رضا الباهي في حديث خاص بالوثائقية

” أطالب كل من تهجموا علي في فيلم “السنونو لا يموت في القدس” أن يعتذروا لي علنا عن اتهاماتهم الكاذبة”

“لقد كنت في أفلامي مسكونا دوما بهاجس الهوية و وضعت في كل مرة إصبعي على جرح من جراحنا العربية التي تؤلمني و تؤلم كل عربي”: هكذا يلخص المخرج التونسي رضا الباهي مسيرته السينمائية ليعترف فيها لنا  بالتصاقه الوثيق بالواقع و الحياة.
الجزيرة الوثائقية التقت الباهي لترصد معه آخر مستجدات فيلمه القادم و لتكشف عن شخصية هذا المخرج الذي أغضب  الكثيرين و أرضى نفسه.

مبروكة خذير – تونس

بعد تعثر دام سنوات ها نحن نسمع عن أن فيلم”براندو و براندو” بلغ مرحلة الإنجاز، ما الذي تغير من معطيات بعد موت الشخصية التي تدور حولها أحداث الفيلم؟
بداية أود الإشارة ان  عنوان الفيلم في حد ذاته قد تغير فقد أصبح العنوان “المواطن براندو” و في الحقيقة فالفيلم جاهز منذ سنة 2004 .و كنا حينها قد استوفينا كل تفاصيل العمل مع النجم العالمي مارلون براندو الذي رحب كثيرا بالفكرة .لكن وفاته قلبت كل الموازين و أثرت حتى على الصيغة الحالية للسيناريو.
كدت أتخلى تماما عن الفكرة مع كل التعطيل الحاصل، لكن أكثر ما يشدني الآن لإتمام المشروع هو الشاب أنيس الرعاش الذي كان من المقرر أن يلعب دور البطولة في البداية.موت النجم مارلون براندو وضعني أمام مسؤولية كبيرة هي أن لا أكسر حلم هذا الشاب الذي  تقمص شخصية براندو و أصبح مسكونا بأمل تمثيلها و تقمص كل أدوارها في حياته اليومية العادية.
هذا الشاب ترك عمله و انزوى يتفرج على كل فيلم من أفلام براندو و نسي عائلته و أطفاله. لذلك كان لا بد أن أذهب في المشروع و أنقل الفكرة إلى مرحلة الإنجاز حتى لا أخيب طموحات هذا الشاب.
لكن في مقابل إصراري عل إتمام الفيلم تغير السيناريو و أردت الاستفادة من حادثة موت براندو لأوظفها في المسيرة الدرامية للفيلم. سيسافر الشاب براندو للولايات المتحدة الأمريكية بعد تفجيرات  11 سبتمبر ليواجه في المطار عند وصوله بوابل من الأسئلة منها سؤال عن سبب مجيئه لأمريكا فيجيب أنه أتى لرؤية براندو.تتابع بعد ذلك الشاب الذي سيذهب للمستشفى بحثا عن ملاقاة براندو ليتم إعلامه بعد ذلك بموته فتكبر صدمته و حزنه..

 تعودنا أن تكون أفلام رضا الباهي مشحونة برسالة و موقف ما ،فما الذي أردت تقوله لجمهور السينما  من  خلال فيلم “المواطن براندو”؟
 لطالما كان يغضبني و يثير حفيظتي مجيء مصورين و مخرجين غربيين لتصوير أفلام في مناطقنا التونسية. فيدخلون قرى و يقلبونها رأسا على عقب من أجل لقطات في فيلم ما. يثيرني اغتصابهم لسكينة أراضينا فهم يعتقدون أنهم يستطيعون شراء كل شيء بحفنة من الدولارات.
“المواطن براندو” هو ردة فعلي على ذلك الاختراق الذي يسمونه هم حضارة و أسميه أنا نوعا من أنواع الدعارة ..لقد أردت من خلال فيلمي ان أنتقم من هذا الغزو لأقلب الصورة، فأذهب أنا المخرج العربي التونسي لأغزو بلادهم و أصور فيلما على أرضهم. لكني سأكون حريصا على أن لا أخترق الفضاءات مثل ما اخترقوا هم قرى تونسية بأكملها.
هذه رسالتي الأولى من فيلم “المواطن براندو”،فأما  رسالتي الثانية فهي الحديث عن هذه العلاقة التي أصبحت تربط العالم الغربي بالعالم الإسلامي بعد تفجيرات 11 سبتمبر. لقد اخترت شخصية براندو التي كانت ترفض كل أشكال التطرف و العنصرية و تنظر للعالم العربي بنظرة التسامح و قبول الآخر.في المقابل سيتناول الفيلم  سياسة الرئيس الأمريكي السابق التي كانت تمثل الوجه القبيح لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية .

