ذكريات سينمائية من لندن (2 )
عن دور سينما الفن بين الماضي والحاضر
![]() |
أمير العمري |
في دار السينما الوطنية المطلة مباشرة على بقعة رائعة من نهر التايمز الشهير، أتيحت لي الفرصة لمشاهدة عشرات الأعمال العظيمة في تاريخ السينما، منها على سبيل المثال فيلم “الجشع” The Greed الصامت من عام 1925 للمخرج الألماني الأسطوري إريك فون شتروهايم، وقد عرض بمصاحبة عزف موسيقي مباشر على البيانو. وشاهدت أيضا “نوسفيراتو: مصاص الدماء” من أفلام التعبيرية الألمانية للعبقري مورناو، وتابعت عروض موسم أفلام تاركوفسكي كلها، ثم حضرت المناقشة التي شارك فيها المخرج الروسي الكبير الراحل، كما حضرت أيضا المناقشة التي دارت بين جمهور الدار وأعضاء مركز الفيلم البريطاني وبين المخرج الألماني فيرنر هيرتزوج عندما عرض فيلمه الأحدث وقتها، “كوبرا فيردي” عام 1987 في ختام موسم مخصص لعرض كل أفلامه، واستمعت إلى هجومه الحاد واتهاماته المرعبة للممثل الألماني الراحل كلاوس كينسكي الذي ارتبط به في معظم أفلامه وصنع معه أعظم أفلامه ومنها “أجيرا غضب الرب” و”ستروشيك” و”فيتزكارالدو” و”نوسفيراتو”، والفيلم الأخير إعادة إخراج للفيلم الألماني الكلاسيكي الشهير. ولاشك أن العلاقة بين هيرتزوج وكينسكي هي علاقة كلاسيكية من نوع “الحب والكراهية” التي تكون عادة دافعا إلى الإبداع المتألق، وقد أبدع الإثنان وتألقا كثيرا وتشاجرا واتفقا واختلفا واصطدما وأقسما ألا يعملان أبدا بعد ذلك مع بعضهما البعض ثم عادا واستأنفا العمل في افلام أخرى، لكي يتكرر السيناريو، سيناريو العذاب المشترك. وفي هذا يروي هيرتزوج الكثير جدا، خصوصا ما يتعلق بتجربة العمل معا في فيلم “أجيرا غضب الرب” الذي صور في أماكن وعرة من غابات الامازون في البرازيل. وقد شاهدت فيلما تسجيليا طويلا رائعا عن تجربة العمل في هذا الفيلم.
وفي القاعة الكبرى من دار السينما الوطنية حضرت المناقشة المهمة التي دارت مع المخرج الروسي الشهير إليم كليموف صاحب التحفة السينمائية الشهيرة “تعال وشاهد” (1984) Come and See. وكان قد انتخب عام 1986 رئيسا لاتحاد السينمائيين السوفيت في زمن البريسترويكا (الانفتاح السياسي في الاتحاد السوفيتي في عهد جورباتشوف) وكان منصبا شديد الأهمية له فعاليته وخطورته ويملك التدخل في الكثير من الأمور. وأتذكر أن النقاش معه كان ساخنا، وأنه ذكر معلومات كثيرة عن منع الكثير من الأفلام أو “وضعها فوق الرف”- حسب التعبير الشائع، رغم أنها كانت بالطبع من إنتاج ستوديوهات السينما التي كانت تملكها الدولة السوفيتية. وكانت الأسباب مضحكة كثيرا. وأتذكر أنه قال إن الكثير من تلك الأفلام “الممنوعة” كانت قد منعت لرداءة مستواها الفني فقط، وإنه عندما تولى المسؤولية وعرض على مخرجي تلك الأفلام السماح بعرضها، رفضوا عرضها بل وتبرأوا منها!
