الشريط الأبيض: من قلق الإنشاء إلى اطمئنان التقبّل

قراءة في الفيلم الحائز على السعفة الذهبيّة لمهرجان كان 2009
أحمد القاسمي

يعود بنا صوت السارد من خارج الإطار إلى خمسين سنة خلت فجر الحرب العالمية الأولى، لمّا هزت أحداث غامضة قرية (Mecklenbourg) شمال ألمانيا، شأن الحادث المدبر الذي تعرّض له الطبيب فأودى بحصانه وألقى به هو في المستشفى لأيام طويلة أو موت القروية الغامض أو الاعتداء بالضرب المبرح على ابن البارون أو بالتشويه على ابن القابلة المقعد.
ورغم ما يصيبها من إرباك نتيجة هذه الأحداث الدراميّة فإن القرية لا تحرك ساكنا. فيكتفي أهلها بالتواطؤ على أمرين: صمت مريب وقسوة يسلطها الكل على الكل، فيسلطها الآباء على الأبناء والرجال على النساء والأطفال على الحيوانات أو على بعضهم بعضا. على هذا النحو يتشكل “الشريط الأبيض” من شريط أحداث أسود حالك تدور تيمته الأساسية على عنف المجتمع الذي كثيرا ما كان مشغل المخرج النمساوي الجنسية الألماني المولد والنشأة والدراسة مايكل هانيك (Michael Haneke) ضمن نهج “تجمد المشاعر” ذلك النهج الذي بات يميّزه عند النقاد منذ أول أفلامه السينمائيّة (Le septièmes continent 1989).

 
I) العبور من الجسد إلى الفضاء: الوسيط الشفاف لمحمول معتم

 يمثل جسد الممثل أداة المخرج الطيّعة يختارها بعناية فيسلّط عليها كاميراه أو يقّطع تفاصيلها في لقطات مختلفة الأحجام ليشكّل منها مادة فنيّة دالة.  وقد عمد مكايل هانيك إلى عزل ممثله عن محيطه بعيدا عن كل أنواع التبادل الاجتماعي بين أفراد القرية فتحضر الشخصيات فرادى. وإذا ما قّدر لها أن تجتمع إثر أزمة صنعتها المآسي وأحداث غريب كانت أميل إلى الصمت، مسلمة قدرها إلى السارد لينوب عنها فينفذ إلى بواطنها أو يقلّب صفحات تاريخها. وليست العزلة في الفيلم مادية فحسب وإنما هي عاطفيّة أساسا يروح ضحيتها أطفال تكبلهم رقابة الآباء ونساء يحاصرهن تصحّر الوجدان وشباب يأسره شظف العيش والواجب الاجتماعي فيمتهن ليعيل أسرة أو يحصل قوتا.
وما حياة الأفراد إلا صورة مصغّرة من حياة قرية تعتكف على نفسها بمنأى عن كل تبادل اجتماعي أو اقتصادي مع الخارج ولا يزيد هطل الثلوج إلا من تحصين عزلتها المنيعة.
ولما كان السينمائي يعمل على هتك حدود الفضاء الفنّيّ باستمرار. ولما كانت “الشاشة محدّدة بمحيطها ومساحتها ولا وجود لعالم السينما خارج الحدود” فإنّ توظيفها يوحي بإمكانية “اختراق هذه الحدود وتجاوزها”.  ويشمل هذا التوظيف التأطير وتحديد المجال وضبط العمق. لذلك يظلّ تجسيم الصورة على الشاشة دائما، رهين التأطير واختيار زوايا التصوير فهيمنت الفضاءات المغلقة وجرت الأحداث في الزوايا الضيقة من البيوتات أو في الممرات منها وجاءت خلفية الأحداث جامدة أما التأطير داخل التأطير فكان اختيار المخرج الأثير بما يمنح الشعور بأن الفيلم ينسل باستمرار إلى الدواخل وإلى العوالم الباطنيّة فيوردها ضيقة باردة لا ينتهي نفقها المظلم إلى نقطة ضوء.
إلى العزلة تنضاف إلى الفيلم القسوة فتتخذ أكثر من مظهر وتصدر عن أكثر من مأتى، منها ملامح المثلين التي تشع حدة وتشكل الانطباع العام للفيلم  أو تصبح مادة طيّعة تقبل إعادة تشكيلها باعتماد الماكياج. فتميل السحنات إلى القسمات الحادة والنظرات الباردة الثاقبة شأن القابلة أو القس وتعتري الوجوه التشوهات الخلقيّة شأن المزارع أو الطبيب أو ابن القابلة وتعمل متكاملة لتبلغ رؤى المخرج الفنيّة والمضمونيّة.

