بكري: لم ار شيئا يذكر يمكن ان نسميه سينما وثائقية
محمد البكري ممثل ومخرج فلسطيني يعيش داخل الخط الأخضر وقد درس سينما في إسرائيل وساهم في عدة أعمال داخل إسرائيل وخارجها. وقد بدأ مسيرته الفنية سنة 1983 في فيلم “حنّا كي ” للمخرج الفرنسي من أصل يوناني كوستا غابرس والفيلم يتحدث عن حق العودة. وفي 1984 شارك مع المخرج الإسرائيلي أوري بارباش في فيلم “من وراء القضبان” الذي تناول علاقة مساجين الحق العام اليهود مع المساجين الفدائيين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. ونذكر له فيلم “برايفت Privet ” للمخرج سافير كوستانزو وهو فيلم يتحدث عن منزل فلسطيني وقع تحت الاحتلال.
ويعتبر فيلم جنين جنين الفيلم الأكثر إثارة للاهتمام خاصة إذ تناول مجزرة جنين التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي سنة 2002 وراح ضحيتها العشرات وهدم فيها المخيم تهديما كاملا. ويعتبر محمد بكري أول سينمائي يزور المخيم بضعة بعيد المجزرة مباشرة.
حاوره : حسن المرزوقي
“جنين جنين” هو أحد أهم أفلامك التي أثارت ضجة كبرى. هل يعود ذلك إلى شهادة التاريخ على الشر البشري أم إلى قوة الصورة وجودة الفن ؟.
“جنين جنين” هو بكائية السلام هو علاقة التوق والشوق إلى السلام العادل. وهو عمق المأساة الفلسطينية والإنسانية إنه اتهام صارخ ومدوي للاحتلال الإسرائيلي. من ناحية أخرى نقل الفيلم المأساة بكل صدق وعنفوان للصورة وجمالية الألم الذي تختفي وراؤه غريزة الحياة ونشيد البقاء.
لذلك رفضت الحكومة الإسرائيلية الفيلم بشدة وشردتك رغم أنك من مواطني دولة إسرائيلية ؟
نعم في رأيي أن الحكومة الإسرائيلية رفضت عرض فيلم جنين جنين لأنها هي أكثر من يعلم حقيقة ما وقع في جنين وأن الفيلم عبر بصدق صادم عن المأساة. هذا من ناحية من ناحية أخرى كانت الرؤية الفنية للفيلم مقنعة إلى حد كبير ثم إن البعد الإنساني الذي يتجاوز الحيز الفلسطيني كان واضحا في العمل. بسبب كل ذلك رفض الفيلم. واعتبر تهديدا أمنيا لإسرائيل وأمام الرؤية العسكرية في إسرائيل يهمش صاحب كل عمل إبداعي مهما تصل جودته والقيم البشرية التي يدافع عنها. لذلك طردت من عملي وهددت بالقتل وأحاطت بي المضايقات ولكن كل ذلك لم يزدني إلا إصرار على مواصلة مسيرتي الفنية.
جنين جنين..بكائية السلام، ولو كنت في بلد عربى لما استطعت انجازه
إذن لم يكن موقفا شخصيا منك لأنك فلسطيني ؟
ما حدث لي بسيط مقارنة بما يحدث لأهلنا في الضفة واقطاع. ثم أنا لست زعيما سياسيا وإنما أنا فنان لي رسالتي ولي مواقفي. أنا عشت داخل دولة إسرائيل ودرست في مدارسها وخبرت ثقافتها. واشتغلت في السنما الإسرائيلية. واستمعت إلى الرواية الإسرائيلية حول الصراع. ولم تقنعني تلك الرواية أمام حقيقة تاريخية لم تعد خافية على أحد. لقد مللت الصورة النمطية والرواية السطحية التي سمعتها في إسرائيل.
فجاء جنين كالقطرة التي أفاضت كأس الحقيقة ؟
فكرة فيلم “جنين جنين” كانت عفوية وبدون حسابات. بعد المجزرة مباشرة خرجنا في مسيرة احتجاج على ماحدث. كنا بضعة ميئات من الفلسطينيين ورغم ذلك لم يثن جنديا إسرائيليا على إطلاق النار عشوائيا في اتجاهنا. فتساءلت إذا كنا نحن بهذا العدد وأمام الكاميرات نعامل بهذه الطريقة فكيف كان المر في جنين أثناء اجتياحم للمخيم. فحملت الكاميرا ودخلت المخيم.
