“الزمن الباقي”:سيرة الحاضر الغائب” (1/2)
يمثل “الزمن الباقي” – ذلك الفيلم الروائي الطويل للمخرج والممثّل السينمائي الفلسطيني إيليا سليمان صاحب رائعة “يد إلهية ” الفائز بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان عام 2002 – حدث المهرجانات والقاعات السينمائية العربيّة على أيامنا لما يتميّز به من طاقة تأثيريّة تنتزع المتفرّج من حياده وتزج به في إحساس مر بخيبة الأمل ولعل ذلك أن يعود إلى ما ينطوي عليه من لغته سينمائية قدت لتحفر في الشجن ولتثير هما يخشى صاحب الفيلم أن يسقط بالتقادم
![]() |
إيليا سليمان
I) العنوان عتبة الفيلم المخادعة:
كثيرا ما مثّل العنوان في الأثر الفني اختزالا أقصى للمضمون يقترحه المؤلف توجيها للاهتمام إلى محاور دون غيرها وخلقا لأفق انتظار قد تُصدقه لاحق الأحداث أو تخرقه مما يوفر هامش مناورة يخوّل له ملاعبة المتقبّل مسايرةً أو خداعًا، ملاعبةً تخلق لذة الاكتشاف.. وعنوان فيلم إليا سليمان “الزمن الباقي” المشارك في مهرجان كان السينمائي في شهر ماي 2009 عنوان غامض احتاج إلى تفريع يوضّح ما غمض من الأصل فكانت العبارة “سيرة الحاضر الغائب” عتبة أساسية تربط الماضي بالراهن وتمنح معنى للفيلم أو لتوقعات أولية حوله على الأقل. ولعلّ التوقع الأول لمتفرّج ضمنيّ على حد أدنى من الوعي الأجناسي أن يذهب صوب فنّ السيرة الذاتية. وسرعان ما تصادق الفرجة على هذا التوقّع وتزكيه. فالمخرج يجعل من شخصية إليا سليمان (اسم المخرج نفسه) شخصية رئيسية مواكبة لأهم أحداث الفيلم فإليا الطفل يعيش حالة الاغتراب الذي يعيشه عرب 48 عامة ومأتاه ما يترسّخ في شخصيته من كون الدولة الإسرائيليّة كيان مغتصب للأرض يعامل العرب بعنصريّة وتهميش أولا وما تمليه عليه المناهج الدراسية من سلوك فيتغنى في الكورال ـ في ظل تعليم رسمي يهودي ـ بتحقّق الحلم أخيرا وبكون الانتصار “ليس مجازا أو حلما وإنما هو حقيقة في منتصف النهار” وإليا المراهق يمرّ من الوعي بالمصير إلى محاولة تغييره فيشارك في المظاهرات ويمزّق العلم الإسرائيلي في ذكرى يوم الأرض أما سليمان الكهل المشرف على الشيخوخة فيندحر في ذاته ليجتر ذكرياته ويراقب المشهد ويموت غمّا (يمثّل إليا سليمان نفسه الدور في هذه المرحلة من الفيلم).
ومقابلة هذه القراءة الأولى التي ظل المخرج نفسه يصادق عليها في أكثرمن مناسبة يكشف لنا تبصّر الفيلم تبصرا واعيا أن هذا المسار التأويلي مسار هش لا يحضر إلاّ لخداع المتفرّج في ملاعبة تخفي مسارا آخر ولكنها لا انفك تلمح إليه هو ذلك البعد الغيريّ من الأثر، الكامنُ خلف حجاب الذاتي.
رغم ما يورده المخرج في الفيلم من إشارات إلى الأحداث الحقيقيّة كالتهجير القسري للفلسطينيين ومن إشارات إلى الشّخصيات الآدمية الحقيقية كذكر أفراد العائلة يظل الفيلم بعيدا عن السيرة الذاتيّة وتظلّ شخصية “إليا سليمان” شخصية فيلمية يصنعها الخيال من حزمة أضواء وذبذبات أصوات يتأكّد بعدها الغيريّ من خلال مظهرين خاصة هما غياب مقومات السّيرة الذّاتية وسطوة الصورة الموضوعية على التقطيع الفنيّ.
