“القادمون” وثائقي عن مأساة الهروب نحو المأساة

كارولين وكولات مرشدتان اجتماعيتان متخصصتان في مساعدة العائلات المهاجرة في فرنسا وطالبي اللجوء السياسي.
كل يوم يتقاطر المهاجرون غير الشرعيين والباحثون عن أمل في الحياة الكريمة عل مكتبيهما من دون حقائب ولا متاع. وأحيانا بلا جوازات سفر… هذه “زهرة” الشابة الاريترية الحامل في شهرها الثامن وتلك عائلة من سيرلنكا مع طفليهما ثم يليهم مجموعة من القادمين من منغوليا، في أعينهم جميعا نظرات يائسة تقرأ فيها كمّا من الخوف الرهيب القادم معهم من بعيد.. 
ذلك جانب  من حكايا مأساة تتنامي في صمت أحيانا وفي ضجيج في كثير من الأحيان..  أحلام تكسرها المسافات الفاصلة بين دول الجنوب ودول الشمال… ولك هو موضوع الفيلم الوثائقي “القادمون” الذي أخرجه مخرا كل من ا كلودين بوريس وباتريس شانيار يريد أن يرسم رحلة المأساة للوصول إلى قمة المأساة… وهو يعرض الآن في فرنسا.

أحد المكاتب المدافعة عن المهاجرين

قصة أناس قادمون من أذربيجان ومنغوليا والكنغو وسيريلنكا ومن العراق ومن الدول التي لم يكن أهلها يعتبرون فرنسا قبلة لهم بحكم التباعد الجغرافي والثقافي واللغوي والتاريخي مقارنة بمهاجري المغرب العربي.
إنهم مهاجرون غير تقليديين يحلون في باريس بلا لغة ولا بديل. فقط بحلم أقرب إلى المصير القاهر للإرادة البشرية ومعانيها. في بلد يتغنى بشعار الإنسانية منذ قرون ويعطي للعالم دروسا في احترام البشر. وآوت كثرا من البشر واستغلت كثيرا من البشر.
حينما أخفقت دول الجنوب في إقناع شعوبها بأن الفقر قدرهم الوجودي وأن الاستبداد حتمية التاريخ، هاجر الحالمون.. لم يقتنعوا بما يرونه وأصروا على أن يكونوا بشرا إما بالموت في الأرض واقفين وإما بترك الأرض هاربين نحو حلم يفر منهم كلما حسبوا أنهم أمسكوه.
في الضفة الأخرى حالمون من نوع آخر ومناضلون من طينة أخرى.. وهبوا جهدهم لاستقبال هؤلاء والتعريف بقضاياهم ككارولين وكولات الأخصائيتين الاجتماعيتين اللتين بنى عليهما الفيلم استنتاجاته… وغيرهم كثر.
ولا نستغرب من شراسة الطرح النقدي إا علمنا أنّ المخرجين ينتميان إلى هؤلاء الحالمين في أن تكون الضفة الأوروبية أوروبا الأم الحنون لبشر غير قادرين على أن يكونوا بشرا في أرضهم…

كلودين بوريس

للمخرجة كلودين بوريس باع في هذا المجال الحقوقي في أفلامها الوثائقية الأحد عشر فقد انطلقت تجربتها مع الوثائقي سنة 1975 حينما استغلت فرصة إعلان تلك السنة سنة المرأة لتسلط الضوء على نساء حي “أوبارفيليي” الشعبي في فرنسا. لقد أظهرت نساء فرنسا الحرة وهن يعانين من بؤس الحياة وعبودية المؤسسة ذنبهن أنهن نساء. كان الفيلم مباشرا وصريحا فحمل عنوان “نساء أوبارفيليي”. الذي صنف في ذلك الوقت على أنه من “أفلام الشوارع” قياسا على نزعة في الموسيقى كانت تعرف في فرنسا في ستينات وسبعينات اليسار “بأغاني الشوارع”.
انشغلت بوريس في أفلامها بقضيتين أساسيتين حقوق المرأة وحقوق المهاجرين فكانت وثائقياتها تعرض على يسار المشهد السياسي الفرنسي والعالمي.. ولعل فيلمها “نساء الـ 12 حدودا” كان من الأفلام الأكثر تعبيرا عن وحدة القضيتين المرأة والهجرة وعن الضجة الأوروبية حول الهجرة السرية وبهتتة الضمير الأوروبي تجاهها بعد حرب كوسوفو. هذا الفيلم يروي قصة نساء جميلات قدمن من أشتات يوغسلافيا السابقة (كوسوفو والبوسنة وكرواسيا…). اشتركن في الحرب ضد بعضهن البعض حينما كانت الحرب. وحينما انتهت الحرب جمعت بينهن الهجرة لتصبح عدوات الأمس حليفات أمام تحدي قطع الحدود نحو إيطاليا وفرنسا… كان لقاء سرياليا على الحدود. 
وفي 2008 أخرجت مع رفيق دربها باتريس شانيار فيلما بعنوان “وماذا عن أحلامنا..” يوثق أحلام مجموعة من اليساريين في الريف الفرنسي.. وكيف كانوا يحلمون بيتوبيا الاشتراكية الروسية التي سرعان مع أصبحت كابوسا.. ولعل الفيلم يعبر عن حنين المخرجيْن أيضا لزمن كانت السينما والفن عموما أداة النضال الحقيقة في فرنسا التي بدأت تنغلق على أهلها قبل انغلاقها على الآخرين.

باتريس شانيار

من جهته بدأ باتريس شانيار (في رصيده 14 فيلما وثائقيا) رحلاته الوثائقية سنة 1980 بفيلم عن معاناة سكان إحدى القرى البرازيلية التي شهدت حملة شرسة لاحتلال الشركات الكبرى للأراضي الغابية والزراعية. وفي منطقة سيرتاوو كان هناك شاعر وموسيقار حوّل ثورة المزارعين إلى أغاني وقصائد ساهمت إلى حد كبير في التعريف بقضية أولئك المسحوقين..
ومن البرازيل ذهب شانيار إلى اليابان في فيلمه “زين” ليروي قصة معاناة أخرى.. ثم تجول بأفلامه الوثائقية بين بقاع العالم حتى تخصص في استقصاء ما يخفيه صخب العواصم فسلط الضوء على قضية القدس 1999 وغاص في مدينة اسطنبول 1999 ومنها إلى عاصمة النبال كاتمندو 1999 ثم الجزائر 2003 ومن ثم عاد إلى الريف الفرنسي في فيلمه “شاحنة حمراء” الذي يحكي حكاية 6 شخصيات متنوعة العمر والمستوى المادي والعلمي اشتركوا جميعهم في هدف واحد وهو إطفاء الحرائق في قرية مرمية في غابات جبال الألب الفرنسية.. اجتمعوا على حلم تقوده شاحنة إطفاء حمراء.
“القادمون” هو امتداد لمسيرة فنية نضالية بعيدا عن الشعار السياسي. إنه نموذج على التزام الفنان بالقضايا الإنسانية مع تنويع في الموضوع والتقنية الفنية. 


إعلان