مهرجان لندن السينمائي الـ53: دورة التحف السينمائية

يعتبر مهرجان لندن السينمائي، الذي يحتفل هذا العام بمرور 53 عاما على مولده (من 14 إلى 30 أكتوبر) أحد أكبر وأشهر مهرجانات السينما الدولية التي لا تنظم مسابقات بين الأفلام على غرار كان وفينيسيا وبرلين وموسكو وسان سباستيان.
هذا المهرجان يمكن مقارنته أساسا، بمهرجانات أخرى مثل تورونتو وروتردام وسيدني، ومثل هذه المهرجانات هدفها الأساسي ليس الترويج للأفلام الجديدة التي تنتج هنا وهناك، ولا الاحتفاء بصانعيها عن طريق منحهم جوائز، بل إشراك أكبر عدد من الجمهور في تذوق الأعمال السينمائية الجديدة والتعرف على أحدث الإنجازات في عالم السينما الفنية.
ومنذ تأسيسه على أيدي مجموعة من عشاق السينما عام 1956 عرف مهرجان لندن بأنه “مهرجان المهرجانات” فقد كان يأتي في نهاية العام (في شهر ديسمبر) وكان يعرض أهم الأفلام التي عرضت في مهرجانات السينما في العالم خلال العام والتي فازت بجوائزها. وكان بذلك يوفر لجمهوره من ناحية الفرصة لمشاهدة خلاصة ما عرض في المهرجانات السينمائية الدولية، ومن ناحية أخرى كان يتيح الفرصة أمام الموزعين البريطانيين لشراء وتوزيع أفلام ربما لا يعرفون عنها الكثير، خاصة تلك التي تأتي من بلدان العالم الثالث.
وكان المهرجان يعد أحد مهرجانات الصفوة أو النخبة من محبي السينما الفنية، ولم يكن يرحب أصلا بعرض الأفلام التجارية أو الأمريكية من الإنتاج الكبير التي تمتليء بها عادة دور العرض اللندنية، بل ويمكن القول أيضا إن مهرجان لندن كان وراء تسليط الأضواء على الكثير من أعمال السينما الفرنسية وتقريبها من جمهور النخبة الانجليزية، خالقا بذلك تقليدا شاع وانتشر وأصبح راسخا اليوم. والغريب أن الجمهور الانجليزي يقبل اقبالا كبيرا على الأفلام الفرنسية،  ويستعذبها ويحبها ربما أكثر مما يرحب بالأفلام البريطانية، خاصة جمهور النخبة المثقفة بالطبع، التي تقدر كثيرا الثقافة الفرنسية بشكلانيتها واهتمامها الكبير بالتلاعب باللغة، وتجد هذا التلاعب عنصرا للجاذبية الخاصة.
وقد تطور مهرجان لندن السينمائي كثيرا خلال الخسمة والعشرين عاما الأخيرة، فأصبح أكثر انفتاحا على السينما الأمريكية وعلى استقدام نجومها وعرض أفلامها الجديدة عروضا عالمية أولى، والهدف بالطبع اجتذاب أعداد كبيرة من الجمهور، وتحويل المهرجان من مهرجان للنخبة إلى مهرجان جماهيري يتردد على عروضه سنويا عشرات الآلاف من المتفرجين.
وقد تم تقديم موعد انعقاده إلى شهر أكتوبر (خريف لندن) بدلا من نهاية العام، وظل يعرض مختارات من أهم ما عرض بالمهرجانات الدولية، ولكنه لم يعد يكتفي بفكرة “مهرجان المهرجانات” بل أصبح يلعب دورا كبيرا في اكتشاف الجديد من الأفلام ويتنافس للحصول على العروض الأولى لها أيضا على نحو ما يفعل مهرجان تورنتو.
وربما يرجع سبب هذا الانفتاح والرغبة في اجتذاب جمهور السينما العريص، إلى صعوبة الحصول على التمويل اللازم اكتفاء بما يحصل عليه المهرجان من دعم محدود من الجهة التي تنظم المهرجان أي مؤسسة السينما البريطانية British Film Institute وهو ما دفع المهرجان إلى البحث عن طرق جديدة للتمويل تتمثل في تأمين أكبر عدد من “الرعاة” أي الشركات الداعمة التي تقدم دعما ماديا مباشرا أو غير مباشر مثل الخطوط الجوية وشركات النقل والإعلان وشبكات التليفزيون، وانضم هذا العام، مجلس الفنون البريطاني،  وأخيرا مؤسسة صحيفة “التايمز” التي أصبحت الشريك الأكبر والأساسي في المهرجان منذ عدة سنوات حتى أصبح الإسم الرسمي للمهرجان في كل مطبوعاته ومراسلاته هو “مهرجان تايمز لندن السينمائي” The Times London film Festival
ورغبة في الجمع بين كل أنواع الأفلام من شتى البلدان والاتجاهات تم تقسيم برنامج المهرجان إلى عدة أقسام أصبحت شبه ثابتة خلال السنوات العشر الأخيرة هي الافتتاح والختام، والعروض الاحتفالية Galas (الجالا)، وسينما الميدان، والسينما البريطانية الجديدة، والسينما الفرنسية، وسينما أوروبا، وسينما العالم، والأفلام التجريبية، وكنوز من الأرشيف السينمائي، والأفلام القصيرة وأفلام الرسوم، والأحداث الخاصة (الورش والندوات والمؤتمرات).

