جدل واسع يرافق عرض مسرحية “من هناك؟” في بيروت
نقولا طعمة – بيروت
في مسرحية “من هناك؟” مؤلفها الكاتب الأميركي من أصل أرمني هو وليم سارويان، أنت أمام مشهد غير اعتيادي في المسرح الحديث الرائج. نصب من معدن متحرك الأجزاء، يدور على عمود، ويحتل مساحة خشبة مسرح مونو في بيروت، بأبعاد ثلاثية ما يثير التساؤل: أين سيتحرك الممثلون؟
ثمة ممثلة كأنها هاربة تقف على أحد أركان النصب، وممثل منبطح أرضا ينتظران إشارة البدء لانطلاق حوار من بين القضبان والأعمدة والجسور الحديد التي يتكون النصب منها.
لا تعرف قيمة النصب إلاّ بعد الانتهاء حيث تكون المساحات التي أمّنها النصب قد أتاحت أداء لوحات متعددة ومتنوعة، تكفي بحدّ ذاتها لسهرة إمتاع مشبعة تكمّلها موسيقى متخصصة، رغم قصر العرض.
وضعت تصميم النصب وفكرته المعقدة مخرجة المسرحية الخريجة بفن الإخراج من جامعة القديس يوسف ماريا باخوس التي جعلت من المسرحية تجربتها الإخراجية الأولى بعد تجارب في التمثيل ومشاركة في أعمال مسرحية أخرى.
يطلق الممثل الحوار بسؤال “مين في هون” أو “من هناك”؟ ويوغل الحوار ليحتل الحيّز الأطول من المسرحية. شخصان فقط وحوار طويل في هذا الحيّز، لكن المشاهد لا يملّ.
ليس وليم سارويان، كاتب المسرحية، جديدا في عمله يوم كتبه. هو من جيل النصف الأول من القرن العشرين، وله العديد من المؤلفات المسرحية والروائية التي يروي النقاد أنها تغلّب انتصار الحق على الباطل، والخير على الشرّ. الحوار الطويل نسبة لحجم المسرحية، والقصير بالمقارنة مع الكثير من حوارات المسرح، كان بسيطا، مباشرا بلا تعقيد.
على المقلب الآخر، يأتي الإخراج للمخرجة الناهضة ماريا باخوس. يتقدم الإخراج الفائض الخيال، ليقدم في عرض قصير، عشرات اللوحات الفنية التي تعبّر كل منها عن موقف من مواقف اللحظة المسرحية، وعن مضمون ما قطعه الحوار من تقدم في مضمار الوصول إلى الفكرة الأساس: إقناع الممثل السجين لخادمة السجن، زوجة حارسه، بالزواج منه.
بكل بساطة وصفاقة، يهاجم السجين الضعيف داخل قضبان سجنه، حاكمه المتسلّط عليه، ويتحدّاه من خلال “الدقّ” بزوجته وإغوائها بالزواج منه إذا تمكّن من الخروج من السجن، مقدّما وعودا معسولة تطوّع الحواجز الحائلة بين رغبته والواقع.
فكرة جريئة بحدّ ذاتها، تعبّر عن تحريض الكاتب للمظلوم على مواجهة عناصر ظلمه بطريقة ذكية بعيدة عن التسييس المباشر.
![]() |
المخرجة ماريا باخوس |
في هذا الإطار من الحوار بين الاثنين تشكّل المساحات التي وفّرها النصب فضاءات متنوعة، عمودية وأفقية، أمامية وخلفية، علويّة وسفليّة تتيح للمثلين اللعب عليها بمشهدية متنوّعة، وتقديم لوحات فنية تعبّر لحظة عن التقارب والرغبة واحدهما بالآخر، وعن التنافر لحظة لم يكن للوفاق طريق بينهما. وفي تطوّر الموقف بينهما تتساقط الحواجز المكونة من القضبان الحديد، ويتفكك النصب تدريجيا أمام تطوّرات الموقف.
هو سجين وهي طليقة، والحوار جارٍ بين القضبان والأسطح العازلة بينهما، لكنّهما يتصاعدان، ويتهابطان آنا، ليلتقيا، ثم يلتفان ويتبادلان المواقع بين السفلي والعلوي في ديناميكية تتداخل فيها قدرة الأداء، ومطواعيّة الجسد، لرسم اللوحات الواحدة تلو الأخرى، غير المتكرّرة، والممتدة لثوانٍ، فيحول إيقاع اللوحات المتسارع دون الشعور بالملل في حوار قليل الكلام نسبة للوقت الذي يستغرقه، ويملأ فراغا كان يمكن أن يكون قاتلا لو اعتمد الإخراج على محدودية النصّ.
جرأة الفكرة التي قدمها الكاتب سارويان لم تكن أكثر جرأة من فكرة الديكور الخلاّقة التي قدمتها المخرجة باخوس التي تزخّم الحوار، وتنفخه بتطويعها الفنون المختلفة من رسم بالجسد، ورقص كامن، وموسيقى راقية، وإضاءة متخصصة، جعلت من المسرحية البسيطة عرضا يرجّح الجمالية الاستعراضية في الأداء المسرحي على أي تقنية أخرى.
على وقع مخيلتها، وقناعتها بأن الديكور يمكن أن يلعب دورا هاما في المسرح، منتقدة الاعتماد على تبسيطه بأشياء غير معبّرة، نجحت باخوس بتحويل الحوار الساذج إلى سمفونية مرئيّة تختال في نشوة المشاهد دون استئذان.
وفجأة يدخل على خطّ المتعة والجمال عنصر ثالث يحبط جماليّة التطوّر الدرامي بدخول السجّان إلى المسرح، خارقا الانسياب الجمالي للعمل وتناغم عناصره. في ذلك الوقت يلعب النصّ لعبة الكسل بإدخال عنصر خارجي لتسريع المسار الدرامي للفكرة، بدلا من المضيّ بالأداء التطوّري الذاتي الذي احتل ثلثي المسرحية، فيهبط العمل إلى ما يشبه الميلودراما.
ولو لم يكن النصّ قد سبق الإخراج، لأمكن القول أن الكاتب تعدّى على المخرج، وأتلف إنجازه.
قدّم الممثلان أداء هاما وراقيا واحترافيا، رغم جدّتهما في التمثيل، بينما تألّق التصوير الموسيقي للمسرحية على يدّ المؤلف المعروف هتاف خوري.
وأثارت المسرحية جدلا في ختامها حيث يستطيع الزوج التغلب على السجين وقتله، مناقضا ما يقال عن انتصار سارويان للحق والعدالة.
![]() |
من العرض: صراع ثلاثي |