عودة المثقف إلى عباءة المنتمي

في وثائقي :”ثرثرة فوق البحر”

كتب : عيسى الشيخ حسن

في الفلم الوثائقي :” ثرثرة فوق البحر” المتماهي برواية نجيب محفوظ ” ثرثرة فوق النيل” ، وكأنه يرسم خطاً زمنياً بين نقطتين البعد بينهما ثلاثة وأربعون عاماً ، ماراً بنقاط أخرى تقع بين المرحلتين. فرواية ” ثرثرة فوق النيل ” التي كتبها محفوظ عام 1966 م قبيل النكسة ، وفي ذروة تفاعل ثورة يوليو مع المجتمع ، منبهاً إلى خلل خطير في الدولة ، يتمثل في انتشار نموذج اللامنتمي كردّ فعل على نظام شمولي لايعترف بذاتية الفرد، التنبيه الذي  أثار سخط أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين كادوا أن يعاقبوا محفوظ لولا تدخل الرئيس عبد الناصر ، قائلاً :” هو احنا عندنا كم نجيب محفوظ؟ …. من واجبنا أن نحرص عليه كما نحرص علي أي تراث قومي وطني يخص مصر والمصريين‏.‏” .
محفوظ رصد في ” ثرثرة فوق النيل ” نخبة مصر الانهزامية وموقفها من الثورة عبر شريحة من المثقفين :” كاتب قصة ـ ناقد سينمائي ـ حقوقي ـ ممثل ـ موظف حكومي ـ مترجمة ـ طالبة جامعية ” يسهرون في مركب عائم على النيل :” عوامة :” عازفين عن المشاركة في الشأن العام ، لأن هناك من يتولى هذا الأمر نيابة عنهم ، غارقين في الشراب و الحشيش و العلاقات غير المشروعة، راسماً صورة قاتمة للمجتمع المصري الذي يستشري فيه نموذج :” اللامنتمي “.

عام 1966 كان قد مضى على ثورة يوليو 14 عاماً وقد صلب عودها ونضجت تجاربها ، و زادت أخطاؤها في المقابل، الأخطاء التي قادت إلى هزيمة عسكرية بعد عام.. والتي كتب عنها محفوظ روايته الانتقادية التالية ” الكرنك”. وبعد أربعين عاماً و بالتحديد عام 2006 تغرق عبارة السلام 98″ عام 2006، ضحية الإهمال والفساد وغياب حالة الوطنية
المكان في ” ثرثرة فوق النيل ” عائم رجراج مرتبط باليابسة  بحبل ..هو حبل السرة الذي يبقي أهل العوامة في أمان قريباً من اليابسة . الذاهبون إليه نخبة البلد الذين استقالوا عن واجبهم كاحتجاج صامت على تغييب الفرد في المرحلة الجديدة رغم نبل المقصد.
في حين تنقطع العبّارة عن أي صلة لها بالأرض ، أهل العبارة في خضم البحر ، متروكين للموج و الريح و أعطال السفينة المهملة ، في ” ثرثرة فوق النهر ” النخبة في العبارة و الشعب على اليابسة وفي ” ثرثرة فوق البحر” الشعب في العبارة ، و النخبة على اليابسة، بعد أربعين سنة  الشعب و النخبة يتبادلان المكان.
وما بين العوامة و العبارة ، أو ما بين الثرثرتين يقرأ الناظر تحولات المشهد الاجتماعي في مصر ، النخبة ” اللامنتمية ” تتعاطى حشيش الانبساط و النسيان ، و الشعب ” اللامبالي ” ينسى همومه مع ” مباريات الكورة” ويطالب بعض المسؤولين باعتبار الذي مات فيه أكثر من ألف مواطن غرقاً ..عيداً قومياً لأن الرياضة ” حشيش الشعب” حظيت بانتصار المنتخب في مباريات الكرة.
في الثرثرة الأولى تدهس عربة المثقفون فلاحة مسكينة لم يلقوا لها بالاً ، وفي الثرثرة الثانية يلقى 1185 فلاحاً مصرعهم غرقاً ، وتدهسهم عربة الإهمال التي تقلّ السلطة و الشعب على السواء.
تسكن حكايات الماء و الغرق الثقافة المصرية منذ أمد بعيد ، وتشكل رموزها المتقاطعة و المتوازية في آن :” عروس النيل ـ تابوت النبي موسى عليه السلام في اليم وهو رضيع ـ غرق الفرعون في البحر”   تتفق على أن النهر رمز أمومة و احتضان و أن البحر رمز للهلاك .
هناك دائماً مياه وغرق لبلاد يحيط بها البحر من نصف جهاتها ، و يرفدها نهر عظيم نسبت إليه في الكتابات القديمة :” مصر هبة النيل” بحسب هيرودت أو هيكاثيوس في رواية أخرى. ولهذا تحضر ثنائية الماء و اليابسة في حكايات الجفاف و الخصب و الطغيان.
وكما تفرد رواية محفوظ مساحات لأشخاص روايته، فإن الفلم الوثائقي يفرد مشاهد متتالية ومتوازية لشهادات ذوي الغرقى ، مشفوعة بشهادات لمثقفي البلد من السينمائيين ” وحيد حامد ـ أسماء البكري ـ وجيه عزيز ـ خالد صديق … وغيرهم ” يدينون فيها النظام و الشعب على حدٍّ سواء لهذا التعاطي غير المسؤول مع القضية .
                        ***

وإن كانت ” ثرثرة فوق النيل ” قد وثقت للحال الاجتماعية لمصر بعد أربعة عشر من الثورة ، الوثيقة التي تسجل انسحاب النخبة إلى الصفوف الخلفية ، فإن ” ثرثرة فوق البحر” وثقت لعودة المثقف إلى عباءة المنتمي ، لأن الثقافة ـ وفق أحد تعاريفها ـ ما يبقى لدى الجماعة إذا فقدت كلّ شيء ، وبالأحرى أن يبقى المثقف إذا فقدت البلاد كل شيء. 


إعلان