الافتتاح والختام

افتتاح الدورة الثالثة والخمسين في الرابع عشر من أكتوبر سيكون بفيلم بريطاني جديد من أفلام الرسوم هو فيلم “مستر فوكس الخرافي” Fantastic Mr Fox للمخرج ويس أندرسون الذي يشترك في التمثيل فيه (بالأصوات فقط) جورج كلوني وميريل ستريب وبيل موراي ومايكل جامبون.

فيلم الافتتاح

ويختتم المهرجان في 30 أكتوبر بالفيلم البريطاني أيضا “ولد ضال” Nowhere Boy الذي يروي قصة السنوات الأولى من حياة نجم موسيقى البيتلز الشهير جون لينون في مدينة ليفربول.
ويعرض المهرجان بين الافتتاح والختام أكثر من 200 فيلم منها أفلام جديدة تعرض للمرة الأولى في العالم، وأفلاما أخرى تشهد عروضها الأولى على الشاشات البريطانية مثل “الرجال الذين يحدقون في الماعز” The Men Who Stare at Goats للمخرج الأمريكي جرانت هيسلوف وبطولة جورج كلوني وايوان ماكريجور وجيبريدجز، وهو من نوع الكوميديا السوداء التي تسخر من الدور العسكري الأمريكي ومن حروب أمريكا الخارجية.
وجورج كلوني حاضر في أكثر من فيلم بالمهرجان وسيكون من بين النجوم الذين سيحتفى بهم على البساط الأحمر في ليستر سكوير، فهو أيضا بطل فيلم “عاليا في الجو” Up in the Air للمخرج الأمريكي جايسون ريتمان.
ومن الأفلام التي تعرض للمرة الأولى فيلم “تعليم” An Education البريطاني، وفيلم “”رجل جاد” A Serious Man للأخوين كوين، و”كلوي” Chloe للمخرج المصري الأصل الأرمني الكندي أتوم إيجويان بطولة ليام نيسون وجوليان مور وهو انتاج أمريكي كندي مشترك.
أفلام الميدان
وفي قسم “أفلام الميدان” التي تعرض عادة في دور عرض توجد في “ليستر سكوير” في قلب لندن يعرض المهرجان 36 فيلما من دول مختلفة أكثرها من الأفلام التي عرضت في كان وفينيسيا وبرلين مثل “أم” Mother من كوريا الجنوبية، و”الطريق” الأمريكي، و”الحياة في زمن الحرب”، و”لبنان” الاسرائيلي الفائز بجائزة فينيسيا، و”المخبر” The Informant لستيفن سودربرج، و”بيلامي” الفرنسي لكلود شابرول، و”طاف” البرازيلي لهيتور داليا، و”عن إيلي” الايراني (فائز بجائزة برلين) لأشجار فارهادي.
ومن الأفلام الحاصلة على جوائز في مهرجان كان يعرض فيلم السعفة الذهبية “الشريط الأبيض”، وفيلم “نبي” الفرنسي الحاصل على جائزة التحكيم الكبرى، وفيلم “والد أبنائي” لماريا هانسن لوف.
وهناك بالطبع الفيلم الفلسطيني “الزمن الباقي” لايليا سليمان، والفيلم الايطالي “الانتصار” للمخرج الكبير ماركو بيللوكيو.
وكل من فاته من النقاد مشاهدة الأفلام المهمة التي عرضت بمهرجانات السينما الدولية خلال العام يمكنه أن يعوض هذا بمشاهدتها في جو مشاهدة حقيقي في مهرجان لندن حيث تدور المناقشات داخل قاعة العرض مباشرة مع مخرجي الأفلام بعد عرضها.
أما قسم “السينما البريطانية الجديدة” فيعرض هذا العام 13 فيلما جديدا من الإنتاج البريطاني منها فيلم “نهر لندن” London River للمخرج الجزائري رشيد بوشارب (من الانتاج المشترك مع فرنسا والجزائر)، وفيلم “لا تقلق بشأني” لديفيد مويسي. ومن الـ13 فيلما 5 أفلام تسجيلية منها “موجابي والبيض الافريقيون” للوس يبايلي وأندرو تومبسون (88 دقيقة)، و”مدينة النفط.. سري” لجوليان تمبل، و”اذرف دموك وارحل” لجيز لويس.

