قراءة نقدية لفيلم بيتنا

عزالدين الهيشو

هل هو تمرد على المألوف أم هو دعوة لتغير و تجديد، أم هو فقط شغف بالإبداع ؟ . أسئلة بدرت إلى ذهني عند مشاهدتي لهذا الفيلم. فيلم “بيتنا” للمخرج الفرنسي يان آرثس برتنارد ، فالفيلم يحمل في طياته  الكثير من الأشياء الجديدة على مستوى السيناريو و لقطات و الصوت و الإخراج . مستجدات تستحق منا أن نخصص لها قراءة  لنعرف ماهيتها و خصائصها الجديدة و المميزات هذه التجريبة الفريدة. في هذا المقال سنقدم قراءة للقالب الفني و شكل الإبداعي  الذي أخرج به المخرج  الفرنسي يان آرثس برتنارد فيلمه  “بيتنا”.
 وثائيقي أم فيلم دعائي ؟ إن أول سؤال يتبادر إلى ذهن المشاهد  ذو البصرية الوثائيقة هو سؤال عن جنس هذا الفيلم ، فبنسبة لي هناك دمح بين أساليب دعائية في شكل وثائيقي . الفيلم الدعائي أو مايعرف بروباغاندا لاتقتصر على المضامين ذات الطابع الإيدلوجي  أو السياسي كما إرتبطت في أذهان الناس، و قد كان الألمان من أبرز من تألقوا في هذا الميدان حيث كان يتم إنتاج الأفلام الدعائية ذات المضمون الحربي بأسلوب و ثائيقي من أجل إعطاء مصدقية أكثر للفيلم. فالبروباغاندا  تعني نشر معلومات توجه مجموعة  مركزة من الرسائل بهدف الثأثير على آراء الناس و سلوك أكبر عدد من المتلقين المستهدفين، و هى تقوم  بالتأثير على الأشخاص عاطفيا عوض  مخاطبة العقل. “بيتنا” يتخذ من الإيدلوجا الخضراء إطار له،  و هذا يتجلى من خلال تركيز على الفكرة الواحدة و الإعتماد على العامل العاطفي لتأثير  في الأشخاص، فسيطرة الصوت الواحد داخل الفيلم و إنعدام أراء المختصين و المناهضين، يعزز صفة الدعائية للفيلم . لكن رغم وجد الجوانب الدعائية في الفيلم  فهذا لايكفي في أن نطعن في طابعه الوثائيقي، فأسس كل عمل وثائيقي أنه ينطلق من أرض الواقع، و ان يكون موضوع الفيلم نابعا من الواقع المعاش. في فيلم “بيتنا” قام المخرج بالمزج بين أساليب الدعاية و واقعية المنهج الوثائيقي. وهذا ما أكده المخرج نفسه مرارا بقوله “فيلم بيتنا هو فيلم دعائي بزي وثائيقي”                       
طغى التعليق  و غابت و جهات النظر أو الحوار، و هذا  أحد سلبيات الفيلم ، فالحوار يعد روح الوثائيقي إن جاز التعبير، حتى أن المخرج مايكل ريبج يعتبر الحوار القلب النابض للفيلم الوثائيقي، لأن الحوار يعطي قيمة إضافية للفيلم المتجلية في المصداقية الوثائيقية و التطابق مع الواقع، مصداقية تتعزز  من خلال إعطاء الكلمة إلى الناس ليحكوا قصصهم و مواقفهم، و هذا ما يسمح بتحقيق معادلة التاطبق في الفيلم، حيث إن المشاهد يضع نفسه في مكان الشخص المحاور حتى يتفاعل مع أحداث الفيلم. بالإضافة إلى أن طغيان التعليق بصوت واحد يخلق بعض الملل في نفس المشاهد.