ملصق فيلم براندو

درس رضا الباهي علم الاجتماع في فرنسا: فإلى أي مدى أستفدت من ذلك في مجال الإخراج السينمائي؟

أكثر ما تعلمته من علم الاجتماع هو استعمال التسلسل المنهجي في أفلامي. فعلم الاجتماع هو علم المنهج أولا و قبل كل شيء.لذلك أول ما أبحث عنه في شخصيات أفلامي هو الجوانب الاجتماعية التي تحرك معها الأحداث.فالشخصيات في أفلامي تتحرك لعوامل اجتماعية متعلقة بمحيطها و تنشئتها و موروثها و ليس لعوامل نفسية مثل ما هو الشأن في بعض المدارس الأخرى.
لكن بقدر ما يساعدني علم الاجتماع في انتهاج هذا التمشي المنهجي و ملازمة الواقعية، بقدر ما يرهقني التحكم في الشخصيات التي تكون في حاجة أحيانا لأن نطلق لها عنان الجموح       و الخروج عن منطق الأشياء. و في فيلم “المواطن براندو” سيكون من المفترض أن تتحرر شخصية الشاب براندو من قيودها لأن هذا الشاب سيكون ذا أطوار غريبة و سلوكيات مريبة لا تخضع لمقتضيات الواقع و لا تعترف بالقيود المفروضة عليها: شخصية تحلق في عالم الحلم بالهجرة و ملاقاة النجم براندو.
لكن للإشارة هنا، تبقى مدرستي الأولى في السينما هي الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية إضافة إلى أني تلميذ السينما المصرية التي أعتبرها رائدة و تأثرت فيها بعلامات كبيرة منها على وجه الخصوص صلاح أبو سيف في فيلم “بداية و نهاية” و كذلك السينما المصرية القديمة مثل أعمال بركات في “دعاء الكروان”.
أنا حريص حتى في التدريس على أن أطلع طلبتي على هذه الأعمال التي تعد بالنسبة لي حجر الزاوية و المعبر الذي لا بد أن يمر به أي شاب أو شابة يريد دخول عالم الإخراج السينمائي .فالسينما الواقعية هي السينما التي تخاطب الوجدان و تشدنا إلى الواقع .