ماذا رأيت ؟
ما رأيته لا يمكن أن تحاصره الكاميرا ولا يستوعبه نص. لذلك لم أقل كلمة في الفيلم. تركت من شهد المجزرة يتحدثون. لم أتدخل في النص بل شغلت الكاميرا وفتحت عيوني وآذاني وقلبي لأسمع وأرى وأحس بالمعنى الحقيقي لما حدث.
ولكنك أنت في النهاية من اختار المكان بالتالي تدخلت في إعادة تركيب الحقيقة ؟ .
في الحقيقة المكان هو الذي اختارني. فأنا لأول أترك الكاميرا ترى ما تراه عيني بهذا الشكل الشفاف والحر. كنت أسير في المخيم وأطلب من المصور أن يتبعين ويصور من ورائي ولم أعطه أية توجيهات محددة نحو المكان لأن كل المكان كان متشابها في مشهد الدمار وكل المكان كان متشابها في معنى المأساة. وفي الساعات الأواى من دخولي للمخيم أصبت بدهشة يصعب وصفها إلا بالصورة العفوية الغير مركبة. ودوى في ذهني سؤال مر هل يمكن لإنسان في هذا العالم أن يفعل بإنسان مثل هذا الكم من الدمار.
هل صمتك طيلة الفيلم حيث لم نسمع لك تعليقا واحدا يفسر هذه الدهشة المُرّة ؟.
لا أبالغ إذا قلت أنني لم أتدخل في أي شيء في الفيلم وصمت صمت الانسان أي إسنان يرى ذلك المشهد الكارثي.
أتعتقد أن المأساة وادهشة أسكتت صوت الفنان وتركت الواقع يتكلم لذلك تركت الشهود يتكلمون دون مقاطعة أو تعليق ؟
تحدث الجميع من جميع الشرائح الاجتماعية الثقافية والانتماءات السياسية. العجوز والشاب المقاتل والمرأة الحامل التي أطلقت عليها النار بدون … وليس من باب الصدفة أن يبدأ الفيلم بشخصية الأخرس ليعبر بالإشارة عما حدث. لأن ما حدث لا يتطلب كثيرا من التكلف اللغوي لكي يصل إلى العالم. إن صمت المكان تدوي فيه حيقية المأساة. ومن خلف الدمار تختفي حكاية شريرة لجيش دخل مدججا بكل أنواع الأسلحة على مخيم ليفعل ما يريد ويهدم الحياة ولكنه فشل.
![]() |
ملصق فيلم جنين جنين |
ماذا يعني أن يتهدم بيت؟
إذا تهدم البيت يتهدم معه العالم ويتهدم معنى البقاء. وهذا ما لم يفهمه اليهود. لا يفهم أن تهديم بيت الانسان هو تهديم للماضي والحاضر والمستقبل. ولعله بالأحرى يفهم جيدا تلك المعاني فيكثر من هدم البيوت الفلسطينية ليهدم الماضي ويقبر المستقبل. الإسرائيلي لا يهمه إلا بيته هو يسعى بكل قواه أن لا يهدم. ومن الوسائل الوقائية لبيتيه هي هدم بيوت الآخرين.
إذن كنت أسير المكان والناس والمأساة والدهشة. فهل أن تكرار كلمة جنين في العنوان وهذا طبعا ختيارك يعكس تلك الدهشة وكأنك ظللت تردد اسما صعبا لن يمحي؟
“جنين جنين” للتذكير لنقش ما حدث في الذاكرة. وهي أيضا صرخة التهديد بأن هذا لا يمكن أن يستمر. وهو تكرار الصدق لم أتصرف في العنوان فكان جنين والموضوع جنين والمأساة جنين وحب البقاء ايضا جنين. تهدم جنين في تلك الليلة ولكن الحياة والحلم بالبقاء وجذورالوجود في الشجر والبشر والتفاصيل لم تمت. جنين جنين هو شهادة التفاصل على بقاء جوهر الأشياء. إنه الصدق وأعتقد أنه لولا الصدق لما نجحت رسالة الفيلم. وفي النهاية الفن الحقيقي هو الفن الصادق في حقيقته.