إذا كان مخرج الفيلم يان آرثس برتنارد لم يوفق في إختيار الأسلوب المناسب في سرد أحداث الفيلم،  إلا أن توزيع المؤثرات الصوتية و الموسيقى و الصمت في الفيلم يدل على  مدى الحس الفني و الإبداعي الراقي لدى المخرج، فقد وظف الموسيقى بصورة مستقلة واوقعية و لكن بشكل تعبيري، حيث أنه خصص كل صوت لمشهد معين، صوت يتطابق و حجم المشهد و مضمونه و دلالته. ففي البداية طغت الموسيقى الهادئة  التي إتسمت بالإيقاع الهادئ متزامنتا مع ظهور المناظر الطبيعية، كدعوة من المخرج إلى الإسترخاء و  الإستعدادا لبداية الفرجة. و مع تصاعد منحى الأحداث و تغير المشاهد من مشاهد طبيعية إلى مشاهد تدل على تقدم الإنسان (معامل، ناطحات السحاب …) تتصاعد الإيقاعات بوتيرة سريعة حتى تصل إلى أقصى حد في  كليمكس (مشاهد حقول البترول). كان يان آرثس برتنارد ذكيا في إختيار و ربط المشاهد مع الموسيقى المناسبة، فجعل الموسيقى ذات الإيقاعات الهادئة تتزامن مع ظهور المناظر الطبيعية، و الموسيقى ذات الإيقاعات السريعة مرتبطة بمشاهد تقدم الإنساني. سعى المخرج من وراء هذا التوظيف بأن يركز المشاهد على لقطات الطبيعية  أكثر من لقطات الأخرى. فالموسيقى التي و ظفها في المشاهد الطبيعية تتيح فرصة تركيز و تفكير، وهذا ما أراده المخرج، أن يفكر الجمهور مالذي سيحل بهذا الجمال الطبيعى و إلى أين سيوصلنا جشعنا. أما إستثمار الصمت فقد إقتصر على المشاهد الكارثية ( حرق الغابات، ذوبان الثلوج …) .إن فضاعة المشاهد التي تزامنت مع الصمت تدل على أن أقوى الكلمات  و أبلاغها لن تستطيع التعبير عن خطورة المشهد و فادحته، وبهذا فإن القيمة الدلالية لصمت كانت أبلغ من الكلمات، صمت كرمز للحداد على مآل له حال كوكبنا .
لقد كان سيناريو الفيلم كلاسكيا و لكن بلمسة أدبية و قالب حكائي ، تم تقسيمه تقسيما ـ تيمتيا كرنولوجيا ـ كون كل فكرة مرتبطة بفترة زمنية معينة . فالماضي مرتبط بظهور و نشأة الإنسان على كوكب الأرض، و الحاضر فيسرد فصول تقدم الإنساني، أما المستقبل الذي يستشرفه سيناريو الفيلم لم يحدد لا شكله و لا معالمه إنما يترك للجمهور خير تحديد المستقبل،  من خلال أمثلة على القدرة الإنسان  على السير نحو الأفضل، فإما ان نغير سلوكنا للمحافظة على كوكبنا أو سير على منوال الحالي لنصنع نهايتها و خرب كوكبنا بأنفسنا.
الفكرة الأساسية للفيلم إتسمت ببساطتها وو ضوحها وهذا ماجعل الفيلم سهل الفهم و الإستعاب. فالفيلم يظهر مدى تنوع و غنى الحياة على كوكب الأرض، ويحذر من الأخطار التي سببها الإنسان لنظام التوازن البيئي. الفيلم يبتعد عن النظرة الكارثية لمستقبل الأرض ذلك برسالة الأمل  التي يدعو المخرج عبرها البشر إلى التحرك قبل فوات الأوان.

