء الحر معك… إن الذهاب باتجاه السؤال، باتجاه الشك هو ما يجعلك تبقى حيا.
![]() |
“لا تنسى الكمون”
في العمل الفني الذي أطمح له تتشكل دوما علاقة ذهاب وإياب بين الشكل والمضمون، حرية هذه العلاقة هي التي تسمح بالحركة بين هذين القطبين فتنتج عجينة من اندماجهما بحيث لا تستطيع فصلهما عن بعضهما”ماذا عن الغربة والإقامة في فرنسا؟ كيف أثرت إقامتك في الخارج على رؤيتك للسينما التسجيلية؟
“أعتبر أن السينما الوثائقية موضوع مصيري، ليست ثانوية ولا ترف، هي شكل من أشكال التعبير الفني لا بد منه لتفعيل حركة المجتمع، إنها أداة للتعبير تساعد على تحرر المجتمع ونهضته. تولدت لدي هذه القناعة لأنني عاينت أهمية السينما في الخارج وتجارب أميركا اللاتينية مثلاً أو أفريقيا.. السينما الوثائقية هي رفيق حقيقي لمجتمع يحاول الوقوف، يحاول أن يتلمس الطريق لمستقبله. ولكن مجتمعاتنا لا تعي هذه الضرورة ولا تبحث عنها، للأسف هناك شبه قطيعة بين الجمهور العربي وهذا النوع من السينما.
حتى المخرجين هنا ليست لديهم هذه العلاقة الحميمة والمصيرية مع السينما التسجيلية، إلا في حالات نادرة، بل هي علاقة يسودها الجفاء وعدم إيمان بفاعلية هذا النوع وضرورته وأهميته.
في باريس ومع أن الجمهور هناك لديه فرصة مفتوحة ولا نهائية للإطلاع ولرؤية ما يرغب كيفما التفت، إلا أنه لا يفوت فرصة متابعة السينما الوثائقية فتجد ازدحاماً شديداً على مهرجانات السينما الوثائقية التي تعتبر مساحة إضافية للمعرفة والوعي!
هناك تجارب شابة هامة وطاقة كبيرة داخل البلد ولكن أكثرها يصب في التجارب الشكلانية واكتشاف التقنيات الجدية وتطويعها وأعتقد وآمل أن هذا الجيل الجميل لن يتأخر عن اكتشاف أهمية أن يشحن عمله بروح تحمل هموم المنطقة، تعبها، معاناتها، دمعتها، ضحكتها، فرحها وأحلامها.
* أكثر ما يلفت نظر المتابع لتجربة هالة تلك الرغبة الكبيرة لديها في الانعتاق والتخلص من القيود كما يتجلى ذلك أولاً عند شخصياتها المرصودة في كلا الفيلمين “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” و”هيه، لا تنسي الكمون” ماهو مفهومك للحرية في العمل الإبداعي؟
الحرية مرتبطة بالاستقلال وشعورك إلى أي درجة أن الأرض التي تلعب عليها هي أرضك، ودون أن يوجد حَكَم يفرض عليك قواعد للعب، كشروط لأغراض سياسية مثلاً، أو لتفاصيل تتعلق بما يخص الإنتاج و التوزيع والتسويق..
من ناحية أخرى فللأسف أن مفهوم الاستقلال كما يعبر عنه في عبارة السينما الوثائقية “المستقلة” أصبح مفهوما معلوكا ومستهلكا؛ الاستقلال نسبي، فمثلاً المخرج المستقل في أوروبا يقصد به المستقل عن القطاع الخاص والمدعوم من قبل الدولة أو المؤسسة الحكومية، تقدم له الميزانية أو جزء منها دون شروط فتجعله “حراً” منعتقاً من شروط القطاع الخاص، بينما في أي دولة عربية، فعلى العكس؛ فكرة الاستقلال تعني الاستقلال عن الدولة أو المؤسسة الرسمية. وللأسف تبقى محاصرا حتى النهاية فعلى فرض توافرت لك كل الاستقلالية التي تهواها أثناء صناعة الفيلم؛ المشكلة الأساسية بعد إنجازك له، كيف سيسوّق ومن سيراه وكيف؟!
* والحرية بالمستوى الآخر؟
“عندما أبدأ بالتفكير بمشروع فيلم لا تشغلني النتيجة ولا ما سيؤول إليه الفيلم. أحاول أن أنعتق من كل قيد. أرمي نفسي في الهاوية مؤمنة بأن أجنحة الفيلم ستحملني. أهم شيء رغبتك التي تناديك للمضي نحوها، وأنت بالتالي تدعو المتلقي للمضي معك في الاتجاه نفسه، ليتذوق معك طعم المغامرة ورهبة هذا الطيران.”
ماذا عن الحياد في الفيلم التسجيلي؟ هناك من يقول بمجرد اختيار المخرج لموضوعه يكون قد كسر مبدأ الحياد وهكذا عليه فيما بعد أن يتحلى بشيء من الحياد لألا يتحول الفيلم إلى مانشيت، كيف تنوس القيمة الفنية للفيلم التسجيلي بين قطبي الحياد والرأي الشخصي؟!
“الحياد هو الكذب،إن وجد. الحياد غير موجود. عندما أقارب موضوعا ما فأنا أنحاز.. وأنا مع.. وأنا ذاهبة باتجاه.. فلا يمكن أن أكون موضوعية. عندما تصور مشهداً تختلف حتماً في رؤيتك له عن شخص آخر يصور نفس المشهد والتفاصيل ذاتها. عندما تكون وراء الكاميرا تكون لديك السلطة لكي ترى كما تريد وتوجه الانتباه إلى ما تراه مهماً، توجه الضوء إلى حيثما تشاء، إلى حيث يقودك ضميرك وعينك. هكذا لا مكان للحياد. السينما الوثائقية عندما تكون موضوعية وحيادية تصبح ريبورتاجاً، تصبح نسخة مسطحة عن الواقع لا طعم لها ولا رائحة. عندما تمسك بموضوعك تصبح جزءا منه، تؤمن بما بين يديك وتدافع عنه. إن مصداقيتك تأتي من صدقك مع نفسك ومع تناولك للموضوع وليس من حياديتك وموضوعيتك.
* عودة
لقد درست هالة العبد الله الهندسة الزراعية بسبب ثقافة كانت سائدة يطغى عليها مفهوم الالتزام السياسي، كما وصفته، مبتعدة عن ذاتها وفرديتها بقدر ابتعادها عن السينما، والذي حصل ربما وبمرور السنوات ونضوج الخبرة بكافة مستوياتها، عودة العبد الله إلى ذاتها وإلى السينما في آن، لتكون تلك العودة هي حامل المشروع الفني بحد ذاته، هي الفكرة، الشكل والمضمون معاً.