من “سيارة العفاريت” إلى التشظي بين الوطن واللاوطن

سيارة العفاريت”.. هذا هو الاسم الذي أطلقه الموريتانيون أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي على الشاحنة التي جاء بها المستعمر الفرنسي، من أجل تقديم عروض سينمائية لساكنة موريتانيا الرحالة، “سيارة العفاريت” تعبير من الموريتانيين عن دهشتهم أمام هذا الستار الأبيض، الذي تتراقص عليه خيالات بشر وحيوانات لم يسعفهم فكرهم المنغلق آنئذ على فهمها إلا في إطار الماورائيات، وكان الجن هو التفسير المنطقي الوحيد.. الآن تتشظى العدسة الموريتانية بين مبدعين درسوا أصول السينما في كبريات المعاهد العالمية، وصنعوا  أفلاما موريتانية بمقاييس عالمية، ونالوا أكبر الجوائز والميدالية، لكنهم مبدعون في المهجر.. وبين شباب يمتطي الهواية وحب الصورة من أجل صناعة سينما محلية يمكن ذات يوم أن تلتحم بتلك السينما المهاجرة لبلورة ما يمكن أن يطلق عليه السينما الموريتانية.

شيء من التاريخ:
البداية كانت من الداخل
كان الفرنسي “غميز” هو أول من حمل الشاشة الكبيرة إلى موريتانيا بداية ستينيات القرن الماضي، فقد افتتح دورا للعرض في العاصمة نواكشوط وبعض مدن الداخل، تلك الدور التي آلت ملكيتها إلى أول موريتاني يحمل هم السينما في البلد وهو الشاعر ورجل الأعمال همام أفال، الذي اشتراها و أضاف إليها أخريات، حتى بلغ عدد دور العرض السينمائية التي يمتلكها 11 دارا في العاصمة نواكشوط، التي كان تعداد ساكنتها حوالي 400.000 نسمة، وقد أضاف أفال إلى التوزيع مهمة الإنتاج وهكذا أنتج  ثلاث تسجيلات سينمائية هي “تيرجيت”، “ميمونة” و”بدوي في الحضر”، تلك الثلاثية التي تعتبر اللبنة الأولى للسينما الموريتانية والتي رغم خلوها من بعض فنيات الصناعة السينمائية إلا أنها اعتبرت في زمنها طفرة تستحق الذكر.
 

همام أفال أب السينما الموريتانية

بوفاة همام أفال والجيل الذي أسس معه هذا الحلم السينمائي دخلت السينما الموريتانية مرحلة سبات غريب الأطوار عصف بدور العرض واحدة بعد أخرى.. فمع بداية الثمانينات تأسس التلفزيون الموريتاني الذي استرعى انتباه جمهور الصالات السينمائية كما بدأت ظاهرة محلات الفيديو في الأحياء التي تعرض نفس الأفلام التي تعرضها القاعات بأسعار زهيدة وبين منازل الجميع دون أن يجدوا حاجة إلى الانتقال إلى دور العرض؛ هذا فضلا عن ضعف الرقابة على ملاك دور العرض ومسيريها الذين بدؤوا في لي عنق القانون وتقديم رشاوي للمشرفين على الوكالة الموريتانية للسينما من اجل استجلاب أفلام رخيصة وخارجة على الذوق العالم للمجتمع الموريتاني المحافظ، حتى وصل بهم الأمر إلى عرض أفلام إباحية فاضحة، وكانت تلك هي قاصمة الظهر فقد توقفت العوائل عن زيارة دور العرض، واقتصر الجمهور على المراهقين وأطفال الشوارع، وشيئا فشيئا توقفت صالات السينما، وتحول أغلبها إلى مخازن تجارية بينما تحول البعض الآخر إلى قاعات لحفلات الزفاف، وآخر هذه الدور صمودا تستخدم الآن في عرض مباريات كرة القدم. وجاءت ثورة الاتصالات لتزيد بعد الجمهور الموريتاني عن دور العرض خصوصا بعد انتشار الفضائيات في كل بيت وعلى كل كوخ فمعلوم أن المجتمع الموريتاني مجتمع مستهلك للصورة بدرجة كبيرة، يكفي مثالا أن أجهزة التلفزيون في أغلب البيوت الموريتانية تبقى مفتوحة أربعة وعشرين ساعة دون توقف.
هكذا إذن أصبحت العاصمة نواكشوط التي يربو ساكنوها على المليون نسمة تفتقر إلى دور عرض سينمائي منذ حوالي ثلاثة عقود، وهو أمر غريب في عاصمة دولة في هذا القرن الواحد والعشرين قد لا تماثلها في ذلك حول العالم إلا المملكة العربية السعودية، وانحدرت الصناعة السينمائية إلى الهاوية حدا أصبحت كلمة سينما بلاء مبرما  وماردا يتقيه الجميع وفي ظل هذا الحصار كانت مبررات نمو السينما في موريتانيا ضئيلة جدا وكان لا بد من وجود بديل وهكذا هاجرت العدسة الموريتانية إلى أوروبا.

