“حنين الغوردل” لجان شمعون ..الأرض تهتز من الذكريات
ليس الفيلم الوثائقي الجديد ( حنين الغوردل ) للمخرج اللبناني جان شمعون فيلما عن الحرب فقط، ففيه الحنين أيضا إلى ” نشوة الأرض” وأولئك الناس الذين وقفوا وعاشوا وماتوا عليها كما يخبرنا شمعون بصوته ولهجته الزحلاوية المميزة في مستهل الفيلم ( 52 دقيقة – من إنتاج الجزيرة الوثائقية) فمع كل حرب، يكتشف نوعيات جديدة من البشر، كانوا يوما قد مروا في أفلام له بنوع من الصخب المجبول بالتراب.
![]() |
جان شمعون
وإذ يحلو لشمعون أن يفاخر من موقعه بعثوره على مفردة ” الغوردل” الجنوبية التي تقابل الغار ، فلأنه يعتقد أن ما ينقص فيلمه هذا بالذات هو الهوية الجنوبية ، وهذا قد يبدو مفارقا بعض الشيء، فمعظم أفلامه كانت تتجه على الدوام صوب الجنوب، ولكن اللحظة التي أراد معاينتها والنبش فيها، هي اللحظة التي تلت حرب تموز 2006 وما تبعها من دمار هائل طال المناطق الأكثر فقرا في لبنان، وبذريعة واحدة دائما هي البحث عن أبطال الأفلام السابقة كما يفترض المشروع الجديد الذي تصدى له بالتعاون مع الجزيرة الوثائقية.
بالطبع لا يعود جان شمعون في ( حنين الغوردل) إلى خديجة حرز بطلة فيلمه السابق ( زهرة القندول ) – 1985 – ، وكان قد أخرجه شراكة مع رفيقة دربه وعمره المخرجة الفلسطينية مي المصري – من باب البحث في مصيرها الشخصي ، وهو يعرف تماما أن الجنوبيين عموما لا يمتلكون مصائر شخصية، وإن كانت حرز قد جربت المعتقلات الإسرائيلية، وقيض لها أن تتنقل بين أكثر من معتقل حتى تسلمت “امتياز الاعتقال في سجن الرملة ” في فلسطين المحتلة .
![]() |
زهرة القندول
إذن، يبدأ شمعون فيلمه بعد مرور حوالي ربع قرن على ( زهرة القندول ) ولكنه يبدأ فيه من لحظة راهنة، فالمهجرون الجنوبيون الذين أجبروا على مغادرة بيوتهم، هاهم يعودون، ويحاولون ترميم ما تبقى من ممتلكات وذاكرة، فيما نشاهد خديجة حرز من موقعها في سيارة تردها إلى هناك أيضا ، لتطلعنا على استشهاد ابنها حسن في الحرب الأخيرة. وشمعون الذي اختار هذا المدخل، للتقدم جنوبا، فإنما يشير إلى الذريعة الفيلمية ، التي ستسهم أيضا باختراع ذكريات جديدة عن حرب كما يخبرنا الجنوبيون لم تتوقف ضدهم منذ عام 1948 .
لا تتوقف الأمور عند السطح ، فيقترب شمعون في فيلمه أكثر من بعض الحالات ، فالفنانين التشكيليين سوزان ويوسف غزاوي اللذين يبحثان بين الأنقاض عن لوحات لهما تستحق فيلما من داخل الفيلم . يضحك يوسف بمرارة وهو ينجح في الوصول إلى لوحة جدته الممزقة، مع ما تحمله من رموز صعبة ومكلفة، فالجدة التي ” خلّدها” في لوحته، كانت تتمتع ببنية قوية ، ولم يقدر لها أن تغادر ضيعتها الجنوبية أبدا ، إلى أن أجبرت يوما في أحد المتواليات العدوانية على الجنوب اللبناني أن تغادرها مرغمة ، وكانت المفاجأة أنها بدأت تضمحل رويدا رويدا حتى ” أصبحت بحجم كرة الصوف المدورة ” ، وفارقت الحياة بعد ستة أشهر تقريبا على مغادرتها ضيعتها. ما يحدث في هذا المربع الجغرافي الصغير يدعو للاستسلام أكثر فأكثر للسخرية ، فيما ” تتحرش ” الكاميرا ببقية المصائر الملقاة على قارعة الطريق .
الفتاة الجنوبية سناء شلهوب التي فقدت سبعا وعشرين فردا من أسرتها تكتب خواطرها في صمت مطبق، فلم يعد هناك أطفال بحسب تعبيرها لتقرأ لهم ما تكتب. ولكن شمعون الذي يراهن في فيلمه، بحذق واضح، على الحالة التشكيلية التي رافقت الحرب تجعله يعود إلى الفنانة التشكيلية اللبنانية خيرات الزين ، فالأمر عندها يبدو مختلفا تماما عن حالتي سوزان ويوسف غزاوي . خيرات لا تبحث عن لوحات مدمرة ومفقودة، بل هي تقترب أكثر فأكثر من الحالة الذهنية للحرب : ” في الحرب تحس أنك خرجت من الحياة، ولم تدخل في الموت…
تتوقف الذاكرة ويصبح صعبا أن تستعيدها” تردد خيرات وهي تعمل على شد لوحة جديدة. حالة متقدمة نسبيا دفعت هذه الفنانة التشكيلية لعمل لوحة كل يوم ، لتحملها إلى الضاحية الجنوبية بغية عرضها في الهواء الطلق أو في العراء المثقل برائحة البارود، وهي لن تتوقف عند هذا الحد ، أو قل إن شمعون لم يعد يرغب بذلك، فبين لوحاتها ثمة لوحة مختلفة تحمل عنوان ” يا صبابين الشاي” ، ترى خيرات إنها نوع من فرض حالة اشتباك على الفيلم الجديد عن أسرار ولقى زهور القندول الجنوبية التي تتوالى تباعا، فهي سوف تلتقي خديجة حرز وكفاح التعمري بطلة فيلم جان شمعون “أرض النساء” ، وسيبحثون جميعا في الذاكرة الملغاة التي تحاول اسرائيل فرضها في سياق اللعبة المتداولة على الأرض.
خيرات الزين
خيرات ضمير تشكيلي في الفيلم يشهد على عمق الحالة التوثيقية التي أرادها شمعون لفيلمه ، فهي من ستوجه الكاميرا في بحثها في مصائر الشخصيات التي ” تسللت ” إلى الفيلم لالتؤدي دورها في الحياة ، فهذا ليس منوطا بها ، بل لتلعب دور الشخصيات المحدثة خصيصا لفيلم يبحث بين الأنقاض عن حالة متقدمة لذكريات جديدة عن الحرب ، سيظل يتردد صداها بقوة ، فليس هناك اغراء أكثر من البحث بين شخصيات الأفلام التي حققت في أوقات سابقة عن أرواح حرة وهائمة وقوية يمكن تقاسم الذكريات معها ، وهذا مافعله جان شمعون في (حنين الغوردل).