   

    ملامح الشخصية سبيلا للنفاذ إلى عالمها الباطني فالمزارع والطبيب
يشتركان في تشويهات الوجه وقسوة لطباع      

ولهذه القسوة أن تتجلى في مستواها المادي الجسدي أو في مستواها الروحيّ. فللطبيب والقابلة عامة صلة مباشرة بالجسد، يتعهدانه بالرعاية ويسهران على سلامته سبيلها في ذلك لين المعاملة ولطفها. ولكن المفارقة في الفيلم أن كلاهما يتعامل مع المرضى بسلبية وحياد تزيد من العلّة بدل أن تذهب بها حتى باتا عنوانا للقسوة الجسديّة بل إن علاقتهما الجسديّة التي يفترض أن تكون طريقا للمتعة واللذة باتت أشبه بالاغتصاب المؤلم وعوض كلمات الغزل الحميم التي تجري بين العشاق، يتبادلان كرها بحقد فيقول ” أنت قبيحة مهملة بشرتك مترهلة ورائحتك نتنة” وتجيب “لي طفلان معاقان، كارلي وأنت.. وإني أجدك الأكثر إيلاما” وعوض تأسيس علاقة روحيّة بابنته يستغل الطبيب سلطته عليها وقصورها ليجعل منها موضوعا جنسيّا وضحيّة لرغبته في الاغتصاب. 
ولئن افتقد أهالي القرية مختلف ضروب التبادل الاجتماعي ومالوا إلى العزلة فإن القسوة ما وحّد بينهم. تجيب الفتاة الساهرة على خدمة رودولف ابن الطبيب لما كان والده في المستشفى ولمّا يسألها عن معنى الموت أن كل الأنام إلى زوال وأن أمه التي يتحججون بسفرها قد أودت وأن أباه سيهلك كما هلكت وأنه هو ذاته سيلقى المصير نفسه يوما لا محالة، غير آبهة بالصدمة التي تحدثها كلاماتها في نفسه الرقيقة.
وأما على المستوى الروحي فتتجلى القسوة من خلال شخصيّة القس الذي طالما  رمز في الثقافة الغربيّة إلى معاني الرحمة في ظلّ مجتمع بروتستاني صارم. ولكن قس الفيلم لم يكن أقلّ إيذاء من طبيبه فيحول نهج التربية الذي ينشئ عليه أبنائه إلى سوط عذاب ينال من أجسادهم الرقيقة ويذهب بتلقائية طفولتهم ويشلّ حركاتهم. فقد كان يفرض عليهم شريطا أبيض – ومنه استمد الفيلم عنوانه وإيحاءاته أيضا – يحملونه على سواعدهم حتى يذكّرهم بقيم الطهارة والصفاء ويعصمهم من الانجرار إلى عوالم الرذيلة.  وبدلا من وظيفته تلك أضحى علامة إدانة لهم وتشهير على ذنب قد يقترف وأضحى الطفل معها مذنبا حتى يثبت براءته.

منهج القس في تربية أبنائه: قسوة وفظاظة يجسدها المخرج
من خلال الطائر الذبيح بفعل مقصّ على هيئة صليب.

 لقد عملت كاميرا مايكل هانيك على تشكيل الفضاء بالقانون نفسه الذي شكلت به الجسد فجاء قاسيا معاديا سمته الأساسية ثلج يشارك الشريط الذي يحمله الصبية بياضا وقسوة. فأضحى الإسقاط القانون الأساسي لاشتغال الفيلم، ممّا ولّد ضربا من الترميز الطريف الصّادر عن علاقة استعاريّة تعكس فيها صورة الجسد الفضاء كما تعكس فيها صورة الفضاء الجسد بشكل مرآوي شفاف “فيكون التماثل مطلقا بين الجسد مقارنة بالفضاء والفضاء مقارنة بالجسد”  مما يجعلنا نعبر من مفهوم الفضاء الإدراكي إلى مفهوم الفضاء الاستيهامي .
يكشف الاستناد إلى حقول الدراسات النفسيّة أن المستوى التشكيلي من الفيلم يعمل باستمرار على اختراق المستوى الظاهري من الوجود لمسائلة الجواهر: فيسائل جوهر الإنسان فردا وجمعا حول ما يدفع به إلى كل هذه القسوة والعنف ضمن تأمل فلسفي لا نجده غريبا عن مخرج جمع بين الدراسة الفلسفية والنفسيّة والدراسة السينمائيّة.
  