المخرج أثناء العمل على الفيلم

تم بناء سيناريو الفيلم بناءا محكما، تميز بتسلسل الأفكار حيث تتخذ أحداث الفيلم منحا تصاعديا وصولا إلى الأحداث المتعلقة بالطاقة ـ كلمكس ـ، لتبدأ مرحلة تمرير الرسائل المهمة التي أراد المخرج تمريرها إلى الجمهور المتلقي ، رسائل الأمل و الدعوة إلى التحرك من أجل إنقاذ الأرض قبل فوات الأوان.
 لقد أدرك يان آرثس برتنارد قبل أن يبدأ بتصوير فيلمه جمهور المستهدف من وراء إنتاج هذا الفيلم ، فلابد أن يتعرف صانع الفيلم على جمهور المستهدف قبل إنتاج الفيلم ، وذلك لكي يختار الطريقة المناسبة و الفعالة لمخاطبة و التأثير في المتلقين المستهدفين. إن فيلم “بيتنا” هو عمل موجه إلى كل  البشر الذين يتقاسمون الحياة على سطح كوكب الأرض.
إن وضوح الفكرة و دقتها و البساطة في معالجتها من المميزات الإيجابية التي تحسب لصالح الفيلم، فبفضل هذه المميزات يتمكن الجمهور من إستيعاب فكرة الفيلم ورسائل التي يرسلها دون حاجة توفر على مستوى معرفي عالي. وهذا كله يسهل على الجمهور إدراك الهدف السلوكي الذي يسعى مخرج الفيلم من الجمهور فهمه و إيستعابه. فالهدف السلوكي يقصد به مالذي سيفعله المشاهد نتيجة لما شاهده و تعلمه من الفيلم، و تحديد الهدف من فيلم هو خطوة هامة لأنه على أساس هذا الهدف  يتم تحديد الموضوع و كيفية رد فعل المشاهدين بعد رؤية الفيلم ، و على المخرح أن يتأكد على أن محتوى الفيلم يساهم في تحقيق الهدف، و الهدف الذي حدده المخرج لفيلمه هو تحرك لإنقاذ كوكب الأرض، ويمكن القول أن يان آرثس برتنارد قد وفق في تحقيق الهدف السلوكي فتجاوب الكبير الذي لقاه الفيلم من طرف الجمهور، و الإنطباعات الإيجابية التي تركها في نفوس من شاهدوه دليل على أن جزء من الهدف السلوكي الذي سطره المخرج لفيلمه قد سر على الطريق الصحيح. لقد وفق المخرج في تطبيق معادلة التطابق في فلمه فأي مشاهد للفيلم يشعر أن مايقدم له في هذا الفيلم يتطابق مع حياته الحقيقية و الواقعية، حيث إن تمتع المشاهد بالفيلم يتوقف على مدى إحساسه بأن محتوى الفيلم وثيق الصلة به. فالمشاهد لهذا الفيلم يتوحد مع أحداثه، نظرا لإحتواء الفيلم على الكثير من الأشياء المألوفة لديه، فالشخص العادي يستجيب لحوادث الفيلم التي يشعر  أنها تميزه شخصيا، إن الشخص العادي هو مخلوق ذاتي يدرك ويستجيب إنتقائيا للأشياء الموجودة في الفيلم و التي يجدها هامة بالنسبة له. وهذا مايحعل المشاهد يخلق صلة بينه و بين أحداث ومضمون الفيلم ، كون الفيلم إنطلق من أرض الواقع وهذا ما يميز الجنس الوثائيقي.
إذا كان الفيلم قد لاق نجاحا كبيرا ، تجسد في الإقبال الكبير على المشاهدته و الإنطباعات الحسنة التي تركها في نفوس المشاهدين، فالفضل يرجع إلى سحر المشاهد التي يعرضها. “بيتنا”  يعد أول فيلم وثائيقي تم تصويره جوا من بدايته إلى نهايته، لم يسبق لأي فيلم الآخر أن صور بهذه الطريقة. فالقيمة الجمالية للفيلم تكمن في مشاهده، فلقد تم توظيف تقنيات تصوير متطورة كما تم إبتداع أساليب تصويرية جديدة. سيطرت لقطات الجوية البانورامية سيطرة مطلقة على الفيلم من بيداته إلى نهايته، و هذا ليس غريبا إذا علمنا أن المخرج  يان آرثس برتنارد يعد من أشهر المتخصصين  في التصوير الفتوغرافي من الجو. كما أن لقطات الجوية البانورامية تحتوي أكبر قدر من المعلومات يمكن أن تصل إلى المشاهد، حيث إنها تعرض المناظر الطبيعية و المساحات البعيدة و الشاسعة. لقد إرتبط في أذهان الناس أن لقطات التي تلتقط من الزوايا العليا تهدف إلى التصغير من الشيء أو الحط من قيمته، لكن في حالة ” بيتنا ” فهو عكس ذلك، فمن خلال لقطات الجوية بانورامية (زوايا العليا)، تمكن المشاهد من إكتشاف مدى جمال الطبيعة و سحرها . فقد قام المخرج بتصوير مايزيد عن 500 ساعة من الجو  من 56 بلدا لكي يستقر قراره على 93 دقيقة من أصل 500 ساعة.
إتسمت لقطات المصورة في فيلم “بيتنا” بجودتها العالية، والفضل في ذلك يرجع في إستخدام كميرة تتوفر على أحدث ما توصلت له تقنية التصوير الرقمي، ـ سينفلكس ـ وهي كميرة كان قد تم تطويرها للأغراض العسكرية لمهام التجسس و المراقبة، و لأول مرة تستعمل في تصوير فيلم وثائيقي، فالمردودية الجيدة  لكميرة ـ سينفلكس ـ المتجلية في التصويربحودة “فائقة الدقة” و القدرة على التصوير من كل الزوايا.
 بغض النظر عن إذا كانت مميزات الدعاية أو الوثائقية تغلب على الفيلم ، ففيلم “بيتنا” للمخرج يان آرثس برتنارد هو ثورة في مجال الفيلم الوثائقي إبتداءاً من سيناريو  مرورا باللقطات وصولاً إلى صوت .
ثورة على المستوى الفني الإبداعي وتوظيف التقني ، فقد حول المخرج تحقيق تجاوب إيجابي بين الجمهور والفيلم من خلال إيقناع الجمهور بفكرة الفيلم من خلال البراهين والحجج العلمية، وأيضا محاولة كسب  تعاطف الناس مع الموضوع من خلال تأثير عليهم بعرض مشاهد الطبيعية الخلابة و الموسيقى الهادئة، كل هذا من اجل تحقيق الهدف سلوكي، الذي حدده المخرج للفيلم وهو تغير سلوكنا وسعى إلى  إنقاذ كوكبنا في مدة المتبقية لنا والتي حددها العلماء في 10 سنوات .
يمكن أن نجمع على أن فيلم قد تمكن من تحقيق جزءاً من هذا الهدف الكبير ، وهذا يتجلى في تحطيمه لرقم القياسي حيث تمت مشاهدته يوم افتتاحه في أكثر من 181 بلدا كل هذا الجمهور من كل هذه الدول كان لهم موعد مع الأرض .


إعلان