غياب مقومات السّيرة الذاتية:
من سمات السّيرة الذاتية شدّة الصّراع الذي يخوضه البطل. فيأتي صراعا متعدّد الأوجه يُخاض ضد مجتمع معرقل، يحدّ بقيم البالية من جموح عبقرية الفرد. ومن سماتها الأثيرة، ذلك الرّبط المفتعل بين أحداث مركزية تعيشها الشخصية لمنح السرد سيولته ومنح الأثر انسجامه ولإكساب اختيارات الذات المبررات المنطقية والأخلاقية بما يمجّدها وينتقم لها من خصومها. وفيلم “الزمن الباقي” “بريء” من هذه الاختيارات الفنّية فلا صراع خارجيّ تخوضه شخصية إليا سليمان ذلك أن مصيرها قد تقرّر قبل ولادتها أصلا، لما قامت الدّولة اليهودية ولمّا ضرب أغلب الفلسطينيين في الأرض وتحول بعض آخر إلى أقلية تعيش غريبة في الوطن نفسه. وكما تشتّت الفلسطينيون تشتت أحداث الفيلم فجاءت صدى لشخصية متشظية تجترّ ذات فرد عاجزة وخيبة وطن يتهاوى وخيبة الإنسان مطلقا تعري محنة فلسطين رياءه وتكشف زيف قيمه. وإجمالا لم يجعل الفيلم، بقصد ونية، من الانتصار إلى الذات غاية له ولا من تبرير منجزها همّه. بل على العكس تماما، فقد ظل يعمل على فضح عجزها وجلدها جاعلا من ضياعها وسلبيتها في مواجهة الواقع نموذجا لعجز وطن يسير نحو الضياع والتآكل.
سطوة الصورة الموضوعيّة على التقطيع الفني:
يمثّل التّقطيع الفني وزوايا التصوير مظهرا ثانيا يجعل من الفيلم سيرة غيريّة. فنادرا ما كانت الصّورة في الزمن الباقي” صورة ذاتية يتقاطع فيها إدراك المتفرج بإدراك شخصية إليا سليمان بحيث تلتقط الكاميرا ما تلتقطه عيناها. وغالبا ما كانت هذه الصورة صورة موضوعية تقترح على المتفرّج زوايا متعددة للإبصار وهو ما يصطلح عليه فرتوف بالعين الكاميرا أو ما تصطلح عليه سيميوطيقا السينما بالمصور الأكبر (le grand imagier) فيكون نظيرا سينمائيّا يضطلع بدور الرّاوي العليم في السّرد الأدبي.
![]() |
II) الفيلم بين الكوميديا والملنخوليا (Mélancolie)
لا يكاد إليا سليمان يخرج عن أسلوبه المميز النازع إلى الكوميديا ف”الزمن الباقي” يرشح مشاهد هزلية على نحو صورة العراقيّ الذي يعمل على تحرير الجليل إثر النكبة فيُضيع الطريق ويسير في الشّوارع على غير هدى ويبقى هو نفسه في حاجة إلى من يحرّره من ضياعه أو صورة السكّير، جار عائلة سليمان بالناصرة، الذي يهدّد كلما استبدت به حالة السكر واشتد ضيقه جرّاء حالة الامتهان التي يعيشه في ظل الاستعمار، بالانتحار ولما يسكب على نفسه البترول يظل يستجدى موقفا شهما ينتزع الكبريت من يده ويقوده إلى منزله أو صورة الجندي الإسرائيلي في العربة المحصنة في رام الله ينادي الشباب الفلسطيني المنغمس في رقص غربي محموم معلما إياهم أن المدينة واقعة تحت قانون حظر التجول ولكن الرقص يشتدّ فلا يتمالك هو نفسه عن الانخراط فيه. لقد مثّلت أغلب شخصيات الفيلم موضوعا لهزل المخرج من فلسطينيين وعرب وإسرائيليين بل إن إليا نفسه كان مصدرا لهذا الهزل لما تضيق به الحيلة فلا يجد من بد لتجاوز الجدار العازل غير الالتجاء إلى الزانة محققا قفزة رشيقة يُحصّل بها مبتغاه. ولكن الكوميديا في الفيلم لا تبعث على الترويح عن النفس والتسلية بقدر ما تصرف الأنباه إلى مفارقات الواقع الفلسطيني وتبرز ما يكمن طيه من قسوة وعبث وعُسف بأسلوب يمكن المبدع من الانفصال عن موضوعه والتجرّد منه بما ينشئ تباينا بين المحتوى القاتم للفيلم والطريقة المتفكّهة في معالجة أحداثه وبما يصنف هذه الكوميديا ضمن السخرية السوداء.