 II) في جدل الإنشاء والتقبّل:
1) التبعيد بحثا عن صورة أوضح

يعمل المخرج ضمن مسعاه التأملي على أخذ المتفرّج برفق في رحلة استكشاف للوجود الإنسانيّ عبر تحصينه من الانسياق السهل وراء التفاعل الوجداني مع ما يعرض أمامه من أحداث وذلك من منطلق اختيارات جماليّة عديدة من بينها صوت السارد والأبيض والأسود ونسبة التباين  على مستوى الإضاءة. ويتخذ التبعيد بعدا زمانيّا، أساسا، ذلك أنه كلما ابتعدنا عن زمن الأحداث زادت فرصة تدبرها التدبير العقلاني الواعي. فكان صوت السارد الذي يقلّب الذاكرة ليعود بنا القهقرى خمسين سنة خلت، بعد أن يكون قد بلغ عمر الحكمة والنضج، وسيلةَ المخرج لخلق هذه المسافة. ثم إنّ حضوره يوازي السرد (La narration) بالعرض (La monstration) فيكسر الإيهام أولا لينبه المتفرّج إلى أن ما يدور أمامه ليس العالم الحيّ المنتزع من المعيش بما يستوجب التعاطف معه سلبا أو إيجابا وإنما هو محض تخييل يشفّر الواقع ويدعو متقبله إلى فك شفرته. ويكسر انتظام الأحداث ثانيا فيشظي الفيلم ويشكّله من مجمل من المقاطع والحكايات الفردية بما يمس من قداسة الحبكة في القصّ التقليدي ذات البناء الثلاثي (البداية والوسط والنهاية) مقاومةً للتّشويق والانخراط الوجداني وخلقا للجمود العاطفي الذي يعمل المخرج على ترسيخه. يصادق مايكل هانيك على هذا البعد ففي رده عن سؤال يرى أن المعلم يمثل الشخصية الوحيدة من بين شخصيات الفيلم يمنح المتفرّج شعورا بالإيجابيّة، يجد أن كون المعلم من خارج القرية يمنحه المسافة الكافية التي تدفعه إلى التفكير الموضوعي حول كل ما يحدث في القرية .
وللتبعيد في الفيلم سبيل ثان هو اختيار الأسود والأبيض بدلا من الألوان. ومن استتباعات هذا الإجراء الإيحاء بكون الأحداث غدت في حكم الماضي بما ييسّر مقاربته موضوعيّا . ومنها ما يتجاوز خلق المسافة الزمنيّة إلى البعد التشكيلي من الفيلم، فيوزع الضوء التوزيع المناسب أو البعد الوظيفي الدلالي فيُدفع بالقيم الضوئيّة وما تولد من تباين إلى الواجهة. ويجسّد الفيلم حينئذ الحالات النفسية التي تمر بها الشخصيات أما سطوة سطوة السواد على المشهد فتجسم هيمنة الغرائز واستبدادها بسلوك أهل القرية كأن يتحول الدكتور إلى وحش يتجرّد من كل قيمه ليستغل قصور ابنته ويتخذها ويتخذها موضوعا لفحشه أو أن يمعن القروي في التنكيل بأبنائه منافسا في ذلك القس وإن اختلفت الغايات المعلنة. هكذا تعمل الإضاءة ذات نسبة التباين المرتفعة على تجسيم معاني القسوة في الأشياء وصور القتامة من المشاعر الإنسانيّة بما يؤثر في المتقبل ويمنحه رؤية سالبة حول جوهر الوجود الإنساني ذلك” أن حضور الضوء يؤثر في أعصابنا وفي أحاسيسنا بهدف التأثير في مشاعرنا وتوليد نوع من العاطفة الباطنيّة”  وأن التباين الحاد ينحو بالفيلم منحى تعبيريّا يجسّد “الحياة المعتّمة المنقعيّة للأشياء”  و” يضفي على الكل بعدا روحيّا محدثا أشكاله الخاصة والمجرّدة”  ومنحى تراجيديا يعمل على حسم المواجهة اللونيّة في الفيلم لفائدة المعتم. أما المضيء فيندحر وإذا ما حدث أنه لم يفقد خصائصه اللونيّة فإنه يفقد خصائصه الدلالية ويصبح تفريعا من تفريعات السواد فالثلج يصبح نظيرا للعزلة القاتلة والتجمد العاطفي أمّا الشريط الأبيض ذلك أتريدَ له أن يكون  رمزا للصفاء فيضحى علامة إدانة تشهير يجردان الطفولة من براءتها.
   

بؤس القرويين في ظل السلطة الأبوية القامعة واغتصاب الطبيب لابنته:
مظهران من الحياة الروحية المعتمة، تتولى الإضاءة والصورة باللونين الأسود والأبيض إخراجها من عالم الشخصيات الباطني إلى الإدراك البصري على الشاشة.

وبالجملة فأن مايكل هانيك لا ينزّل حكايته ضمن فضاء ألماني فحسب (قرية Mecklenbourg) وإنما ضمن خلفيات جماليّة ألمانية أيضا ممثلة في أسلوب التبعيد البراشتي أو الرؤية التعبيريّة للإضاءة الفيلميّة.

