مسرحية “12 لبنانيا غاضبا” في فيلم وثائقي

لم يكن الفيلم الوثائقي لمسرحية “12 لبنانيا غاضبا” أقل أهمية من المسرحية عينها التي سجّلت نجاحات كثيرة، ونالت إعجاب النقاد والجمهور.
والفيلم نال جائزة «المهر العربي» عن أفضل فيلم وثائقي ضمن فعاليات مهرجان دبي السينمائي 2009. لكنّه كان قد عرض في لبنان للمرة الأولى في احتفال أقامته في قصر الأونيسكو ببيروت جمعية “كاثارسيس”  التي أسستها الفنانة اللبنانية زينة دكّاش واستقدمت من خلالها تقنية علاج السجناء بالدراما بأبعادها المختلفة.

عرض الفيلم في دبي

المسرحية..

سبق وأن نشرنا تقريرا عن هذه المسرحية المقتبسة عن رواية أميركية لريجينالد روس بعنوان “12 شخصا غاضبا”.  فقد أقامت دكاش تجربتها الأولى في علاج السجناء بالدراما في سجن رومية اللبناني، أحد أكبر سجون البلاد، تطبيقا لدراسة وتدريبات أجرتها في الولايات المتحدة الأميركية، وتطبيقا للتعاون مع تجربة إيطاليّة جرت ولا تزال جارية في سجن فولتيرا الإيطالي، فاقتبست من المسرحية وعنونتها “12 لبناني غاضب”.
استمر العمل على المسرحية في السجن زهاء سنتين قبل عرضها الأول، وقدّم السجناء أداء مسرحيا احترافيا، وظهروا من خلال أدائهم شخصيات متمايزة تدّلّ في المحصلّة على كل شيء إلاّ ارتكاب الجرائم، خصوصا منها الجرائم الكبيرة.
مثّلوا، ألّفوا الأغاني، لحّنوا، رقصوا، وناقشوا المسرحية تكرارا مع الزوار، وعندما عرضت، لم يجد كثيرون من الراغبين بحضورها المتكرّر مقاعد للجلوس.
أثبتت المسرحية صحة نظرية العلاج بالدراما بنسبة عالية، وهي تجربة تدعو لنظرة اجتماعية جديدة إزاء السجين بأنه قابل للإصلاح، جدير بالحياة، وأن ما ارتكبه يمكن أن يكون ناجما عن ظرف لم يكن له خيار في تكوينه.

من إحدى العروض المسرحية في سجن رومية

الفيلم..

تكمن أهمية المسرحية في الجماليات الفنية التي قدّمتها، وفي أنها إنجاز كبير لفئة من الناس يقصيها المجتمع. إنها ثمرة جاهزة للقطاف، وقطفت عروضا متتالية وناجحة.
لكن الفيلم الوثائقي لم يكن أقلّ أهمية في ما عرضه، لا بل إنّه أضاء جانبا هاما من العمل الدرامي المتكامل.
فعملية العلاج بالدراما تستند أساسا إلى فكرة التطهّر (الكاثارسيس) بالاعتراف. في العرض المسرحي، يجري الاعتراف مرة واحدة، أو مرة في كل عرض. لكن حقيقة العلاج تتم في التكرار اليومي للاعتراف، في كل وجبة تدريب على المسرحية، وعند كل خطوة تحضيرية لإنجاز المسرحية.
عملية العلاج، وما يصاحبها من مصاعب وعوائق، تجري في التدريب على المسرحية. وتزداد العوائق والصعوبات مع السجناء مقارنة مع بقية الممثلين أو الأشخاص العاديين، فالسجناء قد يعانون صعوبات شخصيّة، تضاف إليها صعوبات الحياة في سجن لبناني يفتقد للحدّ الأدنى من مقومات الإصلاح، ويراكم تجارب قاسية على رأس السجين تزيد على الأرجح معاناته، وتفاقم حالته.

أثناء تصوير الفيلم الوثائقي

أي أنه كان على المخرجة دكّاش أن تواجه صعوبات أكبر بكثير من مخرجين آخرين عملوا مع فنانين عاديين.
دور الفيلم الوثائقي “12 لبناني غاضب” وضع الإصبع على الجرح. غاص عميقا في معاناة العمل التطهري المطلوب من الدراما في هذا المجال. إنّه المكان الذي أضاء على التجربة من الداخل-التدريب والتحضير حيث جرى التطهر بالاعتراف- مقارنة مع الخارج الأقل أهمية والأكثر إبهارا- أي المسرحية.
وبالطبع، لم يعرض الفيلم كل اللحظات الطويلة التي واكبت التحضير للمسرحية في ورشة استغرقت مئات الأيام وآلاف الساعات. ومن البديهي أن يعرض أجزاء مما كان يجري خلال التدريب والتحضير.
ولكن بغضّ النظر عن ذلك كله، فقد شكّل الفيلم المختبر الحقيقي لعملية العلاج بالدراما، بركنين، الأول، التعاطف والتقرب من السجناء. وقد أبلت دكاش البلاء الحسن فكسبت ودهم، واحترامهم لها، خصوصا لما لمسوا فيها سعيا لتضميد جراحهم، 

والثاني، تعاملها معهم بصلابة يحتاجها العلاج، خاصة وأن المسرح بهدف إلى الانضباط وصولا للنهاية المرجوّة، حتى أن صاحب أكبر الأحكام القضائية لقبها “أبو علي” تعبيرا عن قساوة التجربة ومرارتها.  بدأ السجناء مستغربين التجربة، وبعد الانخراط فيها، كانوا كثيرا ما يعاندون، ويتعاركون، ويقاومون الصعوبات لأسباب مزاجية. لكنّهم مع تقدم التجربة، تغيّروا بالتدريج نحو النهاية، أي المسرحية.
الفيلم الوثائقي أثبت عبر تجربة “12 لبنانيا غاضبا” أنه الحقيقة القائمة خلف العمل المسرحي، وأنه الإضاءة الحقيقية، المريرة لمسيرة طويلة لا بدّ أن تستغرقها تجربة هادفة كتجربة العلاج بالدراما.


إعلان