الثورة الفرنسية
ليس المقصود من هذا القسم عرض أفلام تصور أو تؤرخ للثورة الفرنسية بل تكريم السينما الفرنسية عموما بعرض نماذج من أحدث أفلامها، وهي السينما التي كانت تقليديا تحظى بإعجاب وتقدير الجمهور البريطاني، ويعرض في هذا القسم في الدورة الحالية 12 فيلما من أشهرها “حول جبل صغير” للمخرج الكبير جاك ريفيت، و”فتاة في القطار” لأندريه تيشينيه، و”الأسف” لسيدريك خان، و”الرحيل” لكاثرين كورسيني، و”قبلات فرنسية” للمخرج رياض سطوف (وهو مخرج من أصل سوري ليبي).
وتحت عنوان “سينما أوروبا” يعرض المهرجان 48 فيلما طويلا من السويد والدنمارك وهولندا واليونان واسبانيا وأيرلندا وسويسرا وروسيا والمانيا وايطاليا والنمسا وبلغاريا وجمهورية التشيك وتركيا (فيلمان).
ويعد قسم “سينما العالم” من أضخم أقسام المهرجان وأهمها فهو يتضمن عرض مجموعة كبيرة من الأفلام (49 فيلما). وتعرض فيه أفلام من مصر واسرائيل والولايات المتحدة وفيتنام وكوريا الجنوبية والصين واليابان وهونج كونج وجنوب افريقيا والفلبين وماليزيا والأرجنتين وانجونيسيا والسنغال والهند وكندا وتايلاند.
من مصر يعرض المهرجان فيلمان (هما الأكثر حظا هذا العام في الدوران على المهرجانات الدولية) وهما “واحد صفر” و”المسافر”.
ومن اسرائيل يعرض فيلم “عيون مفتوحة على اتساعها” و”العجمي” بالاضافة إلى فيلم “لبنان”.

“كنوز من الأرشيف”
هذا القسم من أهم أقسام المهرجان وأكثرها تميزا. ويعرض فيه 12 فيلما من فرنسا والولايات المتحدة ومصر والسويد والنرويج وفنزويلا. وكانت هذه الأفلام قد تلاشت أو أصبحت نسخها الأصلية (النيجاتيف) في حالة رثة، وهنا تصدى أرشيف الفيلم في بلدان مختلفة (ايطاليا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا) لترميمها واستعادتها وطبع نسخ حديثة منها في إطار الحفاظ على الذاكرة المرئية الإنسانية.
من مصر يعرض فيلم “المومياء” في نسخته الجديدة المستعادة التي عرضت في كان وستعرض في مهرجان الدوحة أيضا وغيره، ويعرض فيلم “بعيدا عن فيتناك” وهو فيلم فرنسي أخرجه عدد من السينمائيين هم يوريس ايفانز وكلود ليلوش وآلان رينيه وجان لوك جودار ووليم كلاين عام 1967 في اطار التظاهرة السينمائية الدولية ضد حرب فيتنام.
ومن فرنسا أيضا يعرض الفيلم الصامت “إني أتهم” J’accuse من عام 1919 وهو فيلم مناهض للحرب (يحمل عنوان مقال اميل زولا الشهير بشأن قضية دريفوس) ومن اخراج عملاق السينما الفرنسية الحديثة ومؤسسها الفعلي أبيل جانس Abel Gance (صاحب فيلم نابليون) ويقع الفيلم في 161 دقيقة، وكان الفيلم قد أصبح في عداد الأفلام غير الصالحة للعرض منذ زمن وأمكن انقاذه بفضل التقنيات الحديثة، وأساسا بفضل الايمان بالتراث السينمائي وأهمية الحفاظ عليه.

 الفيلم الفرنسي “أتهم ” J’accuse

ومن السويد يعرض فيلم “اللمسة” للمخرج الشهير الراحل انجمار برجمان، ومن الولايات المتحدة فيلم “ليلى” للمخرج جورج شنيفويت من عام 1929. وجدير بالذكر أن عرضا احتفاليا خاصا بسينما الماضي سيعرض خلاله فيلم “أندرجروند” Underground الصامت من عام 1928 ومن اخراج مؤسس السينما البريطانية أنطوني سكويث، وسسيعرض هذا الفيلم بقاعة كوين اليزتبيث هول التي تتسع لألفي متفرج وبمصاحبة عزف حي مباشر تؤديه فرقة بريما فيستا سوشيال كلوب. وهو حدث فريد واحتفال كبير بفن السينما والموسيقى.
لا يوجد هنا سباق بين الأفلام، بل معرض للتحف السينمائية، والأفلام المثيرة للجدل، والثقافة البريطانية عموما لا تميل للمنافسة في عالم الفنون بل تفضل أن تخصصها للمجالات الرياضية. والسبب كامن في العقلية الانجليزية السائدة، التي تستنكر فكرة تفضيل عمل فني على آخر، ورغم ذلك ابتكر المهرجان جائزة لأحسن فيلم تسجيلي تحمل اسم رائد السينما التسجيلية جون جريرسون، كما أن هناك جائزة أخرة باسم فنان السينما الهندي الكبيرالراحل ساتيا جيت راي، ولكن ليس من خلال مسابقة مفتوحة.
مهرجان لندن السينمائي احتفالية كبيرة بالسينما تحول خريف لندن البارد إلى ليال مليئة بالدفء والتواصل، ورغم أنه بلا مسابقات إلا أنه يثير الكثير من الاهتمام لدى الجمهور بمختلف شرائحه.


إعلان