ذكريات سينمائية من لندن “1”

عن دور سينما الفن بين الماضي والحاضر

أمير العمري

كانت لندن الثمانينيات تختلف كثيرا عما هي الآن. وعندما أتيت للإقامة فيها في 1984 كان هناك عدد لا بأس به مما يعرف بدور السينما الفنية art film houses التي تعرض التحف السينمائية والأعمال التي قرأنا عنها كثيرا دون أن نراها، ومنها أفلام كلاسيكية قديمة صامتة أو ناطقة.
كان هناك على سبيل المثال دار سينما “كلاسيك” الرائعة المعمار في وسط “أوكسفورد ستريت” أهم شارع تجاري في العاصمة البريطانية وأشهر تلك الشوارع في أوروبا. وكانت هذه الدار العريقة تعرض في معظم الحالات، ما يطلق عليه الانجليز (والأمريكيون أيضا) “الأفلام الأجنبية” أي غير الناطقة بالإنجليزية، وهو تعبير غريب يرتبط بالتشكك في الأجنبي عموما، واعتبار كل من لا يتكلم الإنجليزية “أجنبيا” أو غريبا!
كانت هناك دار أخرى ربما تكون أقل رونقا لكنها كانت تحتل مبنى رائعا قديما في منطقة كنجز كروس في وسط لندن، على ناصية مهمة من شارع بنتونفيل، هي “سينما سكالا” على اسم المسرح الشهير العريق في مدينة ميلانو الإيطالية.
وكانت هناك دار سينما للأفلام الفنية أيضا في ضاحية هامستيد تسمى “إيفري مان” أي “كل الناس”، وكانت تعرض ثلاثة أفلام في برنامج واحد، وكان بوسع المرء مثلا أن يشاهد ثلاثة أفلام لفاسبندر أو لجودار أو لهيتزوج بتذكرة واحدة يومي السبت والأحد أظن أنها لم تكن تتجاوز جنيها واحدا.
وكان لكل هذه الدور برنامج شهري مطبوع، وكانت كل دار تعرض عدة أفلام في اليوم الواحد وليس فيلما واحدا لعدة يتكرر. وكانت توفر بالتالي فرصة لمشاهدة روائع السينما العالمية ببساطة وسهولة، ولم يكن سعر التذكرة يتجاوز فيها جنيها واحدا أو جنيهين في عروض الظهيرة التي كنت أفضلها لأنها تكون غير مزدحمة، وتوفر بالتالي جوا هادئا للمشاهدة. طبعا أسعار تذاكر السينما عموما قفزت قفزة هائلة في السنوات الأخيرة ووصلت حاليا إلى حوالي عشرة جنيهات في المتوسط.
اليوم أصبحت دار سينما “كلاسيك” في أوكسفود ستريت أثرا من بعد عين كما يقولون، فقد تحولت إلى محلات تجارية لبيع القمصان والسراويل وأشياء أخرى، وتحولت دار سينما “سكالا” العريقة إلى ناد يضم حلبات للرقص وبعض المشارب، ويستوعب أكثر من ألف شخص. أما دار “إيفري مان” في هامستيد فقد تحولت إلى مجمع فاخر يضم مشربا ومطعما، وقاعتين لل��رض السينمائي بعد أن تم تقسيم المبنى الكلاسيكي القديم وتحديثه. وتعلن مؤسسة “إيفري مان” أيضا عن إمكانية استئجار قاعة من قاعات السينما أو عروض الفيديو التي جهزتها في المبنى الجديد – القديم، لكنها لم تعد تعرض تلك الأفلام “الأجنبية” المتميزة بل أساسا أفلام أمريكية، منها ما هو من الإنتاج التقليدي مثل “الطريق الثوري” الذي يعرض حاليا، أو من الإنتاج المحدود الميزانية أو المستقل مثل فيلم وودي ألين الأخير “فيكي كريستينا برشلونة” وهو ما أجده من أثقل وأكثر أسماء الأفلام سخفا، بل إن الإسم السخيف قد يكون السبب الذي دفعني حتى الآن إلى عدم السعي لمشاهدته!
هناك أيضا دار سينما “اليكتريك” في بورتوبيللو رود الشهير الذي يقيم حوله عدد كبير من أبناء الجالية الإيطالية في لندن. هذه الدار لاتزال قائمة لحسن الحظ، وتم تجديدها دون تقسيمها إلى قاعات، ولكنها أصبحت تعرض خلال أيام الأسبوع أفلاما من النوع الشائع (الأمريكي).. وهي حاليا مثلا تعرض فيلم “الحياة الغريبة لبنجامين بوتون”. إلا أنها تخصص يوم الأحد عروضا للأفلام الفنية مثل “الإفطار في تيفاني” (1961) لبليك إدواردز أو “الفصل” الفرنسي (الحاصل على جائزة مهرجان كان 2008).
من بين دور أفلام الفن أيضا دار سينما “برينس تشارلز” أو الأمير تشارلز الموجودة في شارع متفرع من ليستر سكوير أو ساحة ليستر الشهيرة التي توجد فيها دور العرض البريطانية الرئيسية الكبرى ومنها قاعة أوديون العملاقة التي تعد الدارالأكبر في عموم بريطانيا، وقد أنشئت عام 1937 وتستوعب حاليا 1700 مقعدا بعد أن كانت تضم قبل إعادة تصميمها في 1988 حوالي 2000 مقعد. ولكن المساحة الناقصة لم تذهب سدى بل لتوسيع الفراغ الكائن أمام الجالسين.
أما دار “برينس تشارلز” فهي أيضا من القاعات القليلة التي لاتزال تحافظ على نفسها دون أن يتم تقسيمها إلى قاعات، رغم مساحتها الجيدة نسبيا، فهي تستوعب 462 مقعدا وتعرض حوالي عشرة أفلام أسبوعيا من الأفلام الفنية والأفلام المتميزة التي تكون عروضها قد انتهت في دور عرض الدرجة الأولى كما نسميها في مصر أو كما كنا نسميها قبل اختراع سينما المول التجاري على النمط الأمريكي التي أجد أن أفضل تسمية يمكن أن نطلقها عليها هي “علب أفلام التيك أواي”!