العدسة المهاجرة:
تاريخ من العطاء
في السبعينيات والثمانينيات أنجبت موريتانيا سينمائيين كبار من أمثال محمد ولد السالك الذي يعتبر أول متخصص في التصوير السينمائي في موريتانيا والذي رافق همام أفال في أفلامه الثلاث قبل أن يعمل لاحقا في تصوير نشاطات الحكومة الموريتانية وتوزيعها على وسائل الإعلام قبل تأسيس التلفزيون الوطني وقد توفي في انفجار طائرة كانت تقله رفقة الوزير الأول الموريتاني ولد بوسيف سنة 1980 . ثم محمد هندو الذي غادر إلى فرنسا مهاجرا سريا، وعمل طباخا وحمالا، قبل أن تغلبه ملكته الفنية، وتحمله إلى خشبة المسرح الفرنسي التي ضاق بها ذرعا، كونه ممثل أسود في مجتمع عنصري..

 

محمد هندو

 فاختار طريق الفن السابع ليدرس السينما على نفقته الخاصة. حاول في بداية مشواره السينمائي إخراج أفلام متوسطة بمجهود شخصي عالجت في أغلبها مواضيع الهجرة والعنصرية والتمييز، ومشاكل القارة الإفريقية، ومن أشهر أفلام هندو فلمه الأول “جولة في المنابع، 1967” وهي قصة إفريقي أسود هاجر إلى فرنسا، لكنه  قرر طواعية العودة إلى وطنه، فدفع ضريبة هذا القرار. و “أيتها الشمس، 1969” وهو أشهر أفلام هندو على الإطلاق يعالج بعمق وروية مشكلة الرق، ويربطها بالاستعمار، بطل الفلم الذي جاء إلى باريس بحثا عن عمل ومسكن، يصبح في النهاية على شفا الجنون بعد سلسلة من المضايقات العنصرية والتمييزية، وينطلق في اتجاه الغابة دون أن نفهم خطوته الموالية، عنوان الفلم هو مقطع من أغنية إفريقية قديمة كان يدندنها الرقيق في طريقه إلى أسواق النخاسة الأوروبية  ؛  “كل مكان ولا مكان، 1969″، قصة زوجين فرنسين من خلال واقع إفريقي ؛ “جيراني، 1973″؛ “العرب والزنوج أو جيرانكم، 1973” في هذين الفلمين يلقي محمد هندو الضوء على واقع الأفارقة السود في فرنسا لكن هذه المرة يضيف إليهم العرب المهاجرين ويمنحنا الفلمان تأشيرة دخول إلى المصير الموحد بين الأفارقة والعرب في أوروبا؛ وقد أخرج أفلاما أخرى عديدة منها: “ملك الحبال، 1969″؛ “يكفينا من النوم حين نموت، 1976″؛ “البوليساريو.. شعب مسلح، 1978″؛ “ساراوينا، 1986″؛ “ضوء أسود، 1994″؛ “وطني، 1998″؛ “فاطمه، 2004”. لينتهي به المطاف مقيما في العاصمة الفرنسية، ويعمل الآن مدبلجا لصوت النجم الأمريكي “أدي ميرفي”.
 والمخرج سيدني سوخنا الذي غادر هو الآخر إلى فرنسا في نفس الفترة مع محمد هندو، الفرق الوحيد أن سوخنا هاجر من أجل الدراسة، وتخصص في السينما وأخرج باكورة أعماله “الجنسيات المهاجرة، 1975” الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم في فيسباكو سنة 1977 وفلمه الثاني “سافرانا، 1978”. بعد ذلك عاد سوخنا من منفاه الاختياري إلى أرض الوطن لكنه ترك الحلم السينمائي هناك في فرنسا، وتفرغ  للعمل الحكومي والسياسي، وهكذا تقلد عدة مناصب دبلوماسية، و حقائب وزارية وبين هذا وذاك انتخب نائبا في البرلمان الموريتاني.
 ثم كانت أواخر الثمانينات من القرن العشرين حينما برز إلى الوجود المخرج الكبير عبد الرحمن سيساغو، الذي ولد في مدينة كيفه الموريتانية، وتربى في باماكو، وتلقى تكوينه السينمائي في الاتحاد السوفييتي آنئذ.. سيساغو ظاهرة سينمائية بكل المقاييس نال أرفع الأوسمة والنياشين وفاز بأكبر الألقاب في مختلف التظاهرات السينمائية، من أبروها فوزه سنة 2005 بالجائزة الأولى في مهرجان فيسباكو السينمائي، الذي ينظم كل عامين في العاصمة البركنابية وغادوغو، والذي يعتبر أكبر مهرجان سينمائي في القارة السمراء، عن فلمه “في انتظار السعادة”، كما فاز نفس الفلم بجائزة الجمهور في مهرجان “كان” الفرنسي، هذا فضلا عن عشرات الجوائز والتكريمات في عديد المهرجانات الكبيرة، كمهرجان برلين السينمائي، ومهرجان القاهرة، ودبي، و أوسكار، وقرطاج إلى آخر القائمة.. عن أفلامه العديدة والتي من بينها “اللعبة، 1989” وهو فلم التخرج من معهد “فغيغ” السينمائي، ويحكي قصة الحرب من خلال لعبة أطفال في تركمانستان، وقد تم اختيار هذا الفلم للعرض في مهرجان “كان”، ما أعطى قوة دفع مميزة لسيساغو ليواصل أربع سنوات بعد ذلك في فلم “أكتوبر، 1993” ويحكي قصة إدريسا الإفريقي الذي أنهى دراسته، وتوجب عليه العودة إلى وطنه، لكن إيرينا، حبيبته الحامل تمثل رابطا قويا يصعب معه الرحيل؛ “الجمل والعصا المترنحة، 1996” وهو اقتباس عن قصة لجان لافونتان؛ “صبرية، 1997” صور هذا الفلم في تونس، ويحكي قصة صديقين تصبح علاقتهما على المحك في مواجهة مع الحب بعد تعرفهما على البطلة؛ “روستوف – لوندا، 1997” وهو رحلة المخرج من مدينة روستوف الروسية في اتجاه لواندا العاصمة الانغولية، بحثا عن صديق دراسته الذي انقطعت أخباره بعد الحرب الأهلية التي ضربت أنغولا نهاية القرن الماضي، ويحاول الفلم أن يضعنا في جو الحرب وما خلفته دون أن يصورها مباشرة؛ “الحياة على الأرض، 2000” وهو فلم يحكي  كيف تعيش قرية إفريقية نائية لحظة نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين؛  “في انتظار السعادة، 2002” فلم يحكي السيرة الذاتية الشخصية للمخرج موزعة على عدة أبطال.
 