وشاهدت العرض الأول للنسخة التي تمت استعادتها بعد أن كانت قد اختصرت إلى أكثر من النصف، من الفيلم الكلاسيكي الشهير “1900” لبرناردو برتولوتشي بعد أن رد له الاعتبار وعرض للمرة الأولى منذ اختفائه في السبعينيات، في منتصف الثمانينيات في إطار برنامج كامل لكل أفلام مخرجه.
![]() |
أنا هنا أكتب بالطبع عما قبل الانتشار الكبير للأفلام المتوفرة على شرائط الفيديو (ثم اسطوانات دي في دي)، رغم أن الفيديو ظهر في أوائل الثمانينيات إلا أن الأفلام الفنية للسينمائيين الكبار في العالم لم تكن قد وجدت طريقها إلى شرائط الفيديو بعد، وكانت متعة المشاهدة في دور العرض هي المتعة الأساسية (ولاتزال) بالنسبة لكاتب هذه السطور وهو ما قد يجد فيه البعض خضوعا لـ”موضة” قديمة، بل يمكنني أيضا أن أضيف أنني من الذين يجدون صعوبة كبيرة حتى الآن في الكتابة عن أفلام لم أشاهدها سوى على الاسطوانات الرقمية “دي في دي” وليس في دور العرض أي على الشاشات السينمائية الكبيرة، ولا يرجع ذلك فقط إلى أنني أعتبر النسخة السينمائية من الفيلم هي “الأصل”، أي الأنقى والأكثر سحرا ورونقا، وأن غيرها من النسخ المتوفرة على الاسطوانات الرقمية وشرائط الفيديو هي “الصور” الشبيهة بـ”الفوتوكوبي”، بل لأن المشاهدة في دار العرض هي الجوهر الأساسي لفكرة السينما، أو لـ “سحر السينما”، أي متعة الجلوس في الظلام مع جمهور، والاندماج في الشاشة الكبيرة والاستغراق في الفيلم الذي يصبح هنا عالما بأسره، يشاهده المرء بروحه وقلبه، ولا يكتفي فقط بمجرد “تصفحه” بينما يقوم بصب الشاي او القهوة أو ينشغل بالرد على التليفون في غرفة الجلوس في منزله!
كان الإعلان عن عرض فيلم مثل “دكتور فاوست من جراسا” للمخرج المجري الكبير ميكلوش يانتشو Jancso (88 سنة) الذي اعتبره أحد أعظم السينمائيين في تاريخ السينما في هذه الدار عام 1984 فرصة هائلة للاطلاع على أحدث ما أخرجه ذلك العبقري صاحب “جمع الشتات” Round Up و”الأحمر والأبيض” و”المزمور الأحمر” و”رابسودي مجرية”. غير أن الفيلم لم يكن في الحقيقة قد صور للتليفزيون ولكن بالكاميرا السينمائية في عشر حلقات، وكان توقيت عرضه يبلغ أكثر من تسع ساعات. وقد استمتعت بقضاء أكثر من عشر ساعات (بما في ذلك فترتا الاستراحة) اشاهد وأستمتع بهذا العمل العبقري الذي يظل بالنسبة لكثيرين مجهولا حتى الآن بل إن قائمة أعمال يانتشو لا تحتوي عادة على هذا العمل باعتباره ليس من الأفلام السينمائية.
في الوقت الحالي وأنا أكتب هذه السطور تبدأ دار السينما الوطنية في لندن موسما كاملا يستغرق شهرا ونصف الشهر، لكل أفلام ستانلي كوبريك، كما تقيم معرضا يصاحب عرض الأفلام، يضم نماذج من التصميمات والديكورات من الفيلم الذي توفي كوبريك دون أن يتمكن من تنفيذه وكان يفترض أن يتناول موضوع الهولوكوست.