قلت إنك مججت تلك الصورة النمطية لدى اليهودي على أنه مهدد عبر تاريخه وتختزل صورة الهولوكوست تلك النمطية فهل أن جنين إعادة إنتاج لهولوكوست فلسطينية ؟ بعبارة أخرى ألم تستحضر مأساة الهولوكوست اليهودي وأنت تتجول في تفاصيل مأساة جنين .؟
لم تكن فكرة الهولوكوست جزءا من رسالة عملي. ولكن هذا الموقف ورد على لسان إحدى الشخصيات التي حاورتها حيث قال لي أحدهم إن ما حدث أكثر بشاعة من الهولوكوست ولكنني حذفت هذا في المونتاج. لا أريد أن أقارن مأساة بماساة فلكل ماساة عنوانها وناسها الذين عانوا منها. فالمأساة ليست مجرد حكاية تاريخية بل هي جرح معاش يوميا. وعبرت عنه الكاميرا بكل صدق. وقد حاولت في جميع أعمالي أن “أروّج” الصدق الإنساني وأنتصر للضعف البشري الي لا يجد من يحميه. وأنا أدفع الثمن من أجل ذلك.
بعد كل هذا ألا تعتبر أن جنين جنين يمثل منعرجا في حياتك الفنية ؟.
قد أفاجئك حينما أقول لك إن هذا الفيلم ليس أهم أفلامي. وأقول إنه لولا ذلك الجندي الإسرائيلئ الذي أطلق علينا النار لما أنجزت هذا الفيلم. طبعا هو فيلم عزيز علي وسبب لي متاعب حياتية أقلها أنني عاطل عن العمل منذ أنجزته. وحتى هذا التشريد كان حافزا لي لأنجز فيلما آخر هو ” من يوم ما رحت” يروي ما حدث لي بعد تلك الرحلة إلى المخيم.
ولكنك لم تتوقف عن الإبداع رغم كل ما حدثت لك من مضايقات.
طبعا انا لن اتوقف عن العمل الإبداعي. فقد ساهمت في مسلسل عرب لنن. وانتهيت مع رشيد مشهراوي من فيلم “عيد ميلاد ليلى” الذي يشارك في مهرجان تورنتو ودبي وقرطاج. وأشارك كذلك في فيلم إيطالي بعنوان هو قصة حب رومنسية وقريبا نبدأ بتصوير فيلم هو سيرة ذاتية لإيلي سليمان وكذلك فيلم “الزنديق”.. فما دمت لم أمت بسبب التهديدات بالقنل بسبب جنين فسأواصل العمل.
![]() |
صورة مركبة : محمد بكري وميشيل خليفة مخرج فيلمه الأخير ” زنديق” |
أخيرا كيف تقيم صناعة السينما التسجيلية في العالم العربي ؟
لم أر شيئا يذكر يمكن أن نسميه صناعة سينما وثائقية فهذه الصناعة تتطلب استثمارات ضخمة. كما أن الإطار العام ومناخ الحريات لا يشجع على ازدهار هذه الصناعة.
هل تريد ان تقول أن الاستبداد السياسي يدجن الفيلم الوثائقي وأن هذا الفن لم يرج عن عباءة المؤرخ أو شاعر البلاط ؟
إلى حد كبير مازلنا نعاني من هذا في العالم العربي. فحتى فيلم جنين جنين رغم أنه يمس جرحا عربيا إلا أنني لو كنت في دولة عربية لما استطعت إنجازه وكثير من الأفكار التي طرحتها في أعمالي الفنية التي اشتغلتها مع الإسرائيليين والوروبيين لو كنت طرحتها في لد عربي لكنت شنقت. طبعا انا هددت بالقتل في غسرائيل وصحيح أنني منبوذ ولكنني لم أتوقف عن التصريح بأفكاري في أعمالي الإبداعية. ونعم أنني دفعت رغيف الخبز ثمنا ولكنني لم ادفع كرامتي ثم لم امت بعد.
أخيرا كيف تقيم حضور الفيلم الوثائقي العربي في التلفزيون العربي ؟
أنا أعاني من نقص فادح في الترويج. ففيلم جنين جنين الذي اثار ضجة وصلت إلى حد تدخل الحكومة الإسرائيلية لإيقاف بثه. رغم ذلك لم تطلبه القنوات العربية باستثناء الجزيرة حيث جاءني طلب خاص من أمير قطر وقد وافقت على عرضه من دون قيد او شرط. وارجو أن تتمكن قناة الجزيرة الوثائقية من إنارة الطريق نحو تأسيس وعي بأهمية الفيلم والوثائقي. وقد عودتنا شبكة الجزيرة بحرفيتها العالية ومستوى أدائها ذي الصيت العالمي.