عبد الرحمان سيساغو
 ويناقش الفلم أيضا مواضيع التواصل في مفهومه الواسع  من خلال الشاب عبد الله الذي تربى بعيدا عن وطنه، وجاء في زيارة يكتشف على إثرها صعوبة التواصل مع مجتمعه نظرا لحاجز اللغة فيقرر السفر الذي يفشل فيه أيضا ، كما أن الفلم طافح بالدلالات والإيحاءات والصور الشعرية التي تستنطق المنفى في مدلوليه الداخلي والخارجي، وقد حقق هذا الفلم الذي تم تصويره في مدينة نواذيبو الأطلسية عديد الجوائز؛ وآخر أفلامه “باماكو” الذي أقام الدنيا وأقعدها إذ عالج لأول مرة مشاكل الدول الإفريقية من خلال محاكمة صورية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي باستغلالهما الفظيع لاحتياج الدول الإفريقية إلى القروض، وقد تم اختيار سيساغو في لجنة تحكيم مهرجان “كان” الذائع الصيت نسخة 2007 ليكون بذلك أول إفريقي ينال هذا الشرف، كما توج في اكتوبر من العام الماضي بوسام فارس في الثقافة والفنون في نظام الاستحقاق الفرنسي.
الآن يعيش في أوروبا أيضا جيل من الشباب الموريتاني يحترف السينما، خصوصا السينما الوثائقية، من أمثال الشيخ انجاي صاحب الفلم الوثائقي الشهير “المعلومة نجمة الرمال، 2005” وهو بروتريه عن نجمة الموسيقى الموريتانية المعلومة منت الميداح، وكريم مسكه وهو مخرج ومنتج أفلام وثائقية يعيش في فرنسا كما يعيش في الخليج مخرجون موريتانيون ومنتجو أفلام وثائقية من أبرزهم المخرج عبد العزيز أحمد محمد الحسن.

كامل الملف


إعلان