2) العزوف عن فك الشفرة: ممانعة المتقبل وأزمة الضمير الغربيّ.
لا يعمل النّصّ تلك الآلة الكسولة على حد تعبير إيكو  بمعزل عن تصوّره لمتقبلّه النّموذجي. فيحدّد له التّوقّعات المناصيّة  الممكنة ويدعوه إلى بذل جهد تعاضديّ ليملأ الفراغات ويستقصي سيرورات الاستدلال ورصد إمكانات المعنى. وليس المتقبّل النّموذجي غير تلك الاستراتيجيّة التي يشتمل عليها الخطاب  فتستدعي كفايات معيّنة يستخلصها المتقبّل التّجريبيّ. فكيف لنا، باعتبارنا إمكانيّة من إمكانات هذا المتقبّل التّجريبيّ واعتمادا على استراتيجيات فيلم “الشريط الأبيض”، أن نرصد ملامح هذا المتقبّل الضّمني؟
بيّن أنّ الفيلم رصد لإفلاس منظومة القيم الغربيّة ودعوة إلى إعادة التفكير فيها بما تعمد مخرجها من إحراج لمتقبّله الضمني (الذي يفترض أن يكون غربيّا أساسا) ومن قسوة عليه. فـ”يمكن لهذه الحكاية أن تدور في وسط اجتماعي مختلف، في وسط كاثوليكي مثلا ولكن الوسط البروتوستاني، بما فيه من قسوة وبرودة يمنحه إطارا مثاليّا. إنه فيلم قاس حول وسط قاس” . أن ترهين الفيلم وتنزيله في سياق معاصر يستدعي ضرورة ما أصاب صفاء القيم الغربيّة على أيامنا، مثل القيم الروحيّة والأخلاقية من افتقار. فما اغتصاب الأب لابنته سوى استعادة لتلك القضيّة التي هزت الضمير الغربي عامة لمّا كشف الإعلام النمساوي سنة 2008 عن حكاية ذلك الأب الذي ظل يحتجز ابنته ل24 سنة كاملة في قبو منزله ويعمل باستمرار على اغتصابها حتى أنجب منها أطفالا ستة قاسموا أمه القبو نفسه لا يغادرونه ولا يعرفون شيئا عن العالم الخارجي. أو يستدعي ما أصاب قيمه الفكريّة كالديمقراطيّة والحرية، من شوائب بفعل العنف الذي تسلطه الحضارة الغربيّة على غيرها من الحضارات فتعمل على تهميشها واختزال تنوّعها الثقافي في نموذج تفرضه هي بالإغراء حينا وبالإكراه حينا آخر.
يجيب هانيك عن سؤال ستيفاني لامام “منذ متى خامرتك فكرة الشريط الأبيض؟” بقوله “يعود ذلك إلى خمس عشرة سنة خلت، لمّا تساءلت لماذا تتعدد أفلام المتناولة للفاشية الألمانيّة وتقلّ ـ ربّما ـ الأفلام التي تتناول الشرّ في عمقه. شخصيّا لا أعرف فيلما واحدا.  لذا لم أعمل على إنجاز فيلم طويل حول أصول النازيّة ولكن حول مختلف أنواع الرادكاليات التي تفضي إلى التطرّف وإلى الارتباط بإيديولوجيا ما أكانت سياسيّة أم دينيّة. لقد عدت بالأمس من لوس أنجلوس حيث عرض الفيلم للأمريكيين ولاحظت أنهم فهموا مقاصده تمام الفهم.  وإذا ما صوت فيلمي في بلاد إسلاميّة فسأتخذ النموذج نفسه” . ولكن المتقبّل الغربي الفعلي لهذا الفيلم، فيما نتابع من المقالات النقدية منذ فوز الفيلم بالسعفة الذهبيّة لمهرجان كان في ماي 2009 ، ظلّ منشدا لقراءة تاريخيّة تقصر دلالته في رصد أسباب نشوب الحرب العالميّة الثانية باعتبار أن جيل الأطفال ضحايا العنف سيعلن من تلك القرية نفسها بعد 26 سنة لاحقة، بداية الحرب العالميّة الثانية وسيتجسم عدوانيته في سلوك نازي مشين.
إن ممانعة المتقبل الفعليّ عن الخوض في قضايا الفيلم العميقة وغضّه الطرف عن مواجهة ما فيها من مساءلة محرجة لأسباب التطرف العالمي اليوم لا تفقر هذا الأثر فحسب بل تكشف عن رياء غربي نقدي يوازي رياءه السياسي وهروب مستمر من مواجهة حقيقته. 


إعلان