دار عرض ليسستر

سينما “برينس تشارلز” اللندنية التي تجذب جمهورا من الشباب في معظمه، توفر الفرصة لمشاهدة الكثير من الأفلام التي لا يسهل العثور عليها في دور العرض. ولهذه الدار، مثل معظم الدور التي ذكرتها هنا، اشتراك سنوي ليس كبيرا، يتيح للمشتركين شراء تذاكر بأسعار مخفضة.
وهذا أيضا شأن أهم هذه الدور جميعا، وهي ما يعرف بدار السينما الوطنية أو National Film Theatre (يترجمها البعض “مسرح الفيلم الوطني” وهي ترجمة غير دقيقة). وهذه الدار الرئيسية الواقعة على الضفة الجنوبية لنهر التايمز، تابعة للمركز السينمائي البريطاني أو British Film Institute الذي اعتاد البعض أيضا على ترجمته بـ”معهد الفيلم البريطاني”. ومرة أخرى هذه ترجمة غير دقيقة اعتدنا على مطالعتها ونحن صغار، لأن المكان ليس معهدا تعليميا، كما أن كلمة “فيلم” في الإنجليزية تعني هنا في هذا السياق “السينما” وليس الفيلم كأن نقول مثلا film culture بمعنى الثقافة السينمائية وليس ثقافة الفيلم، ونظريات السينما film theories وليس نظريات الفيلم.. وهكذا.
والاشتراك في مركز السينما البريطانية يسمح بشراء تذاكر للمشاهدة في “دار السينما الوطنية” بأسعار مخفضة كما يسمح أيضا (في الشريحة الأعلى من الاشتراك) بالتردد على مكتبة المركز الموجودة في وسط لندن والتي انتقلت إلى مبنى جديد واسع في أوائل التسعينيات. وتحتوي هذه المكتبة الفريدة على أكثر من 50 ألف كتاب، و6000 عنوان للمجلات التي نشرت عن السينما منذ ظهور السينما في القرن التاسع عشر، والكثير من أعدادها أو ما نشر فيها من مقالات حول السينما محفوظ في لوحات “ميكروفيش” يمكن الإطلاع عليها لمن يرغب. وتحتوي المكتبة أيضا على المجموعات الكاملة لكل ما ظهر من مجلات سينمائية متخصصة منذ عام 1912 سواء باللغة الانجليزية من بريطانيا والولايات المتحدة، أو غيرها من اللغات الأوروبية الرئيسية. وتضم أيضا أكثر من 9 آلاف دليل سنوي عن الأفلام في العالم، وكمية كبيرة من الاسطوانات المدمجة للمواد السمعية البصرية.
وقد قضيت فيها أوقات طويلة خصوصا في الثمانينيات وقت أن كنت أعد لكتابي الأول “سينما الهلاك: اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية”، حيث استعنت بالكثير من المراجع من كتب ومقالات ومعلومات ودلائل.
وتنقسم هذه الدار حاليا إلى ثلاث قاعات، كما أقيم إلى جوارها مباشرة أسفل جسر ووترلو الشهير متحف الفن السينمائي.
أعود إلى دار السينما الوطنية التي يعرض في قاعاتها قسم كبير من عروض مهرجان لندن السينمائي الذي يقام بانتظام منذ 53 عاما. وتعرض الدار برنامجا شهريا يتكون من أكثر من 200 فيلم من خلال أقسام محددة وبرامج وأحيانا في إطار مهرجانات معينة مثل “مهرجان المستقبل”، و”مهرجان أفلام المثليين” وغيرهما.