لقد جعلت السخرية السوداء فيلم “الزمن الباقي” يزخر طاقة تنبثق من المسلّي وتشعّ إيلاما. وما تكرار الأحداث بشكل روتيني في سكر الجار أو في رحلات فؤاد سليمان ( والد إليا والمناضل الذي رفض ترك السلاح ومغادرة الوطن بحثا عن ملجإ أمين) للصيد ليلا ولقائه المتكرر بدوريات المراقبة الإسرائيلية في سيناريو ساخر معاد، سوى إعلان هازل عن توقف الزمن من حياة الفلسطينيين عند لحظة المأساة منه وآلية دفاعيّة يعتمدها الفيلم لتهميش الواقع والسخرية منه.
ومقابل هذا الأسلوب الهازل والفكاهة العابثة جاءت سيرة عائلة إليا سليمان في مراحلها المختلفة ترشح ألما فكانت نموذجا لحياة الفلسطينيين من النكبة إلى هزيمة 67 إلى موت عبد الناصر إلى حاضر اللامعنى والموت البطيء حياةٍ كان الهروب عن المواجهة عنوانها الأبرز من هجر للديار أو ترك للسلاح أو استسلام إلى الخمرة عساها تجود بانتصارات وهميّة وحلول عبقرية تحرّر الوطن أو هجرة إلى البحر لملاحقة أسماك لن تجد طريقها على صنارة الصياد أبدا فلا تكون الحصيلة غير رطوبة تزيد في تعكير حالة فؤاد الصحيّة وتعجّل بعملية القلب المفتوح أولا وبرحيله عن هذا الوجود ثانيا. أما الهروب الأكبر فكان ما اختاره الشباب الفلسطيني داخل الخط الأخضر وخارجه، من استسلام إلى الاستهتار والإجرام والعنف.
ويعكس الأداء التمثيلي للشخصيات الرئيسية هذا الاستسلام والضياع فيغلب على حركتها التردد والبطء والميل إلى الصمت. فتكاد تكتفي بمراقبة ما يحدث في صمت وسلبيّة.
لا تمثّل إذن النزعة الكوميدية في الفيلم سوى الطبقة الظاهرة التي يؤدي الحفر فيها إلى طبقة أكثر سمكا هي تلك النزعة الملنخولية باعتبارها “تعبيرا عن الرغبة في تدمير الذات جراء افتقادها ما تعتبره مثاليا واستحالة الأبدية التي تواجهها الذات في أن تعيش الحداد على الموضوع المفتقد“(1)
وباعتبارها اختيارا تميل إليه السينما الحديثة فلئن تجلت الملنخوليا في التحليل النفسي في هيمنة قطب غرائز الموت في مواجهة غرائز الحياة فإنها في تتجلى في السينما ” في التعبير الخفي عن الرفض من ظاهر القبول في تسمية أشياء العالم وإدراكها ” (2).
(1)Denis Bellemare, Cinémas : revue d’études cinématographiques, vol. 8, n° 1-2, 1997 Montréal, p 154
(2) المصدر نفسه ص 155