 يعتبر فيلم” السنونو لا تموت في القدس ” علامة مضيئة في مسيرة المخرج رضا الباهي : فهل نستطيع الحديث عن نفس قومي قصده المخرج من خلال هذا العمل؟
 في الواقع أنا لا أحبذ الحديث عن نفس قومي بالمعنى الواسع لهذا المفهوم. و لكني قصدت في ذلك الفيلم المواقف التي قدمتها و آمنت بكل الآراء التي جاءت فيه والتي بدأت تظهر معالمها الحقيقية و تتجلى صحتها في كل ما يدور اليوم من أحداث على أرض الواقع و من صراعات بين فتح و حماس. لقد تعرضت وقتها لنقد كبير و ثارت ثائرة الكثيرين و اتهمت بالتطبيع. لكن كل من هاجموني أدركوا اليوم أني كنت على صواب و أن النبوءة تحققت بعد 14 سنة.
جميع الشخصيات التي هاجمتني في ذلك الوقت تعتذر لي اليوم عن إساءتها في الخفاء و لكني أطالبها باعتذار رسمي علني في وسائل الإعلام.
أنا من جيل تعلم الواقعية من  الخط السياسي لبورقيبة و هذا ما سلكته في فيلم “السنونو لا تموت في القدس” .فإذا كانت الانتفاضة هي التي عرفت العالم بالقضية الفلسطينية فإن تصرفات الفلسطينيين و القادة الفلسطينيين على وجه الخصوص ،هي التي  أضرت بالقضية.
لقد كان الحديث يدور في ذلك الوقت عن السلام .لكن في واقع الأمر كان هناك رفض عميق لهذا السلام و مراوغة و مفارقة بين ما هو موجود من ممارسات و ما يقال من كلام فضفاض حول السلام.كان من واجبي كسينمائي عايش تلك الفترة أن أسجل في سينما تخاطب الغرب هذه المواقف و المفارقات التي أغضبت الفلسطينيين .
لم أكن ساذجا حينئذ عندما ذهبت إلى القدس و أنجزت ذلك العمل دون أن أتوقع ما يمكن أن يثيره من سجال حوله.كما أني لم أعمل لوحدي بل  كان لدي مستشارين فلسطينيين مثل توفيق فياض و محمود درويش و أسعد الأسعد.
لقد رفضت أن أنجز فيلما دون أن أزور القدس و من حسن حظي فقد كان لدي جواز سفر فرنسي و المشكل لم يكن مسألة ذهابي للقدس، بل كان المشكل كامنا في أني عريت عيوب القادة الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون مني فيلما حول الانتفاضة و المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني فإذا بي أنجز لهم فيلما لأثبت فيه ان ما يتعرض له الفلسطيني من انتهاك من العرب هو أشنع بكثير مما يعرفه الفلسطيني من انتهاكات  على يد  الإسرائيليين .
صفوة القول أني كنت في ذلك الفيلم مسكونا بهاجس الهوية و وضعت إصبعي على الجراح التي تؤلمني و تؤلم كل مواطن عربي.

” موت النجم العالمي مارلون براندو سيوظف في الحبكة الدرامية لفيلمي القادم”

هل وجد رضا الباهي في بدايات عمله السينمائي مرجعيات احتضنت موهبته و صقلت تجربته ليكون ما هو عليه الآن من تميز؟
 إحقاقا للحق أنا لم أجد أي مساعدة في بداياتي من أحد، بل كانت بداياتي صعبة للغاية .انطلقت  بفيلمين مثيرين للجدل هما “العتبات الممنوعة”و”شمس الضباع” الذي عرض في مهرجان كان عام 1976 و حصد أكثر من 27 جائزة.و قد تحدثت في ذلك الفيلم عن السياحة بشكل رأى فيه بعضهم تناولا سلبيا مضرا بالسياحة التونسية.
كان هناك في بداية مشواري سينمائيين كثيرين عائدين من فرنسا بتجارب كبيرة لكنهم كانوا في مجملهم يزدرون المخرج الهاوي و لا يحتضنون تجربة المبتدئين مثلي فقررت منذ ذلك الحين الاعتماد على نفسي  وتعلمت أن لا أغلق بابي أمام أي طاقة شابة. و أنا الآن حريص كل الحرص على أن أتعامل بشكل مختلف مع طلبتي لأنقل لهم التجربة و أضعهم في طريق النجاح و أعوضهم عن اللامبالاة التي عشتها فآلمتني و لكنها كانت أيضا زادي لتحدي الصعوبات و ترك بصمتي الخاصة في السينما التونسية و العربية.