وربما تكون هذه الدار هي الأهم على الإطلاق من كل الدور المتخصصة في الأفلام الفنية في العاصمة البريطانية، بل والوحيدة الباقية التي تُخصص بشكل منظم ومن خلال منهج واضح، وعلى مدار العام، برامج لاتجاهات محددة في السينما، أو لمخرجين معينين أو لحركة سينمائية ما، وبالتالي فهي تعتبر مقصدا رئيسيا لكل من يرغب في الإطلاع على تاريخ السينما بشكل عملي، وليس من خلال قراءة الكتب والمجلات. وقد قضيت عدة سنوات في بداية وجودي في لندن في الثمانينيات أتردد بصفة منتظمة على هذا المكان، الذي أعيد الآن تصميمه وشيدت له ديكورات مختلفة تماما، تسمح بمساحات أكثر اتساعا من الداخل، كما أضيفت إليه أقسام أخرى اقتطعت في الغالب من موقف السيارات القديم، لكي تضم مطعما فخما ومشربا ومقهي ومكتبة للكتب والأفلام المتوفرة على اسطوانات رقمية. وفي مقصفه التقيت بالكثير من الأصدقاء، والزملاء الأفاضل، واستضفت أيضا الكثير من الأصدقاء الذين جاءوا لزيارة لندن. وأتذكر أنني عندما علمت بوجود الناقدين أحمد الحضري، متعه الله بالصحة والعافية، والناقد المرحوم سامي السلاموني في لندن، واظن أنهما جاءا مباشرة إليها بعد حضورهما مهرجان كان عام 1988، وكان متحف السينما قد افتتح حديثا، اتصلت بإدارة مؤسسة “ساوث بانك” كما يطلق عليها وهي الجهة التي تدير دار السينما الوطنية والمتحف، وقلت للمسؤولين في قسم الإعلام والصحافة فيها إن عميد معهد السينما في القاهرة موجود في لندن مع أحد كبار النقاد، ويرغبان في القيام بجولة في المتحف والاطلاع على نشاطات الدار حاليا. وكان الحضري بالطبع من أوائل الذين اطلعوا على ما تقدمه تلك الدار عندما قضى سنوات في لندن في أوائل الخمسنيات وعاد إلى مصر لكي يؤسس “جمعية الفيلم”.
وقد تمت الجولة، وحصلنا على نسخ من الكتالوج الفخم المخصص للمتحف، وكان السلاموني- رحمه الله- متعجلا كثيرا لأنه كان على ما يبدو، مرتبطا بموعد مهم في ذلك اليوم، بينما كان الحضري على العكس منه، يتوقف بتمهل مبهورا أمام كل الأجهزة السينمائية العتيقة التي يشاهدها ومنها كما أتذكر آلة “زويتروب” القديمة للعرض السينمائي، وهي آلة من القرن التاسع عشر في بداية اختراع السينما، وكان يعلق بالقول: آه.. هذه هي الزويتروب.. ياسلام.. لقد كنت أدرسها في المعهد دون أن أشاهدها. وكانت هناك بالطبع، ولاتزال، نماذج من هذه الآلة وغيرها، يمكن للزائر أن يراها وهي تدور بعد أن يضع فيها بعض العملات المعدنية التي تتوفر في جيبك وأنت في لندن بغزارة حتى تحتار فيما يمكنك أن تفعل بها كما كان ذلك حال سامي السلاموني الذي كان يريد أن يتخلص من تلك “الحمولة” المعدنية التي أثقلت على جيبه، ولم يكن يعرف بالطبع أن بينها الكثير من العملات من فئة الجنيه الاسترليني وكانت عملة حديثة ظهرات لاستبدال الجنيه الورقي القديم الذي لم يعد له وجود الآن بل لقد ظهرت الآن ايضا عملة معدنية من فئة الجنيهين أيضا.


إعلان