وتعرض الدار أيضا على مدار 16 يوما 11 فيلما من أفلام المخرج الفرنسي من عصر الواقعية الشعرية مارسيل كارنيه (1909- 1996) وهي تلك التي كتبها له كاتب السيناريو والشاعر جاك بريفير (1900- 1977) في ثلاثنينات القرن الماضي مثل “وداعا ياليونار” و”أطفال الفردوس” و”فندق الشمال” و”بوابات الليل” و”تيريز راكين”.
وربما يكون من بين الأسباب التي أبقت على هذه الدار حية أن الجهة التي تتبعها وهي “المركز السينمائي البريطاني” يتلقى دعما من الدولة مع المحافظة على استقلاليته وهو الشكل الذي كان البريطانيون سباقون في التوصل إليه كما حدث مثلا عند إنشاء دار الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عام 1922 فقد أنشئت هذه المؤسسة على أساس أن تكون شبه مستقلة وتخضع لنوع من الإدارة الذاتية أو التسيير الذاتي، وتتبع لمجلس أمناء مستقل عن الدولة وعن إدارة بي بي سي، والهدف بالطبع أن تظل المؤسسة بمنأى عن الضغوط السياسية والتجارية.
وإن كان نشاط مركز الفيلم البريطاني لا ينحصر فقط في إدارة “دار السينما الوطنية” بل يمتد ليشمل دار المحفوظات السينمائية أو السينماتيك (حسب التعبير الفرنسي) أو ما يعرف ببساطة بـ”أرشيف الفيلم البريطاني” دون أن يعني هذا أنه يحفظ فقط الأفلام البريطانية بل يضم عددا هائلا من كل الشرائط المصورة، وثائقية أم روائية منذ اختراع السينما حتى اليوم، كما يضم عددا كبيرا من النيجاتيف الأصلي للأفلام البريطانية منذ ظهور تلك السينما حتى اليوم.
![]() |
ويضم هذا الأرشيف نحو 50 الف فيلم روائي، و100 ألف فيلم غير روائي، و625 برنامجا تليفزيونيا، كما يحتوي على عدد هائل من الملصقات والصور.
ولعل من أكثر المجموعات التي يحتويها هذا الأرشيف أهمية المجموعة الخاصة بأفلام السينما الصامتة من عام 1895 إلى 1929 وتضم كل ما ظهر من أفلام روائية ووثائقية وتسجيلية، من أقل من دقيقية واحدة إلى الأفلام الطويلة جدا، ومنها أيضا الجرائد السينمائية والرسوم والأفلام الدعائية التي أنتجتها الشركات التجارية للترويج لمنتجاتها.
ولاشك أن الأرشيف السينمائي البريطاني يعد من أهم دور المحفوظات السينمائية في العالم إن لم يكن أهمها، بحكم أنه بدأ الاهتمام بجمع الأفلام وقت أن كانت الإمبراطورية البريطانية ممتدة من أقاصي الشرق إلى أقصى الغرب، وكانت كما كانوا يقولون لنا” لا تغرب عنها الشمس”. وكان من السهل بالتالي الإحاطة بكل ما يصور من أفلام وشرائط في البلدان التي كانت تحتلها الجيوش البريطانية، ومنها مصر والهند.
وإذا لم يتمكن أي باحث اليوم العثور على أي وثيقة مصورة قديمة فيمكنه العثور عليها هنا في هذا الأرشيف الهائل. وأظن أنهم هنا يبيعون نسخا من الشرائط القديمة يتم استنساخها خصيصا مقابل مبالغ مالية ضخمة بالطبع، وعادة ما يلجأ صناع الأفلام الوثائقية للتليفزيون والسينما للحصول على وثائق من هذا النوع. ولا ننسى أيضا أن البريطانيين حصلوا على جزء مهم، من أرشيف الفيلم الألماني بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، وإن كان القسم الأعظم من هذا الأرشيف استولى عليه الروس الذي دخلوا برلين العاصمة. وقد أعيد فيما بعد، الكثير من الأفلام القديمة إلى الأرشيف الألماني، ولكن بعد أن استنسخ البريطانيون نسخا لأنفسهم.