 يعيب بعض النقاد على السينما التونسية توجهها إلى الفرانكفونية و عملها بأجندات غربية  و تسويق صورة لا تتطابق مع الواقع و الأوضاع في تونس: فكيف تردون على مثل هذه الانتقادات؟
هذه رؤية عامة لا أتفق معها . فصحيح أن أفلاما عديدة تشبه في طريقة معالجتها الأفلام الغربية و على وجه الخصوص الفرنسية.و لكن هذا لا يمنع طبعا وجود أفلام لمخرجين تونسيين نحتوا طابعهم الخاص و أنجزوا أفلاما لا نجدها في أي سينما أخرى عالمية. المخرج محمود بن محمود مثلا مخرج رائع و مواضيع أفلامه تونسية صرف و لكنه يبقى في معالجة بعضها ابن المدرسة الفرنسية.
الناصر خمير أيضا لديه جمالية في التناول لا يمكن تجاهلها علاوة على الأفلام الوثائقية لمحمد الزرن الملتصقة التصاقا وثيقا بالواقع التونسي و التي لا يمكن أن نقول أنها تحلق في فضاء بعيدا عن تونس و معيش المواطن التونسي في تفاصيل حياته اليومية.
التأثر بالسينما الفرنسية موجود في العديد من الأفلام التونسية خاصة في طريقة المعالجة وعمليات التركيب والإضاءة لكن المواضيع تونسية في مجملها.
لكني قد أضيف في هذا السياق ان من المخرجين من يستعمل جرأة زائدة عن حدها في أفلامهم خاصة في ما يتعلق بالمرأة و صورة المرأة في الأفلام التونسية التي يرى بعضهم أنها طريقة في التعامل ترضي المتفرجين الغربيين و تمس من صورة المرأة التونسية.
لكن التعميم و الحكم على الجميع بنفس الأحكام مسألة خاطئة يجب تجاوزها. و للإشارة فقد تطال هذه الاتهامات أو الانتقادات في غالب الأحيان ثلاثة من مخرجي تونس هم النوري بوزيد و خالد غربال و فريد بوغد ير.

نهاية، ماذا أنجز رضا الباهي في سنواته الأخيرة و ما الذي ننتظره منه بعد إتمام إنجاز “المواطن براندو”؟
 أنجزت خلال الثلاث سنوات الأخيرة 14 فيلما وثائقيا للجزيرة الوثائقية. كما أنهيت سيناريو حول دفن النفايات في إفريقيا.و تتمثل أحداث الفيلم في ضياع شاحنة محملة بالنفايات الخطيرة في الصحراء و دخولها قرية آهلة بالسكان الفقراء الذين يعيشون مجاعة قاتلة فيتخيل لهم أن الشاحنة محملة بالأغذية… قضية سياسية في جوهرها لكنها لا تفتقد إلى عامل التشويق.
وأضيف أني كتبت فيلما بعنوان “زهرة حلب” مع الدكتور المخرج السوري نبيل طعمة وسأنطلق في تصوير الفيلم  في سوريا مباشرة بعد إتمام إنجاز فيلم “المواطن براندو”.
كما جرى اتفاق بيني وبين الأديبة الكويتية المعروفة ليلى العثمان -التي اختيرت روايتها «وسمية تخرج من البحر» ضمن أشهر مئة رواية عربية في القرن الحادي والعشرين-على إنجاز إحدى رواياتها في شكل فيلم روائي.
كما أني بصدد التفكير في تحويل إحدى روايات الأديب الكبير أمين معلوف لفيلم روائي ذلك أني قرأت في مسيرتي روايات كثيرة وجدت فيها امتدادا لمواقفي و آرائي.لكن تبقى دائما مسألة الإنتاج و البحث عن التمويل هي المرحلة المرهقة و الأصعب بالنسبة للسينمائي فإنتاجنا في العالم العربي قليل و المخرج يصنع فيلما واحدا خلال سنوات ممتدة في حين ينجز المخرج في البلدان الغربية معدل فيلم كل ثلاث سنوات.و لعل هذا ما يفسر عدم الرضا عن نفسي فإنجاز 20 فيلما وثائقيا و 6 أفلام روائية خلال مسيرة 40 سنة يعد قليلا.


إعلان